كيف هو واقع الثنائية السردية الفنية بين الرواية والمسرح. أي علاقة وأي أفق بينهما. هل اِستفادت الرواية الجزائرية من المسرح والركح، هل حاول المسرح الجزائري أن يُقارب ويُقرب النّص الروائي المُتخيل إلى/ ومن النّص البصري المتحرك بالمشاهد والتفاصيل والحياة الحركية على الركح؟ ومن جانب آخر هل خدمت الرواية المسرح، وهل بإمكان الفضاء الورقي أن يضفي سحره على الفضاء الركحي، استطلاع/ نوّارة لحرش وهل بإمكان هذا الأخير أن ينثر بريقه على المتون الروائية ويمسرحها كما يليق بها وبعوالمها دون الإخلال بالشرط الفني أو السياق العام للعمل الروائي. * ربيعة جلطي/ شاعرة وروائية من أجل سوق إبداعية مشتركة! أولا، أنا أُومِنُ بأنّ الدرس التاريخي للمسرح في الجزائر، مازال يعجُ بالأسئلة. أسئلة أمام الباحثين في هذا الحقل الّذي مازال يتطلب المزيد من البحث عن حقيقة بداياته، التي تبدو عريقة مثل عراقة المُدن الأثرية بمسارحها العارضة المُدهشة، لا تقل إدهاشًا عن المسارح الإغريقية والرومانية.. أسئلة لا تقتنع بالجواب المريح الّذي تفرضه الشروط التاريخيّة الصعبة التي مرت بها أرض المغرب الأوسط على رأي اِبن خلدون، الجواب الّذي يكتفي بفكرة أنّ يكون المسرح الجزائري قد اِبتدأ مع زيارة اللبناني المصري جورج أبيض (1880-1959) إلى الجزائر سنة 1921 وتأثيره في محي الدين بشتارزي (1897-1986) وعلالو ثمّ رشيد قسنطيني، بينما يتحدث القديس والفيلسوف أوغسطين المولود في تاغاست- سوق أهراس 354 والمتوفى في عنابة سنة 430 مُعترفًا في كتابه الشهير (الاِعترافات) بمُمارسته لهذا الفن وبحبه له. سؤالكِ يجرّ سلسلة لا متناهية من الأسئلة حول الاِقتباس، وعلاقة المسرح بالأدب السردي على وجه الخصوص، وهي ظاهرة قديمة وليست وليدة العصر، ولها تاريخٌ عريقٌ يعودُ إلى المسرح الإغريقي الّذي كان يقتبس مسرحياته من الأساطير الملحمية، ويُعدّها مسرحيًا بحيث يُخرج من النّصّ غير الدرامي نصًا دراميًا من الرواية والحكاية والأسطورة وغيرها. إذن إنّها الحكاية. ذلك الخيط الرفيع الّذي يشد به أهل المسرح من مخرجين وممثلين اِنتباه جمهور الخشبة، والحكاية الجميلة لا تُبلى أبدا، ولا تَملّ منها المسارحُ العالميّة وجماهيرها باِختلاف اللغات والثقافات، والدليل أنّ أسرة المسرح في العالم مازالت تعيد مسرحيات مقتبسة من الأدب الروائي مثل أوليفير تويست لشارل ديكنز دون أن تسقط في التكرار أو الملل الجمالي، ورواية «البؤساء» لفيكتور هوغو التي ما فتئت حتّى الآن تُصنف من أكثر الروايات في العالم اِقتباسًا، وتمثيلا مسرحيًا وسينمائيًا. قبل أن يشتغل المسرح الجزائري الحديث والمعاصر على النّصّ الروائي سواء المكتوب منه بالفرنسية أو بالعربية، فقد اِرتبط في فترة معينة بالحكاية، إنّها العمود الفقري في الرواية وإن كانت ليست هي الرواية. ظل اِرتباطه بالحكاية شكلا من أشكال المقاومة، وحفاظا على الذاكرة الشعبيّة بجمالها اللغوي، ومتعتها السردية المُدهشة، القادمة من التراث الأمازيغي والإفريقي والمتوسطي والعربي، وتبدو تجربة «عبد الرحمان ولد كاكي» أكثر التجارب الناجحة والعميقة التي اِلتصقت بالتراث الشعبي (الحلقة والديوان والمداح والسوق..)