ارتبط الشعر بالتصوف منذ الجاهلية وذلك لركوب بعض الشعراء الكبار لصفات التأله التي عرفوا بها من بين أقرانهم من الشعراء فقد كان زهير ابن أبي سلمى زاهدا في الحياة متبرمًا من ملذاتها وناكرا لرغباتها ومُغرياتها فتراه من خلال شعره ذلك الوقور المتأمل في عالم الوجود والمتسائل أمام قضاء الموت وقدره الذي يخبط خبط عشواء من يصبه يُمِتْهُ ومن يخطئه يُعمّر ويهرم، ونراه يُعلنُ عن سأمه من الحياة وتكاليفها لمّا تقدّمت به السِّنون ؛ لكن الشاعر الجاهلي المتألّه أُميّة بن أبي الصّلت كان أكثر عمقا واقتدارا على ربط الشعر بالوِجدان فجاء شعره مُفعما بالتساؤل والحيرة أمام مِحنة الإيمان والكُفر، وأضفى على شعره مِسحة من التصوف الوجودي ، لذا أورد الأصفهاني في أغانيه قصّة تعيد إلى الأذهان، وإلى الأبد ذلك الصراع الأبدي بين التسامي بالروح وهيامها بالملكوت أو التسفُّل بها إلى قاع الإكراه والدّنيئة . يقول صاحب كتاب الأغاني :" كان أُميّة بن أبي الصّلت قد نظر في الكتب وقرأها، ولبِسَ المُسوحَ تعبُّدًا، وكان مِمّنْ ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفيّة، وحرّم الخمرَ، وشكّ في الأوثان، وكان مُحقّقًا، والتمسَ الدّين" .. لكن ما يهمنا من حياة الشاعر أميّة بن أبي الصّلت هو ما رُوِيَ عنه عن الزُّهْريِّ قال: "دخل يومًا أُميّة بن أبي الصّلت على أُخته وهي تُهيِّء أَدَمًا لها فأدركه النّوم فنام على سرير في ناحية البيت، فانشقَّ جانبٌ من السّقْف في البيت،وإذا بطائرين قد وقع أحدُهما على صدره،ووقف الآخرُ مكانهُ،فشقَّ الواقِعُ صدْرهُ فأخرج قلبه فشقّهُ،فقال الطائر الواقفُ للطائر الذي على صدره: أَوَعَى؟؟؟ قال: وَعَى؛ قال: أَقْبِلْ؟ قال: أَبَى، قال: فردَّ قلبهُ في موضعه، فنهض فأتبعهما أُميّة طرفهُ فقال: لبّيْكُما لبّيْكما ها أنَذا لديْكُما هذه الواقعة التي خصّها الأصفهاني بالعديد من الصفحات في أغانيه تعيد إلى الأذهان حادثة شقّ صدر المصطفي محمّد صلّى الله عليه وسلّم أثناء مُقامه بديار بني سعْد... كما ستثير قضية سيكون لها شأن كبير في مدونات المتصوفة والشعراء وأعني بذلك استحضار الطيور بمختلف أصنافها وفي مقدَّمتها " طائر السيمرغ " الأُسطوري ... لقد كانت مثل هذه التجارب المُبكرة في الشعر العربي بمثابة التنبيه إلى صلة حميمة ستجمع في يوم ما بين طرفي الشعر الذي هو الشعور ، وبين التصوّف الذي هو التأمل في كينونة الأشياء . جاء في كتاب " نصوص غير منشورة "Recueil de texte inedites concernant l'histoire de la mystique au pay d'Islam الذي اعتنى بجمعه العلاّمة ماسنيون: "إنّ لفظ التصوف لم يكن معروفا لأنّ" السالكين لطريق الله في العصور السالفة والقرون الأُول لا يعرفون التصوّف ، وإنّما الصوفي لفظ اشتهر في القرن الثالث الهجري وأوّل من تسمّى ببغداد بهذا الاسم هو: عبدك الصوفي المولود عام 210 هجري الموافق 825 ميلادي وهو