الأنثروبولوجيا ليست علما غريبا و لا غنى عنها في دراسة الشعوب في وهذا الحوار، يتحدث الباحث والكاتب الدكتور موسى معيرش، عن الأنثروبولوجيا ومفهومها وإشكالاتها وحقيقتها وأهميتها، وعن علاقتها بالإنسان وعِلم الاجتماع. كما يتطرق لإشكالات التسمية، وعن أمور أخرى ذات صلة بهذا العِلم الذي بدأت رقعته تتسع بين العلوم. تجدر الإشارة، إلى أنّ الدكتور موسى معيرش، يعمل أستاذا برتبة بروفيسور في جامعة قسنطينة، كما شغل عِدة مناصب، منها: رئيس مجلس علمي، خبير في الندوة الجهوية لجامعات الشرق، عضو اللجنة البيداغوجية الوطنية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، رئيس مشروع دكتوراه فلسفة الأديان، رئيس عِدة مشاريع بحث وطنية ودولية، نائب عميد مُكلف بالدراسات العليا والبحث العلمي والعلاقات الخارجية. كما أشرف على عشرات الرسائل: ليسانس وماستر، ماجستير ودكتوراه، في عدة جامعات جزائرية. حاورته/ نوّارة لحرش له العديد من الإصدارات، ومن مؤلفاته التي صدرت داخل الجزائر وخارجها: "الفكر الإسلامي في المغرب العربي"، "المعرفة والبحث العلمي"، "قضايا الفلسفة العامة"، "النظام السياسي في اليهودية والإسلام"، "نظام الحكم في اليهودية"، "الُجدل الديني والسياسي في اليهودية والإسلام بين المقدس والمدنس"، "فلسفة القيم: مفهومها/طبيعتها"، "تصنيف القيم بين الدين والفلسفة"، "القيم في الفلسفة الشرقية إشكاليات وأعلام"، "فلسفة الفلسفة"، "المدينة الفاضلة عند أبي الأعلى المودودي". زيادة على مشاركته في تأليف عِدة كُتب جماعية، ونشر العديد من المقالات في مجلات محكمة داخل وخارج الجزائر، وفي الصحف الوطنية. وعن قريب سيصدر له كتاب "مدخل في الأنثروبولوجيا"، وهو كتاب يحاول أن يغوص في مفهوم وإشكالات ومقاربات عِلم الأنثروبولوجيا. لك اهتمامات ودراسات كثيرة في علوم الأنثروبولوجيا، وعن قريب سيصدر لك كتاب «مدخل في الأنثروبولوجيا». فماذا تقول في هذا الشأن؟ موسى معيرش: تعتبر الأنثروبولوجيا من أواخر العلوم التي ظهرت سواء في مجال العلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعية، إلاّ أنّ الاهتمام بالإنسان تاريخيا ممتد في الماضي السحيق. وهي كما يقول البعض عِلمٌ حديث النشأة، إلاّ أن موضوعاته قديمة، ذلك أنّ الحديث عن ثقافة الإنسان وطبيعته وخصائصه، وحتى تصل إلى مكانتها الحالية، فقد مرت بمراحل وخطوات هامة في مختلف العصور والأمصار، حتى وصلت إلى مرحلتها الحالية. رغم أنّها ليست العلم الوحيد الذي اهتم بالإنسان، ومع هذا فقد انفردت بجوانب من موضوعها، كما أنّها استفادت من الدراسات التي قدمتها العلوم الأخرى، في الماضي والحاضر. وهذا العِلم لم يكتسب خصوصيته إلاّ بعد أن ظهر المنهج العلمي، وخطى لنفسه، مناهج أو طرق خاصة للبحث فيه. يعتقد البعض بأنّ الأنثروبولوجيا أولا وأخيرا عِلما غربيا. إلاّ أنّ هذا الزعم سرعان ما بدأ يتلاشى فقد ظهرت الدراسات والأبحاث الجديدة مؤكدة على إسهامات المسلمين بشكل خاص في هذا الأمر، وأنّه مثل بقية العلوم سلاح ذو حدين، يُستخدم لصالح الإنسان إذا حسنت النوايا، ولغير صالحه إذا ما فسدت. وتبقى الأنثروبولوجيا كما هو معروف تهتم عادة بدراسة ثقافة الشعوب، ونستطيع القول، أن الأنثروبولوجيا عِلمًا بالغ الأهمية، وأنّ مناهج البحث فيه تتعدد بتعدّد طبيعة الدراسة. ولما كان من الصعب أن نفصل مفهوم الأنثروبولوجيا عن موضوعها، لاسيما أنّ بعض العلوم بينها تقارب وتداخل، يجعلنا نعزو الاختلافات التي تميزها إلى الموضوعات التي تتصدى للبحث فيها. هناك التباس حول الأنثروبولوجيا، ومفهومها والتسمية، ماذا تقول بهذا الخصوص وكيف هي علاقتها بالعلوم الأخرى؟ موسى معيرش: لا نأتي بجديد إذا قلنا إنّ إشكالية التسمية إحدى الإشكاليات الأساسية التي يثيرها العلماء والباحثون في العديد من المواضع، وهذا ما يجعل منها ظاهرة تكاد تثير الانتباه بشكل عام. وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى مؤرخي الفلسفة الإسلامية، الذين نجدهم يطرحون العديد من علامات الاستفهام حول هذه الفلسفة، فهل هي فلسفة إسلامية؟ أم أنّها فلسفة عربية؟ أم تجمع بين كونها فلسفة عربية وإسلامية في الوقت نفسه؟ وكذلك كان الأمر بالنسبة للفلسفة الأوروبية في العصور الوسطى، إذ يتساءل المهتمون بها حول ما إذا كانت فلسفة مسيحية أم مدرسية؟ لاهوتا أم فلسفة؟ أم أنّها لا هذه ولا تلك. ولم تشذ الأنثروبولوجيا عن هذا الأمر، فقد برز الخلاف بين المهتمين بهذا العِلم الجديد الناشئ مُبكرا فيما يتعلق بمجال تسميته، فبين من يقول إنّها أنثروبولوجيا، ومن يقول أنّها إثنولوجيا، ومن يحصر الأنثروبولوجيا في جانبها الثقافي أو الاجتماعي؟ وإذا كانت هذه الاختلافات عادة ما تكون نتيجة لأسباب حقيقية واعية، الخفي منها أكثر من البيّن. الأنثروبولوجيا في نظر الأنثروبولوجيين، تتعدّد وتختلف، هل هذا التعدّد والاختلاف في صالح هذا العِلم؟ موسى معيرش: قديما قالت العرب أهل مكة أدرى بشعابها، إذ لا يعقل أن يعرف من جاء من بلاد الشام أو من الجزائر هذه الشعاب أفضل من أولئك الّذين ولدوا وترعرعوا بين شعاب ووديان وأزقة مكة. وكذلك الحال مع المهتمين بالأنثروبولوجيا بعامة والانثروبولوجيين بخاصة، إذ أنّهم دون شك أقرب الناس إلى هذا العِلم، مِمَا يجعلنا نعطي لما يقولونه في هذا المجال المقام الأوّل، لدرجة أنّ البعض جعل ما يقوم به الأنثروبولوجيون هو الأنثروبولوجيا في حد ذاتها، وأنّه ليس هناك أفضل من النظر في ما يقوم به هؤلاء إذا ما رغبنا في تقديم تعريف دقيق للأنثروبولوجيا. ويحضرنا في هذا المقام تعريف الفيلسوف الرشّدي اللاتيني "سيجر دي باربان" للفلسفة، عندما تناقضت الآراء وتعدّدت حول هذا الموضوع، حيث اعتبر أنّ الفلسفة هي ما قاله الفيلسوف وعمله، وهو يقصد بهذا الفيلسوف أرسطو. وبالتالي فإنّه من المفيد أن نعود إلى تعريف هؤلاء، بغية الاقتراب أكثر من هذا العِلم، وفي هذا السياق تقول العالمة الأنثروبولوجية الأمريكية "مرغريت ميد": "نحن نُصنف الخصائص الإنسانية، البيولوجيا، والثقافية للنوع البشري، عبر الأزمان وفي سائر الأماكن، ونُحلل الصفات البيولوجية والثقافية المحلية، كأنساق مترابطة، ومتغيرة، وذلك عن طريق نماذج ومقاييس ومناهج متطورة، كما نهتم بوصف وتحليل النُظم الاجتماعية والتكنولوجيا، ونعني أيضا ببحث الإدراك العقلي للإنسان، وابتكاراته ومعتقداته، ووسائل اتصالاته، وبصفة عامة، فنحن الأنثروبولوجيين نسعى لربط وتفسير نتائج دراساتنا في إطار نظرية التطوّر أو مفهوم الوحدة النفسية المشتركة بين البشر. إنّ التخصصات الأنثروبولوجية التي قد تتضارب مع بعضها، هي في ذاتها مبعث الحركة والتطوّر في هذا العِلم الجديد، وهي التي تثير الانتباه، وتعمل على الإبداع والتجديد، هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ جزءا لا بأس به من عمل الأنثروبولوجيين يُوجه نحو القضايا العملية في مجالات الصحة والإدارة والتنمية الاقتصادية ومجالات الحياة الأخرى". كأنّ الإجماع في عِلم الانثروبولوجيا، هو دراسة الإنسان، أكثر وأعمق، هل هذا صحيح؟ موسى معيرش: صحيح، الشيء المشترك الّذي رأيناه هو الإجماع على دراسة الإنسان، وهذا ما اتضح لنا من قبل عندما بحثنا في المعنى الاصطلاحي للفظ، ونضيف هنا ما قاله "عاطف وصفي" من أنّ الإنسان هو الإطار الوحيد الّذي يحدّد الموضوعات التي يدرسها هذا العِلم، وهذا ما يبرزه في كتابه "الأنثروبولوجيا الاجتماعية" بقوله: "بمعنى أنّ هذا العِلم يدرس الإنسان وأجداده وأصوله منذ أقدم العصور والأزمنة حتى يومنا هذا، فهو يدرس الإنسان في كلّ مكان وهكذا لا يتقيد هذا العِلم بفترات الزمان أو بحواجز المكان، ولكنّه يتقيد ببحث واحد لا يخرج عنه وهو الإنسان، ولكن الإنسان، موضوع واسع جدا، ويجب تحديد هذا الموضوع بصورة أضيق حتى تستطيع تميّز هذا العِلم عن العِلوم الأخرى التي تدرس الإنسان، يهتم هذا العِلم بالجنس البشري، فيدرس أجسام أفراده ومجتمعاتهم ووسائل الاتصال فيما بينهم وكلّ ما ينتجونه سواء أكان مادة أو علاقة اجتماعية أو فكرة، وقد اهتم الأنثروبولوجيون الأوائل بدراسة مظاهر الحياة الاجتماعية للمجتمعات البدائية، إذ اجتذبتهم غرابة تلك المجتمعات واختلافها عن المجتمعات الأخرى بخاصة المجتمعات الأوربية". هذا يعني أنّ الأنثروبولوجيا ليست علما حديثا، وأنّ علاقتها بالعلوم الأخرى متداخلة وقديمة وأنّ موضوعها لا يخرج عن الإنسان؟ موسى معيرش: موضوع الأنثروبولوجيا، لا يخرج عن دائرة الإنسان، كما أشرنا أيضا إلى أنّ هذا الأخير كان موضوعا لدراسات العديد من العلوم الأخرى، مِمَا يجعلنا نستغرب حينما نسمع قول البعض أنّ الأنثروبولوجيا عِلما حديثا، في حين أنّ الاهتمام بالإنسان كان موغلا في القدم. لما كانت كثير من العلوم تجعل من الإنسان موضوع دراستها، وسواء أتعلق الأمر بالعلوم الإنسانية أو الطبيعية، وكانت الأنثروبولوجيا كما رأينا سابقا تعرف بأنّها عِلم الإنسان فإنّه من الضروري أن نعرض لهذه العلوم أو بالأحرى الزوايا والكيفيات التي تنظر بها للإنسان لنرى إذا ما كانت تكرر بعضها البعض أم أنّ لكلّ منها ما يميزه عن غيره، ومنه نصل إلى نظرة الأنثروبولوجية للإنسان وإذا ما كان موضوعها الأساسي كما يدل عليه المصطلح اللغوي أم أنّ الأمر يتعدى ذلك؟.الملاحظ أيضا أنّ هناك علاقة ثلاثية قائمة بين الإنسان والأنثروبولوجية وعِلم الاجتماع، كيف ترى هذه العلاقة المتداخلة والمتقاربة في آن؟ موسى معيرش: إذا عدنا لعِلم الاجتماع نجد أنّ اهتمامه بالثقافة كان مبكرا، بمعنى منذ البدايات الأولى لنشأة هذا العِلم، وكذلك كان الحال مع الأنثروبولوجيا، كما أنّ التعاون بينهما في مجالات الأبحاث والدراسات ما يزال قائما، إن لم نقل أنّه يتدعم من يوم إلى آخر، مِمَا يجعل إمكانية استغناء أحد العلمين عن الآخر ضربٌ من الخيال. على الأقل في الوقت الحالي، إن لم نقل حتى في الوقت المنظور. وفي هذا السياق نجد أنّ عالم الاجتماع يعود إلى البحوث