، كما اِشتغل على ذلك أيضا بشطارزي، وقسنطيني، وعلالو في مسرحيته «جحا». نعم.. في الجزائر لدينا مخرجون مسرحيون متميزون جمعوا بشكلٍ مبدع وخلاّق ما بين جماليّات المسرح الأوروبي والمسرح الإفريقي والعربي، ولنا أيضا مُمثلات وممثلون ذوو طاقات إبداعية مُدهشة، لا يقلون قيمةً فنيةً عن غيرهم من أهل المسارح في العالم، إلاّ أنّني أشعر أنّ اِختيار النصوص التي يلبسونها على الخشبة ضيقة على لغة أجسادهم، وغير قادرة على أن تُساعدهم على صنع اللهفة والفضول وأن تجذب الجمهور، ولا تُساعد على اِكتشاف قدرات المُمثل والمخرج أيضا. نظراً للمحيط الثقافي العالمي، وما يسّاقط من خيرات ثقافيّة مرئية عبر وسائل التواصل الاِجتماعي على المُهتم بالمسرح، فقد تغير جمهور المسرح الجزائري إلى حدٍ ما، إذ نلمس اِرتفاع الوعي الاِجتماعي والسياسي والثقافي والجمالي الفني لديه، وهو بذلك يبدو مُطالبًا ومُتعطشا ليشاهد على الركح نصوصًا مُدهشة، تمثل هذه المرحلة بكلّ أحلامها واِنكساراتها، نصوص تتحدث وتُسائِل واقعه، وواقع عصره، وعن فلسفة الوجود وأسئلتها التي تُؤرقه. أن يراها تتحرك على الخشبة. ألم يفعل ذلك كاتب ياسين في تجربته المسرحية، وهو الروائي الّذي خلخل بروايته العظيمة (نجمة) كلّ المفاصل العتيقة للفنّ الروائي في شكله القديم، إلاّ أنّه اِختار -لشرط تاريخي- أن يُخاطب الطبقة العامة بلغتها ومرجعيتها، فنجح في ما يُسمى بالمسرح الشعبي السياسي! لكنّنا خرجنا من هذه المرحلة الجماليّة، وذلك من خلال تجارب جديدة قدمها مجموعة من المخرجين والمخرجات من الجيل الثاني والثالث من أمثال عمر فطموش، وزياني شريف عياد، وسليمان بن عيسى، وعلي جبّارة، وملياني مولاي، وحميدة آيت الحاج، وفوزية آيت الحاج، وشوقي بوزيد، ومحمّد شرشال، وأحمد رزاق وغيرهم... وقد بدأ البحث عن نصوصٍ داخل الرواية، لأنّنا أمام جيل يقرأ الرواية ويتمتع بها، مرحلة جديدة في مقاربة النصوص الروائية والقصصية، مُتمثلة في أعمال كلّ من الطاهر وطار، ومحمّد ديب، والطاهر جاووت، ورشيد ميموني، وأمين الزاوي وغيرهم وتحويلها إلى الخشبة. وجميع هذه الأعمال تركت أثرا طيبًا لدى عُشاق المسرح، وأخرجتهم من مسار تجربة إلى أخرى؛ ولكنّها تجارب تعد على الأصابع، ولا تعطي فن الرواية حقه. حضرتُ منذ فترة قريبة عرضًا قدمه المسرح الجهوي لسوق أهراس على ركح المسرح الوطني بالعاصمة، تجربة حديثة للمخرج علي جبارة والمسرحي مولاي ملياني في اِقتباس لنص الروائي أمين الزاوي (الملكة) بعنوان (سكورا)، وشاهدت تفاعل الجمهور الكبير منذ اللحظة الأولى وحتى النهاية مع العرض. شعرتُ أنّ المسرح الجزائري فتح بابًا جديدة نحو تاريخ جديد أتمنى أن لا تُغلق. وأعتقد، وحسب مُتابعاتي للأدب الروائي، فإنّ المسارح بأوروبا وفرنسا خاصة، تهتم كثيرا بالنصوص الروائية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية وتحويلها إلى المسرح، أكثر من اِهتمام المسرح الجزائري بها، وقد شاهدنا عروضا كثيرة مُقتبسة من روايات كلّ من محمّد ديب، وآسيا جبار، ومايسة باي، وكمال داود، وعبد القادر جمعي، وعزيز شواقي، وياسمنة خضرا، وأمين الزاوي وغيرهم..وأعتقد أنّ المسرح يستفيد من النّصّ الروائي الناجح في الاِنتشار أكثر، كما أنّ الرواية تستعيد كثيرا من ديناميكيتها بين القرّاء من جمهور المسرح من جهة ثانية.