من كبار المشايخ وقدمائهم وكان قبل بِشْر الحافي والسريّ بن المُغلّس السقطي" ويظهر أنّ اعتماد الصوفية في بداياتهم كان ارتكازهم على معنى الحديث القُدسي الوارد ذكره في صحيح البخاري والذي يقول:" من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمُحاربة ، وما تقرّب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه ، ولا يزال عبدي يتقرّب إليَّ بالنّوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يُبصر، وبي يبطش، وبي يمشي(إرادة الله تتحرّك على الأرض)، ولئنْ سألني لأعْطِينّه، ولئنْ استعاذني لأعِذنَّه، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله تردُّدي عن قبض نفس عبدٍ مؤمنٍ يكره الموت وأكره مساءته ولا بدّ له منه" كما يعتمد المتصوفة على حديث ورد في نصوص تنسب إلى الحسن البصري في باب النيّة أبلغ من العمل قوله:" إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي جعلت نعيمه ولذّته في ذكري، فإذا جعلت نعيمه ولذّته في ذكري عشقني وعشقته، فإذا عشقني رفعتُ الحجاب فيما بيني وبينه،(تصبح دعوته مُستجابة) وصرتُ معْلمًا بين عينيه، لا يسهو إذا سها النّاس، أولئك كلامهم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال حقًّا ، وأولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقوبة وعذابا ذكرتهم فصرفت ذلك عنهم". إنّ مسيرة الشعر العربي كان عليها أن تتخطى مسيرة شاقة من أجل تخليص الشعر من بُعده البلاغي الذي يشده إلى الواقع ليصل في يوم ما إلى بُعده التجريبي الذي يتدحرج من خلاله إلى عالم خفيٍّ يحتاج إلى قراءتين : قراءة ظاهرية عقلانية وقراءة باطنية عِرفانية لذا وأنت تتصفّح على سبيل المثال ديوان الشيخ مُحي الدين بن عربي( 576ه - 632 ه) " تُرْجُمان الأشواق " يتهيّأ لك أنّك بصدد قراءة أشعار غزلية على لسان شاعر أنْهكته الصبابة والحب، يتذكر وَهَجَ الحبّ الذي أفنى كِيانه، فيصف الأشواق والمواجع التي ألمّت بقلبه الولهان وينْتظر لحظة الوِصال للظفر بالمحبوبة وغير ذلك من تباريح العُشّاق ... لكنّ الشاعر ابن عربي نظرًا لوعيه لِمَا يرْمي إليه شعره من أبعاد روحية وحسية وعِرْفانية أدرك أنّه من الضروري مُرافقة ديوانه بشرحٍ تنويري يكون بمثابه طريقٍ للسالكين في الوَهجِ الصوفي المُوزّع على خارطة ديوان " تُرْجُمان الأشواق "؛ من هناك يتبيّن لك بعد مُعاينة الشرح أنّ نصوص ديوان ابن عربي تعبّر عن تجربة روحية إلهية بعيدة الغوْر، المُحب والمعشوقُ فيها هو الذي لا تحدّهُ الأبصار ولا تُدركه العقول وليس كمثله شيء في الوجود لذا كان النص الصوفي له دِلالتان: دلالة ظاهرية وهي ذات المفهوم البلاغي العقلاني ودِلالة محْمولة تنِمُّ عن تجربة باطنية محمّلة بالإيحاء والمعاني الخفيّة وبالتالي يتوجّب على قارئ النصّ الصوفي أن يعتمد القراءة الاستكشافية المُستنبطة والمعروفة بالقراءة العِرْفانية أو بقراءة