التي يقدمها الأنثروبولوجي، وهو ما يقوم به هذا الأخير أيضا بعودته الدائمة إلى ما يقدمه السوسيولوجي. حيث يجد في المادة التي يقدمها السوسيولوجيون مرجعًا رئيسيًا. إلاّ أنّ هذا التداخل والتقارب، لا يسمح لنا بالقول أكثر مِمَا قلنا، فهما ليسا عِلما واحدا وإنّما علمين مختلفين، سواء أتعلق الأمر بالجانب المنهجي، أو بالجانب المتعلق بالموضوعات التي يهتم بها كلّ منهما. فإذا حاولنا أن نفصل في ما يتعلق بموضوع كلّ منهما، نجد أنّ الأنثروبولوجيا لا تهتم بموضوعات محدّدة، بينما نجد عالم الاجتماع يهتم بالتعامل مع مجتمعات محدّدة، فضلا على أنّ هذا الأخير يقتصر في دراسته على المجتمعات المعاصرة فحسب، معتمدا على الدراسة الجزئية للأنساق الاجتماعية، فهو بهذا المعنى يقوم بدراسة كلّ نسق اجتماعي بصفة منعزلة عن بقية الأنساق الأخرى. فإذا ما أخذنا مثلا دراسة ظاهرة الانتحار، فإنّ السوسيولوجي يدرسها بمعزل عن غيرها من الظواهر الأخرى. على العكس من ذلك نجد الأنثروبولوجيا تهتم بدراسة الإنسان في مختلف عصوره، كما أنّها تهتم بالدراسات الكلية للظاهرة التي تهتم بها. وهذا ما يوضحه "حسن الغامري" بقوله: "ويختص عالم الاجتماع بدراسة المجتمعات المعاصرة، وتَدرس الأنثروبولوجيا المجتمع ككل، أي أنّها تستخدم النظرية الكلية holism، بينّما يَدرس عالم الاجتماع كلّ نسق من أنساق المجتمع على حِدة، ويعتمد في دراسته على إجراء المسح الاجتماعي وتطبيق الاستبيان واختيار العينات والمعالجة الإحصائية في دراسة الظواهر الاجتماعية، للكشف عن العلاقات بين متغيرات محدّدة مثل الطلاق ومستوى الدخل ومستوى التعليم، ولذلك فهو يَدرس بعض المشكلات منفصلة وقائمة بذاتها، بينما يَدرس الأنثروبولوجي المجتمع ككلّ من خلال إجراء دراسات عميقة تعتمد على الملاحظة والمعايشة لمجتمع الدراسة، كما يقوم بإجراء مقارنات بين الثقافات المختلفة للتعرف على جوانب الاتفاق والاختلاف في بعض مناحي الحياة الاجتماعية". وماذا عن مناهج البحث في الأنثروبولوجيا؟ موسى معيرش: تتنوّع عادة العلوم الاجتماعية في موضوعاتها وتكاد تتشابه في المناهج التي تستخدمها إلى درجة التطابق ومع هذا تختلف إلى درجة التناقض فيما يتعلق بالزاوية التي تنظر بها إلى الموضوع مِمَا يبرر وجود وخصوصية كلّ عِلم من علومها وأهميته وأساليب البحث فيه. وفي هذا الإطار يقول «عاطف صدقي»: «رغم هذا التشابه في مناهج العلوم الاجتماعية يستخدم كلّ منها طرق بحث مختلفة تتفق مع طريقة الظواهر الاجتماعية التي تتخصص في دراستها. وهكذا نلاحظ أنّه بينّما تتفق العلوم الاجتماعية في الموضوع وهو الحياة الاجتماعية فإنّها أيضا تتفق في المنهج المستخدم في ذلك الموضوع، أي أنّه المنهج العلمي، ولكن الاتفاق يتحوّل إلى اختلافات عند الانتقال من المفهوم العام للمنهج إلى المفاهيم المتخصصة أو الفرعية، فنجد أنّ العلوم الاجتماعية تختلف في الموضوعات الفرعية التي يستخدمها كلّ عِلم اجتماعي، وكذلك تختلف طُرق البحث التي يستخدمها كلّ عِلم، ولكن يجب ملاحظة أنّ هذا الاختلاف ليس معناه الفصل أو العزل بين الموضوعات المُتخصصة وطُرق البحث الخاصة بكلّ عِلم اجتماعي وإنّما هو اختلاف يسمح بالتعاون والتكرار والتداخل». وهذا ما يؤكد أنّ الأنثروبولوجيا اكتسبت أهميتها بعد استخدامها للمنهج العلمي.