ما في ذلك شكّ، فإنّ ريبرتوار الرواية الجزائرية أصبح غنيًا بالنصوص السردية الجميلة والمتنوعة والقوية، سواء بالعربية أو الفرنسية أو الأمازيغية، فقد تحقق تراكم كمي ونوعي مُهم، إلاّ أنّه وللأسف، فإنّ المُثقفين والمبدعين الجزائريين ظلوا لسنوات عديدة يعيشون الشتات حتى داخل الوطن نفسه، لاِنتفاء فضاءات مشتركة مُتاحة، يلتقي بها المبدعون على اِختلاف اِهتماماتهم الجماليّة والفنيّة من روائيين ومسرحيين وسينمائيين وتشكيليين وموسيقيين. فضاءات يُمكن أن نُسميها منطقة (سوق إبداعية مشتركة)، يتم فيها تبادل الرأي والنقاش حول الإبداع من الأدب إلى المسرح إلى السينما إلى الفن التشكيلي إلى الموسيقى. نقاشاتٌ حول الإخراج والسينوغرافيا والاقتباس. نقاشاتٌ حول الإصدارات الروائية. دون شكّ سيجد المسرحيون ما يبحثون عنه للفرجة المسرحية في بلدهم الجزائر، التي هي مهدٌ لأوّل رواية في العالم (الحمار الذهبي) للجزائري أبوليوس، مُرورا بكاتب ياسين ومولود معمري وعبد الحميد بن هدوقة وأحلام مستغانمي، إلى أحدث النصوص بأقلام الشباب من الأدباء الجزائريين الذين يتكاثرون بشكلٍ مثير وإيجابي، يدل على ذلك الإصدارات السنوية بمناسبة المعرض الدولي للكتاب.... إنّي لمتفائلة بهذا الاِقتراب بين الأدب الروائي والمسرح. فليُرفع الستار.. * زبيدة بوغواص/ كاتبة وباحثة أكاديمية تجارب روائية كثيرة أسهمت في حل أزمة النص المسرحي إنّ الحديث حول قابلية مسرحة الرواية، يقتضي العودة إلى طبيعة الرواية والمسرح، وأصل هذا الخطاب وطرح أسئلة من مثل هل هذا المسرح يتقاطع مع الرواية؟ وهل يمكن أن يقرأ كما تقرأ الرواية؟ ما مدى قابليته لأن يكون جنسًا أدبيًا؟ المسرحية هي بناء أحداث تبنى وفق حبكة لها بداية ووسط ونهاية، تتسم بالصراع الّذي تخلقه الشخصيات، والّذي يؤدي إلى ذورة التعقيد في الأحداث، وهي النقطة التي يشعر فيها المُتلقي بالتوتر، ليأتي الحل كاِنفراج له في نهاية قصة المسرحية، إنّها المسار الّذي تأخذه المسرحية بشكلٍ عام، والسؤال هنا ألا يلتقي هذا المسار وحتى هذه المكونات مع الرواية؟ الرواية تمتلك الخط الدرامي الّذي يعتمده الخطاب المسرحي الّذي له خصوصيته التي تتمثل في ثنائية النّصّ والعرض، وهي الطبيعة التي تمثل جوهر الفرق بينه وبين فن الرواية، فهو نص يبقى إنجازا ناقصًا حتى بعد اِكتماله، لأنّه فنٌ مقروء/مسموع/مرئي، إذ لا يمكن تحققه إلاّ من خلال تحوله إلى الركح. ومع ذلك تبدو الرواية أكثر الفنون الأدبية مطاوعة للمسرح، الّذي يلتقي مع الرواية في النّص الّذي يمكن أن يُقرأ كما تُقرأ الرواية، ولا غرو في ذلك فالدراما نشأت من رحم الملحمة، واعتمدت على قصص من التراث القصصي العربي (ألف ليلة وليلة، سيرة بني هلال...)، ولكن الاِختلاف أنّ تلك الأنواع تقوم في مُحاكاتها على السرد، بينما النص المسرحي يقوم على الفعل، وعرض شخصيات تتحرك أمام الجمهور، وهو –في الوقت نفسه- تحكمه تلك الاِزدواجية، لأنّه يقوم على الحركة، وتصوير الأفعال والأوضاع الإنسانية وتقديم شخصيات تتكلم وتفعل، لذلك لا نستغرب إذا حضر المسرح في الرواية أو العكس.