حال الاستواء المؤدية إلى فُيوضات النص الشعري الصوفي الذي لا تنتهي عجائبهُ كقول ابن عربي في هذا البيت الشعري البسيط ظاهريا : وانْدُباني بشعر قيس وليلى وبميًّ والمُبْتلى غيْلان فظاهر البيت معلوم الدلالة يطلب ابن عربي فيه أن يتمَّ البُكاء عليه بشعر العشّاق من أمثاله كشعر مجنون ليلى قيس بن المُلوّح الشاعر العذري المشهور بهُيامه بليلى ، وكذلك بشعر ذي الرمّة المعروف باسم غيلان المسكون بحبّ ميٍّ .. لكن القراءة الباطنية للبيت الصوفي تمنحنا دِلالات أخرى من عالم الحِسِّ والشهادة فدلاّلَ بقيس على الشِدّةِ ؛ لأنّ القيس الشِدّة في اللُّغة ، والقيس أيضًا الذّكر وليلى من اللّيل وهو زمن المِعراج والإسراء والتنزُّلات الإلهية من العرش الرحماني بالألطاف الخفيّة إلى السماء الأقرب من القلب الأشْوَق ، كما نبّه لميّ وهي الخرقاء التي لا تُحسنُ العمل ، ومن لم يُحسن العمل كان العامِلُ غيرُهُ" واللّه خلقكم وما تعلمون"؛ أيْ ما يظهر من بين أيديكم من أعمالٍ هي مخلوقة للّه تعالى. وغيلان هو الشاعر الأُموي ذو الرِمَّة؛ والرِمّة هو الحبل العتيق الذي طولبنا بالاستمساك به والاعتصام به " واعتصموا بحبل الله ..."ونسبته إلى القِدَمِ لأنّه حبل الله الأزلي، وذكر الغيلان لغةً هو شجر مُشوّك يتعلَّقُ بكلِّ من قَرَبَ منهُ، ويُمسكه عن أن يزول عنه حبًّا فيه وإيثارًا، وفي هذا الشجر من الرّاحة كونه مختصا بالفيافي التي لا نبات فيها والمُهْلِكة بقوّة حرِّها ورمْضائها، فليس فيها ظلٌّ لسالكٍ إلاّ هذه الشُجيْرات- شجرات أمّ غيلان – فيجدها في مقام السالكين بردًا سلاماً ورحمةً، فيُلقي عليها ثوبَهُ ويستظِلُّ بفيِّها ، وتُمْسكه بشوكها ولا تسمح للرّياح أن تكشفه للهاجرة ؛ فكذلك ما يجده السّالك من الألطاف الخفيّة الإلهيّة في مقام تجريد التّوحيد وتنزيه التقديس؛ فأوقع التشبيه بالمُناسب من هذا الوجه؛ ولهذا سألهُما أنْ يذْكُرا له هؤلاء الأشخاص من المُحبّين ليجمع بين حال المحبّة وعالم حقائق هؤلاء الشعراء لأنّهم كانوا مُحِبّين إلى حدِّ الاستواء في المقامات . أمّا عن حبّ ابن عربي الموزّع في ثنايا ديوانه " ترجُمان الأشواق" فهو يعود إلى استحضاره الدّائم إلى عشقه الأوّل المُستلهم من أرض الواقع والذي جعل منه دليل مِعراجه إلى السماوات العلا مثلما فعل دانتي اليجيري مع معشوقته ( Biatreche" بتاترتشي" ، في " الكوميديا الإلهية " وكذلك الفارس ذو الوجه الحزين بطل سُهوب قشتالة ولامنتشا " ميقال دي ثيرفانتس في رائعته " دون كيخوطي دي لا مانتشا" حيث كان دليل الكاتب في مسيرة العذابات " دولثنية ديلْ طوبوصو(Dulcinea del Toboso ). والمرأتان والمُتخيّلتان من استحضارهما هو البحث عن الدّليل لشقّ المسالك الوعرة التي تنتظر السالكين إلى المقامات العُلا ومراتب التجلي. أمّا الشيخ الأكبر مُحي الدّين بن عربي فقد ساقت الأقدار إلى طريقه وهو يدخل بلاد المشرق في سنة 1201 م متجها إلى مكة " فيستقبله فيها شيخ إيرانيٌّ وقور ... وفي أسرة هذا الشيخ يتعلّق قلب الشاعر ابن عربي بفتاة تُدعى " نظاما" وهي ابنة ذاك الشيخ ، وقد حَبَتْهَا السماء بمَوْفُورٍ من المحاسن الجسمية، ومَوْفورٍ من الميزات الروحية الفائقة التصوّر فاتّخذ منها ابن عربي رمزا ظاهريا للحكمة الربّانية الخالدة وأنشأ من فيوضاتها رموزا طفحت على صفحات قصائد تُرجُمانه من الأشواق الصوفية العِرفانية . إنّ ابن عربي يعترف بحبّه "للنظّام" ولكن حبّه لم يكن حبّا حسيّا، وإنّما كان حبًّا عُذريا خالصا، وأغلب الظنّ حسب رأي بعض المصادر إنّه لم يرها أكثر من مرّة بصحبة عمّتها المُسنّة التي كان يستمع إلى أدبها وحديثها،أو بصحبة والدها الذي كان يحضر مجالسه، ولكن رأى فيها ما رأى الدونكشوط في دُولثنيّة دي الطبوصو ، أو دانتي في بياتريتشي،صورة جميلة رائعة تتجلّى فيها صفات الجمال الحسي والمعنوي فاتّخذ من تلك الصورة الإنسانية الحسناء رمزا للجمال المُطلق الذي يتعشّقه ويعبده ويقدّسه، ويبُثّها حبّه وشوقه لا من كونها امرأة يُعشق جماَلُها الحسيِّ الفاني ، ولا من حيث هي موضع شهوة أو هوى ، بل من حيث هي صورة كاملة لذلك الجمال المطلق الذي يُنْشده الشاعر الصوفي الولهان .وحتّى لا نطيل الكلام مع ابن عربي الذي اندغم التصوف مع شعره إلى درجة الفناء الروحي بين الحبّ والمحبوب حتّى قال في أبياته المشهورة المعبّرة عن حالات قلبه الذي صار كما يقول : أدين بدين الحبِّ أنّى توجّهت ركائبهُ : فالحبُّ ديني وإيماني لقد كان قلبي قابلا كلَّ صورة فمرعى لغِزْلانٍ وديرٍ لرُهْبان وبيتٍ لأوثان وكعبة طائف وألْواح توراة ومُصْحف قرآن إنّ للقلب من تنوُّع الحالات ما ينطوي على صورٍ كثيرة فإذا صورت ما في القلب غزلانا، كان القلب مرعى لها، وإذا صورته رُهبانا كان القلب دِيرًا لهم، وإذا صوّرته أوثانا كان القلب بيتا لها، وإذا صورته أرواحا طائفة كان القلب كعبة لتطوافها، وإذا صورته آيات من التوراة كان القلب ألواحها، وإذا صورته آياتٍ قرآنية كان القلب مُصحف قرآنها، على أنّ هذه الصور على اختلافها لا تشير آخر الأمر إلاّ إلى شيء واحد بعينه هو " الحبّ" الذي يدين به الشاعر مهما كانت عواقبه؟ وإذا كان الحبّ دين الشاعر فعلى المُحبِّ أنْ يفنى في محبوبه كما فنى المُحِبُّون جميعًا من قبله ... لقد تأكد لدى العديد من نقاد الشعر أنّ هناك علاقة تماثلية وطيدة بين التجارب الشعرية عبر القرون والتجارب الصوفية؛ لأنّ الشاعر في آخر المطاف كالصوفي يهيم في إيقاع الكون ويتناغم مع الكائنات ويعيش تجاربه الروحية، ويبذل قُصارى جهده الإبداعي للتعبير عنها ومن هناك يكون نتاجهم الشعري لا ينفصل عن مسيرة تجاربهم الروحية والذوقية. إنّ الشعراء المتألّهين – من أمثال الحلاّج والنفّري وابن عربي وهولدرلين وريلكة وطاغور وثيزار فالييخو؛ والشعراء المُتصوفة في شتّى لغات العالم يرون الكون