يعتبر الباحث الجزائري جمال مفرج من اكبر الباحثين العرب المختصين في فلسفة نيتشه، و يظهر ذلك جليا سواء في أطروحاته الأكاديمية أو في دراساته وأبحاثه المختلفة، وهي الأبحاث و الدراسات التي تتمحور بشكل مباشر أو غير مباشر حول فلسفة نيتشه و منها:نيتشه الفيلسوف الثائر و الإرادة و التأويل :تغلغل النيتشوية في الفكر العربي و المعرفة والقوة نحو طريقة علمية للهيمنة و الفلسفة الغربية من المكاسب إلي الإخفاقات· وذلك وعيا منه بأهمية و جذرية فلسفة نيتشه و أهمية متنه الفلسفي، وقدرته علي التأسيس للتيارات الفلسفية التي توصف بأنها حداثية ،من مثل الاستذكار عند هيدغر و التفكيك عند دريدا و الحفريات عند فوكو و التأويلية عند ريكور ،لأن هذه التيارات الفلسفية تلتقي في فكرة رفض التأصيل أو القول باستحالة التأصيل حسب تعبير محمد أركون لأن كل عملية تأصيل هي عملية تاريخية و يعود السبق لنيتشه في منهجه الجينيالوجي لترسيخ هذه الفكرة من خلال نقده للأخلاق و الدين والميتافيزيقا و العلم و العقل لأنها ترتبط بفكرة الأصل · و يذهب الباحث جمال مفرج إلي أن المفكرين العرب رغم اكتشافهم لشخصية نيتشه الفلسفية مبكرا نوعا ما كما هو الحال مع سلامة موسي ، و فرح أنطوان ، و عبد الرحمان بدوي و فؤاد زكريا و حسن حنفي و هشام شرابي و ذلك على مدار القرن الماضي، إلا أنه لا توجد دراسة عربية اهتمت بالمنهج الجينيالوجي،وهو المنهج الذي يضع موضع الشك والنقد كل المسائل التي يعالجها،ويحدد موضوعه-أي المنهج الجينيالوجي-بأنه هو البحث عن الأصل،فهو أساسا منهج تاريخي،وهو منهج يقترن من جهة بالفيلولوجيا أو فقه اللغة لأنه ينظر إلى الظاهرة التي يدرسها كنص يجب التعرف عليه،أي يطرح مشكلة معنى الظاهرة،ويقترن من جهة أخرى بالجينيالوجيا التي تطرح قيمة المعنى من خلال البحث عن أصل الظاهرة·لأنه بالنسبة لنيتشه لا توجد وقائع وإنما توجد سلسلة لا متناهية من التأويلات المختلفة التي تتعاقب عليها،أو هو تاريخ تعدد المعاني واختلافها·وعليه فان نيتشه لا يهتم بالبحث في جواهر الأشياء وماهيتها وإنما يهمه معرفة الكيفية التي تسمى بها،كما أن المعنى الظاهر قد يكون هو المعنى الهش الذي يغطي خلفه معنى خفيا،وهذا المعنى هو المطلوب اكتشافه ومعرفة لأية غاية تجري عملية تنكيره،وكان نيتشه يحلم بفيلولوجيا جديدة،لا يهمها ما تقوله الكلمات،وإنما تهتم بالذي يملك سلطة الكلام وبالقوى التي تتصارع في اللغة ومن خلالها القوى التي تمتلك سلطة التأويل فاللغة عند نيتشه هي مسرح لاستراتيجيات الهيمنة ومستودع بالتعريف بالكذب· أما عن مراحل المنهج الجينيالوجي عند نيتشه حسب الباحث جمال مفرج:فهي المرحلة الأولى:وفيها يتم تصنيف القيم والعادات والأحكام الأخلاقية التي صدرت في الماضي عند مختلف الشعوب ليس وفق نظرة خطية تاريخية جوهرا نية،تعزل الذوات