وقد دلت التجارب الإبداعية التي تناولت الرواية ومسرحتها على هذا التداخل، بقصد البحث عن شكل مسرحي حديث، أو الاِنفتاح على نظرية الأجناس الأدبية، وقد حرصت على تحويل مفاهيم الكتابة المسرحية الأرسطية الثابتة إلى مفاهيم معصرنة تتجاوز النص التقليدي إلى التجريبي الحداثي، فكان بذلك اِشتغالا واعدا أضاف نقلة نوعية خاصة، ومن التجارب العربية الرائدة في هذا المجال رواية «اللجنة» لصنع الله إبراهيم التي مسرحها القمري بشير، ورواية «وجدتك في هذا الأرخبيل» لمحمّد السرغيني، وقام بمسرحتها محمّد الكغاط، ورواية «كازابلانكا» لمحمّد صوف التي عرضتها على الخشبة فرقة مسرح الصورة بالدار البيضاء، ثم رواية «الجوع» لكنوت هامسون التي أشار إليها يوسف فاضل في بداية مسرحيته المستنبتة «أيّام العز»، ويمكن أن نضيف أنّه قبل ذلك توجه المسرح نحو «مسرحة» بعض الروايات الشهيرة في الأدب العربي الحديث مثل مسرحية «بداية ونهاية» لنجيب محفوظ على سبيل المثال، وقدمت في موسم 1959/1960، كما حدث ذلك في «ست بنات» لأمين يوسف غراب، و«في بيتنا رجل» لإحسان عبد القدوس)، و«قصر الشوق»، و«بين القصرين»، و«السكرية» لنجيب محفوظ أيضا.في المسرح الجزائري وبالعودة إلى تاريخه نجد أنّ الاِقتباس من الحكاية التراثية التي تقوم على السرد، هي من المصادر الأولى لهذا المسرح، وتكون مسرحية «جحا»، التي قدمها علالو للمسرح كبداية فعلية للمسرح الجزائري بالمفهوم الحديث سنة 1926، ومن النماذج الحديثة نذكر نجاح تجارب أسهمت في حل أزمة النص المسرحي منها مثلا مسرحية «اِمرأة من روق» لمراد سنوسي، عن رواية «أنثى السراب» لواسيني الأعرج، والتي قدمت الشخصية الرئيسية فيها صونيا على الركح، وزياني الشريف عياد مع مسرحية «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» عن رواية الطاهر وطار، ومسرحية «بهيجة» عن رواية «بدون خمار وبدون ندم» لليلى عسلاوي، وحيث قدمها المسرح الوطني في شهر ماي 2017. * علاوة كوسة/ كاتب وناقد استفادت الرواية من المسرح ومن تقنياته وتشكيله الأدائي إنّ الفن في جوهره واحد على اِختلاف أوجهه وطرائق تشكله وتمظهراته للآخر، وإنّ الفنون في أعماقها من رحم واحدة من حيث وظيفتها الحياتية من تطهير للنفس وتعبير عن مكنوناتها وتغيير لما يمكن تغييره في واقعنا المعيش وتخييله وفق رؤانا وأحلامنا، لذلك ظلت الفنون جميعها تتداخل وتتحاور فيما بينها وتقيم علاقات فنيّة عميقة وتستثمر في خصائص وفنيات بعضها من أجل أن تتجدّد وتنفتح وتتقوى، ومن أهم الحوارات الفنيّة ما هو واقع بين الرواية بوصفها الجنس الأدبي الأكثر اِستيعابا للأجناس الأدبية وللفنون وبين المسرح بوصفه الفن الأرحب والأكثر تقبلًا للفنون ومقدرته على ترجمتها وصهرها في قوالب تتشكل نصيًا وتؤدى ركحيًا في لقاء مُباشر مع الجمهور/المتلقي. اِستفادت الرواية الجزائرية من المسرح ومن تقنياته وتشكيله الأدائي ولا تكاد تخلو رواية من المشهدية المسرحية ففي الاِستثمار الروائي لمقولات المسرح قوة واِنفتاح وجذب للقراء واِتساع في اِستيعاب ما ينتظره المُتلقي. كما أنّ المُستفيد الأكبر من الرواية هو المسرح، فمثلما حُولت كثير من الروايات إلى التلفزيون والسينما فقد نقلت كثير من الروايات إلى الركح وفي ذلك