في أنفسهم كما يرون أنفسهم في الكون فينبثق شعرهم من هذه الرؤيا متخذين من الحلول موضوعا لأشعارهم العرفانية ومن هناك يزداد هيامهم بالجمال والفتنة والإغراء والسفر المستمر في مسالك الحيرة الصوفية التي ألهمت شعرهم بالبحث ... والبحث المستمر عن إدراك ما لا يُدرك والإحاطة بما لا يُحاط به في صيرورة الزمان والمكان والكون والإنسان ولذا قال الشاعر المعاصر صلاح عبد الصبور في كتابه " حياتي في الشعر" : إنّ التجربة الصوفية والتجربة الفنيّة تنبعان من منبع واحدٍ، وتلتقيان عند نفس الغاية؛ وهي العودة بالكون إلى صفائه وانسجامه" لأنّ الشاعر في الوجود هو عبارة عن روح مُتطلِّعة باستمرار إلى عالم الغيب والشهود بحثا عن التجلّي والكشف عن المستور وهو ما جعل الشاعر الصوفي قديما يقول أمام وُعورة المسالك " كلّما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة " ومن هنا انطلق بحث الشعراء المتصوفة عن لغة ليس كمثلها شيء ... لغة التجلّي ولغة الأحوال والمقامات بل " البحث عن أُفق لغوي رمزي إيحائي تتغلب فيه اللغة على عجزها ووضوحها المحدود وينتقل دورها من النّقل اللغوي إلى الخلق اللغوي وشتّان بين النّقل والخلق؟ ... إنّ اتّساع الرؤيا بمفهوم الشاعر المُتألّه عبد الجبّار النفّري( المتوفّى سنة 354 ه ) في كتابه " المواقف والمُخاطبات ) يُلجم اللّغة ويضعها في دائرة العجز ولذا تفطن شعراء الصوفية قبل غيرهم إلى الدّور الإيحائي في اللغة ( Connotation )أو الانزياحات التعبيرية المُفضية إلى التعدّد الدِّلالي للقصيدة . ولهذا كانت " مجالس الأسماع " الصوفية والتي لم تكن مجالس أذكار وأوراد فحسب بل كانت إلى جانب ذلك مجالس فنية يروّجُ فيها الشعر الصوفي وتُوطّدُ فيها العلاقة بين التصوف والشعر فتُنْشد القصائد الغزلية الروحية التي تُربّي الأذواق وترتقي بالنفوس إلى مقامات السالكين وإلى ما يُعرف بقصائد العشق الإلهي التي تهيم بعِظَمِ الجمال والجلال وهو نوع من الأشعار نجدها عند الحلاّج وابن الفارض وابن عربي والششتري ورابعة العدوية، ولدى شعراء الفرس من أمثال شهاب الدين السهروردي المقتول عام 587 ه في نصّه الصوفي الشهير " هياكل النّور" وجلال الدين الرومي ( 604 ه / 672 ه) في ديوانه " المثنوي " وديوانه في الغزل الصوفي " شمس تبريز "، والشاعر الصوفي سعدي شيراز (606 ه/ 690 ه)في كتابه " كلستان الذي يجمع بين النثر والشعر الصوفي الأنيق وكذلك ديوانه الممتع " بوستان" الذي استلهم من عنوانه الشاعر العراقي المعاصر البياتي ديوانه " بستان عائشة. مثل هذه التجارب الشعرية الغيبية العميقة مكنت الشعر من اقتحام عوالم التصّوف المشبوبة بالحب الإلهي أو المسكونة بثلاثية "التخلّي فالتحلّي فالتجلّي والتي يكون فيها الوقت الصوفي هو " الآن " وزمانهم هو " الحضور " ونتيجة الآن والحضور تفضي لديهم إلى هدْم " البُعد" وبالتالي تتحقق أمامهم لحظة القُرب الموعودة