والماهيات عن الوقائع بل أن التاريخ الجينيالوجي يهدف إلى كشف كل الحيل وأنماط التنكير التي تشوه الأحداث· المرحلة الثانية: يهتم الجينيالوجي برد الأشياء والقيم إلى القوى المتحكمة بها،أي ربط المفهوم بالإرادة التي لا يمكن تصوره بدونها،لأن الميل إلى المعرفة هو نزوع إلى السيطرة،فإذا نظرنا إلى شيء ما،فانه يجب البحث عن القوى التي تستحوذ عليه والقوى التي تعبر عن نفسها فيه،وتتخفى فيه في الوقت نفسه،فمع نيتشه ومن بعده فوكولم تعد المعرفة بريئة أو مستقلة عن أغراض وأهداف السلطة،بل بالعكس أصبحت جزءا من السياسة العامة للسلطة· المرحلة الثالثة: لا تهتم الجينيالوجيا بمعرفة القوى التي تتحكم بالظاهرة،وإنما تعمل على تقويم هذه الأشياء والقيم وتقدير قيمة الأصل،لأن مهمة الجينيالوجيا هي مهمة نقدية بالأساس،وذلك ما عبر عنه نيتشه في كتابه إنساني،إنساني جدا بأن التفاضل أو التراتب هو قضيتنه الأساسية· وعليه فان الجينيالوجيا مهمتها بالدرجة الأولى الإرادة التي تقبع خلف الكلمات وخلف اللغة،أي حديث القوى الفاعلة التي تتنكر خلف المعنى الظاهر للكلمات،ولذلك يركز نيتشه كثيرا على معرفة الكيفية التي تسمى بها الأشياء،أي إرادة التسمية والتوصيف وما يترتب عن ذلك هو أن الأصل،أو الأصول بما هي ماهيات وجواهر،وحقائق تقدم على أنها متعالية وغير تاريخية،لم تعد تحظ في الجينيالوجيا بأهمية كبيرة لأن التاريخ الجينيالوجي يعلمنا الاستخفاف بالحفاوة التي يحظى بها الأصل،أو أن الجينيالوجيا حسب فوكو ليست فائضا في النمو الميتافيزيقي· ويبدي الباحث جمال مفرج روحا نقدية كبيرة في دراسته ل نيتشه عكس الكثير من القارئين لنيتشه الذين تأسرهم فلسفته ولا يستطيعون التحلل منها ويكررون أطروحاته بشكل سمج،فنجد جمال مفرج يبرز ما يسميه النتائج الخطيرة التي ترتبت عن النقد الجينيالوجي في الدين والأخلاق والسياسة والعلم والفن، فالأخلاق يردها نيتشه إلى الغرائز وعلى رأسها غريزة السيطرة وإرادة القوة،ويرفض أن يكون مصدرها الدين أوالعقل،وما يترتب عن هذا هو نسبية الأخلاق،والدين يرده إلى التاريخ،ويرى أن اللاهوت أو التيولوجيا هو عبارة عن أنتروبولوجيا مقنعة،وعليه فالإله صنيعة بشرية وأنه من صنع الضعفاء ليكبلوا الأقوياء،كما أن الفلسفة أرجعها إلى الدين،وأن الميتافيزيقا وما تتضمنه من أفكار كالجوهر والذات والعالم الحقيقي هي أخطاء ناتجة عن كراهية الفلاسفة للصيرورة والتغير·كما أن المعرفة والعلم والفن حسب نيتشه قضايا لا تقوم على الحقيقة وإنما على الحاجة والمصلحة،وأن الإنسانية تفضل الوهم على الحقيقة حتى تستطيع احتمال الوجود·وكل هذا بالنسبة للباحث جمال مفرج نتائج خطيرة تتعارض مع أصول الثقافة العربية الإسلامية ولا يقف نقد جمال مفرج عند المنهج الجينيالوجي وانما يتعداه إلى نقد ما قدمه نيتشه من نقد لكانط،ذلك أن