إعادة قراءة ركحية مشهدية أدائية للمتون الروائية، ومن هنا ندرك أن كلا الفنين (الرواية والمسرح) قد خدما بعضهما بشكلٍ وبآخر، فصار بإمكان الفضاء الورقي أن ينقل سحر الركح إلى ثنايا النّص المقروء وصار بإمكان المسرح أن ينقل العوالم الروائية إلى الركح وسحره أيضا، دون أن يُخِلّ أحدهما بجوهر الآخر. * جميلة مصطفى الزقاي/ باحثة أكاديمية وناقدة مسرحية للرواية فضلٌ لا يرد على المسرح لقد نجم عن عقد الوفاق فيما بين الرواية «الجنس العابر للأجناس» وعالم الصورة مُمثلا في الفن السابع العديد من الروائع العالميّة والعربيّة التي سكنت بخلد المُتلقي لما للصورة من سلطة تأثير؛ إذ ترسم بالأشكال والألوان والمشاهد الحية، فتضفي على السرد رونقا وجمالا مضاعفا،،، فكيف لا تفيء تلك التوأمة بين الفن السردي والمسرح بالكثير من الفضل والمنة، وذلك حين يرتشف المسرح كؤوسه من عيون هذا الفن عن طريق المسرحة والاِقتباس بأنواعه المختلفة، هذه الطريقة، أو الأسلوب الّذي تم التعامل به منذ بزوغ المسرح الّذي تكفل باِطلاع المُتلقي على مئات وآلاف صفحات السرد التي تمّ اِختزالها في ساعة زمن فرجة مسرحية أخاذة. وما روائع المسرح الجزائري إلاّ أدل على مسيس حاجة هذا الفن للنهل من شرايين السرد العالمي والعربي؛ فمن «قالوا العرب قالوا» و»غابوا الأفكار» إلى «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» (وإن كان هذا العمل اقتبس عن قصة الرروائي الكبير الفقيد الطاهر وطار) إلى «حافلة تسير»... ووصولا إلى الأعمال الآنية التي استرعت اِنتباه المبدع والمُتلقي الجزائري والعربي على غرار «امرأة من ورق» التي اِقتبسها مراد السنوسي عن «أنثى السراب» لواسيني الأعرج، و»بهيجة» التي استمدت من رواية ليلى عسلاوي وغيرها كثير... لكن يبقى الذهاب من الرواية إلى المسرح مغامرة محفوفة بالمكاره؛ إذ غالبًا ما لا يتخلص العمل المسرحي من وطأة السرد التي لا يتحملها فضاء الفرجة، فيلوي عُنق الدرامي لحساب السردي ليتصدع إيقاع العمل المسرحي، ويكون مآله نفور المُتلقي منه، الّذي لا استصاغ السرد الروائي ولا استمتع بإيقاع مسرحي يشده من عرقوبه ساعة زمن... وحتى إن كانت الرواية تتخذ من أرض الواقع جذورها مِمَا جعلها نثرا واقعيًا يستطيع أن يروي وأن يصف ويشرح ويفصل ليوصل إلى جمهور القراء رؤية معينة عن الحياة والمجتمع، فإنّ المسرح فنٌ اِختزال الأحداث والمواقف مع التركيز على الأفعال الدرامية التي تترجم فوق الخشبة عن طريق كتابة ركحية تنفر من «الهدرة» والثرثرة بغية الإبقاء على أفق المتلقي متقدا إلى غاية النهاية التي بدورها تدعوه إلى مواصلة فرجة من صياغته ومن مخياله وإخراجه متى كان العرض قد أدى وظيفته الجماليّة. مع العلم أنّ الخطاب المسرحي يختلف عن الخطابات الإبداعية الأخرى الأدبية والفنيّة؛ سواء من حيث بنياته الشكليّة أو المضمونية والدلالية التي أغدقت عليه بثلة من السمات النوعية والخصائص الفنية المركبة التي تحفل بها الخشبة، هذا فضلا عن صفة «التمسرح» التي تلازمه وتحدّد مفرداته وتُميزه عن باقي الخطابات، لكن لا يتأتى التمسرح إلاّ إذا أُخذ تداخل ثلاثي الظاهرة المسرحية بعين الاِعتبار «نص وعرض وتلقي». وتجدر الإشارة إلى أنّ المُسافر بالخطاب السردي إلى الخطاب المسرحي عليه أن يكون واعيًا بالحدود الفاصلة بينهما والنقاط التي يلتقي فيها المسرح بالرواية، ومُدركًا أنّ هذا النّص المنقول سيظل ناقصًا غير مكتمل ما لم يملأ ثقوبه وثغراته عرض مسرحي –بحسب آن اوبرسفلد-. يسع القول في الأخير إنّ هناك مُخادنة حقيقة بين الرواية والمسرح يترجمها مسار المسرح العربي والجزائري منه، كما يُؤكد على نوع من التلاقح بينهما (بخاصة في حالة نجاح المسرحة والاِقتباس) نتيجة ما يجمعهما من حكي تُقدمه الرواية من خلال السرد أي أنّ هناك راويًا يتكفل عبر السرد بإرسال الحكي، على أنّ الحكي في المسرحية يُقدم من خلال العرض وما يستعين به من تشخيص وتمثيل غير أنّ الأحداث تصلنا مُباشرة عبر الشخصيات التي تشخص الحكي. بل أنّه يمكن أن نجد السرد في المسرحية والعرض في الرواية، لكن الطاغي والمهيمن هو العكس. عِلاوة على اللّغة التي نلفيها الأم الرؤوم التي تجمع بين الفنين، لكن لغة المسرح اِستعراضية أدائية إيمائية حركية جسدية... وعلى الرغم مِمَا يمكن الوقوف عنده من اِختلافات واِتفاقات بين الفنين يبقى للرواية فضلٌ لا يرد على المسرح بخاصة عربيًا ومحليًا، لكن الآن وقد طفت إلى السطح الكثير من أقلام كُتّاب المسرح أليس حريًا بنا أن نحتفي بهذه الكتابات التي من شأنها أن تجنبنا العديد من التحايلات والإخفاقات في التعامل مع النصوص الروائية؟؟!! * محمّد الأمين بن ربيع/ روائي وكاتب مسرحي المسرح يخدم الرواية بفاعلية لكن الرواية تخدمه أفضل السبت 12 جانفي 2016 في تمام الساعة السادسة مساءً، كان جمهور المسرح قد أخذوا أماكنهم في قاعة مصطفى كاتب بالمسرح الوطني محي الدين بشطارزي منتظرين أن يُسلّط الضوء على الرّكح، ويبدأ عرض مسرحية «اللاز»، إنتاج مسرح سوق أهراس الجهوي، إخراج يحي بن عمار، واِقتباس محمّد بورحلة، عن رواية بالاِسم نفسه للروائي الراحل الطاهر وطّار. كانت تلك أوّل محاولة لمسرحة رواية «اللاز»، لكنّها لم تكن المحاولة الأولى لمسرحة رواية جزائرية، فقد سبق وأن قامت صونيا بإخراج مسرحية «أنثى من ورق» سنة 2012، التي كتب نصها مراد سنوسي اِقتباسًا من رواية «أنثى السراب» لواسيني الأعرج، وقبل ذلك بعقود أعاد كاتب ياسين كتابة «نجمة» كتابةً مسرحيةً وعنونها ب»الجثة المطوّقة»، وكان عرضها لأوّل مرّة سنة 1958 بمسرح موليير ببروكسل. لكن هذه العقود الفاصلة بين هذه المسرحيات لا تعني أنّها كانت حافلة بعروض مسرحية مقتبسة عن روايات جزائرية، فالمتتبع لمسار مسرحة الرواية الجزائرية، بإمكانه أن يعُدّ تسع مسرحيات على الأكثر مقتبسة عن روايات جزائرية. المسرحيات المقتبسة غالبًا ما تكون مأخوذة عن روايات لها شهرتها، لروائيين لهم وزنهم في الساحة الروائية الجزائرية، كرواية «الحوات والقصر» للطاهر وطار التي مُسرحت وقُدمت سنة 2007، ورواية «الصدمة» لياسمينة خضرا المُمسرحة والمُقدمة سنة 2009، ورواية «الأرض والدم» لمولود معمري المُمسرحة والمعروضة سنة 2013، بالإضافة إلى روايات أخرى لا تقل شهرةً عن التي سبق ذكرها، ولعلّ العروض التي قُدمت زادت من شهرة تلك الروايات بالنسبة لجمهور المسرح حصرا، ذلك الجمهور الّذي تعوّد على مسرحيات مقتبسة عن أعمال عالمية