والمؤدية إلى التجلّي التي يتحقق فيها الاتصال الذوقي بمحيطه الكوني فيتّجه صوب باطن الحقائق التي تتعدّى الظاهر إلى ما وراء ذلك فتنوب الرؤية الذوقية عن الرؤية الحسية التي تخترق الحُجُب لتُشاهد ما دون اللّوح وما دون البُعد وتتطلع إلى ما توارى واختفى وراء ستر الستور وهي بذلك تخترق باطن الكون لتهتمّ بجوهره وإدراك حقائقه الخفية لأنّ الكون المستتر لدى الشاعر الصوفي هو البديل الأمثل لتجاوز أشكال النظر العقلي المُسيّج بأطوار الحُجُبِ الحِسيّة . إنّ الشاعر والصوفي والعلاقة التماثلية التي تربط بينهما تضعهما في خانة البحث عن سرِّ المُطلق ؛ فالصوفي مركوز في جِبلّته التفاني في حبّ الله وبالتالي حبّ ما لا يُدرك وهمّه الأقصى تخطي درجات البُعْد للحلول بمدارج القُرب، وأمّا الشاعر المُبدع والفنّان الأنقى فإنّه مجبول بدوره على التطلّع إلى الكمال الأرقى والجمال الأبهر وهو في تجربته كائن روحي ينعم بلطائف الكون بواسطة رؤيته الفنّية النّافذة شأنه في هذا الإطار شأن الصوفي النّافذ ببصيرته الروحية ؛ فنظرة الصوفي تدفع به ليكون مجنون الله من خلال مواقفه النورانية في الكون ونظرة الشاعر المبدع تدفع به ليكون مجنون الشهوة والغِبطة بلطائف الكون وهو ما يدفع به إلى توليد وظيفة صوفية للغته الشعرية حتّى تكون في مقام الاستواء المنشود، وهي لغة مُدْغمة مُمْعنة في الغُموض لا تستسلم دِلالاتُها لمن لم يُحْسن التوغُّلَ في مُعادلها الرُّوحي لأنّها لغة متّصلة اتّصالا وثيقا بالتجربة الذوقية؛ وفي آخر الطريق – الشاعر والمتصوّف - كلاهما مسكون بالبحث عن كينونة المُطلق . يقول الحلاّج : عليْكِ يا نفْسُ بالتّسلي فالعِزُّ بالزُّهد والتخلّي عليكِ بالطلْعة التي مِشكاتها الكشفُ والتجلّي إنّ اللغة لدى المتصوّفة هي أداة تعبيرية غير مُحايدة ، فهي لغة تتحدّى المُتّفق عليه في القواميس أو المُتواضع عليه في الاستعمال المتواتر في أعْراف النّاس وفي العادات والتقاليد، إنّها لغة تجربة روحية وثمرة من ثمار معاناة السفر والبحث المُضني في غياهب الروح المظلمة والتي جعلت الشاعر الإسباني المتأله San Juan de la Cruz ، يوحنّى الصليبي ( 1542 – 1591 ) يكتب قصيدته الخالدة " La noche oscura del alma" (ليلة الرّوح المُظلمة ) المُعبّرة بجدارة واقتدار عن البحث المُضني عن اللحظة الهاربة وراء بُعد البُعد وقُرب القُرب والتحلّي والتجلّي . لهذا قال آخر المتصوفة عبد الكريم الجيلي المتوفي ببغداد عام1428 في كتابه " الانسان الكامل" رُوي عن مجنون ليلى أنّها مرّت به ذات يوم فدعته إليها لتحدّثه، فقال لها: دعيني فإنّي مشغول بليلى عنك... وهذا آخر مقامات الوصول .. لا يبقى عاشق ولا معشوق ولا يبقى إلاّ العشق وحده وعشق الذّات المحض . 4 - الكتاب التذكاري مُحي الدين بن عربي ...صفحة :103 . 5 - صلاح عبد الصبور : حياتي في الشعر، نشر دار إقرأ، بيروت سنة 1983 ، ص:165 .