نيتشه يعترض على مواطنه كانط بالدعوة إلى جمال باخوسي حيواني،لأن نيتشه يؤمن باله اليونانديونيزوس Dionysos لأنه الإله الذي يرقص،في نظر نيتشه ليس الإله المسيحي واليهودي الذي يفتدي بآلامه الذنب والعذاب،بل اله السكر والنشوة·كما يعترض نيتشه على الإنسان المتمدن بالدعوة إلى الإنسان المتوحش،ويعترض على السلم بالدعوة إلى الحرب،ويعلق الباحث على ذلك بقوله:إن نيتشه مخطئ كثيرا فيما يدلي به،والحقيقة أن اعتراضاته على كانط لا تتقدم بنا إلى الأمام بل تعود بنا القهقرى،لأن الإطاحة بكانط كانت تتطلب في نظره الظلم الاجتماعي ،ورد الاعتبار إلى العبودية،ومواجهة الله،وهي كلها مطالب تزيد من شقاء الإنسان وتدفعه إلى الوقوف في أنواع لا تحصى من الانحراف· كما أن الباحث جمال مفرج يقف أيضا موقفا نقديا من الباحثين العرب الذين اهتموا بفلسفة نيتشه بداية بفرح أنطوان ومرورا بسلامة موسى وعبد الرحمان بدوي،والذين حاولوا الترويج لها في الثقافة العربية الإسلامية فيقول كان الظاهر من الترحيب بنيتشه اتخاذ أفكاره دافعا ومادة وأداة من أجل الخروج من التخلف أما الباطن فكان استعمال أفكاره من أجل أن يشن حملة على القواعد الإسلامية والمعطيات الدينية،ليس بغية إصلاحها،بل لنبذها نهائيا من أجل إحلال الثقافة الغربية محلها و هذا يعنيان السبب الرئيسي الذي دفع مفكري الانحطاط التغريبيين إلى الاهتمام بنيتشه وإقحامه في المعركة التي كانوا يقودونها ضد الأمة العربية الإسلامية باسم التقدموهو على وجه التحديد ،تدعيم الحضور الثقافي الأوروبي أي تدعيم المشروع التغريبي الاستعماري· ولكن ألسنا بحاجة إلى قراءة الثقافة العربية قراءة جينيالوجية أو تاريخية،ثم ألا يمكن أن نجد في نقد نيتشه للعقل والقيم والدين في الفكر الغربي في القرن التاسع عشر في أوروبا ما يعيننا بشكل أو بآخر من ممارسة النقد بدورنا على مثل هذه العناصر في ثقافتنا بغية تحويلها من عناصر مسؤولةعلى الارتكاس والانحطاط إلى عناصر مبدعة بناءة تنشد التغيير الايجابي؟ ،وبصيغة أخرى ألسنا في حاجة إلى عقل جبار يعيد تشكيل الكثير من عناصر الهوية والثقافة العربية الإسلامية،ويخلصها من تكلسها ومواتها المميت؟ والى أي حد ساهمت بعض القراءات التي تستلهم المنهج الجينيالوجي كما هو الحال عند علي حرب،ومحمد أركون،ونصر حامد أبو زيد،ومطاع صفدي في فتح آفاق جديدة أمام التراث العربي الإسلامي،وتحرير الذات من استغلاقاتها المزمنة ؟وكيف يمكن التوقف عن النظر إلى الميراث النيتشوي على أنه تدعيم للحضور الثقافي الأوروبي،وتدعيم المشروع التغريبي الاستعماري و الغزو الثقافي ،وإنما التعامل معه على أنه تراث إنساني،يمكن الانفتاح عليه والاستفادة منه وإعادة تبيئته مع الراهن الثقافي العربي،بحس نقدي يحقق الإبداع والتجاوز ويجعلنا نتحول من موقع الاستعمال إلي موقع الاصطناع ·