مكرّرة ومستعادة. في الجزائر قد يكون جمهور فنّ القول أكثر من جمهور فن الفعل، ولذا فإنّ خدمة المسرح للرواية تكون أكثر فاعلية إذا كانت الرواية غير منتشرة لدى جمهور القرّاء، أو كانت الرواية رائجة في الأوساط النخبوية فقط، فالمسرح حينها سيقدّم الرواية إلى جمهور عريض من الشعب المرتاد للمسرح. في المقابل نجد أنّ الرواية تخدم المسرح بشكلٍ أفضل، بخاصة إذا أخذنا الأمر من منطلق ثراء النص الروائي بالمعطى الدرامي، الّذي يُسهّل في كثير من الأحيان على كاتب النص المسرحي عملية الاِقتباس، إذ تصبح مسرحة الرواية أشبه بعملية اِختزالٍ للأحداث وتقديمها على ألسنة المُمثلين وحركاتهم، ونجد أنّ الكثير من المخرجين يُحافظون على روح النص الروائي قدر الإمكان، ما عدا تلك المُتطلبات التي يفرضها تحويل المعطى السردي إلى معطى بصري، لكن ليس الأمر بهذه السهولة دائمًا، فقد يكون النص الروائي مبنيًا على تقنيّتي الوصف والسرد، مِمَا يجعل مسألة مسرحته صعبة، وتعتمد أكثر على جهد المقتبِس وبراعته في تطويع هاتين التقنيتين، والاِستفادة منهما لخلق بناء درامي تفاعلي يمكن تقديمه على الركح، ولعل هذا ما حصل مع مسرحية «أنثى من ورق» المقتبسة عن رواية «أنثى السراب». تقف الفنانة نضال على ركح المسرح وتقول على لسان بْهيجة بطلة المسرحية وبطلة الرواية التي شكلت النص الأصلي «دون حجاب دون ندم sans voile sans remords»: حتى لو كانت أختا، حتى لو كانت زوجة، وحتى لو كانت أمّا، ستبقى دائما حاشاكم مْرا.. كانت تلك العبارة واحدة من أقوى العبارات في المسرحية، ومن أكثر العبارات عُمقا في النص الأصلي، وكأنّ نضال قد قالتها على لسان كلّ النساء في كلّ زمان ومكان شبيهين بجزائر التسعينات، تتعرض فيهما المرأة للقهر لأنّها اِمرأة. صمتَ الجمهور أمام تلك العبارة، في حين أنّ ليلى عسلاوي كانت تستعيد بالكثير من الفخر نصّها الروائي الّذي كانت تراه أمامها حيّا بهيّا كما ينبغي له أن يكون، بفضل المخرج المسرحي زياني شريف عياد. كثيرة هي الروايات التي تمتلك تلك القوة الدرامية التي تؤهلها لتكون على الرّكح نابضة بالحياة، يحتاج الأمر فقط لأن يقرأ صنّاع المسرح تلك النصوص، دفعًا لأيّ اِستياء مُحتملٍ من أزمة النّص في المسرح الجزائري. * هارون الكيلاني/ ممثل وكاتب ومخرج مسرحي يشتركان في النهل من التراث الشعبي إلاّ أنهما لا يلتقيان إلاّ قليلا هذا التساؤل مُهم جدا وجاء في وقته، لكنّي سأحاول أن أرى الأمر من زاوية أخرى وأطرح سؤالاً شبيهًا له ولكن بشكلٍ معكوس فهل اِستفاد المسرح من الرواية. هذه الزاوية ستتيح لنا تأملا آخر لأنّ الرواية هي البحر الّذي يُغذي كلّ الأجناس الأدبيّة وأشكال الفنون وكلّما كان مستوى الرواية قويًا كان التأثير أكبر. إنّ كُتّاب الرواية هم أصحاب الأقلام الماراتونية التي لا تتعب ولا تمل، تكتب وتنسج الأحداث وتركض في مخيلة القارئ، فالمستويات السرديّة في الرواية تتعلق بالأماكن والأزمنة والشخوص والمواعيد والشبكة التي تحوي كلّ هذا وللأدب طرقٌ خاصة في بناء المكان والزمان والشخصية، لكن في المسرح لابدّ أن تتوحد التقنية الزماكنية وبناء العلاقات بين الشخوص يتم على المباشر، الروائيون الحقيقيون ينقلون الواقع إلى لغة سحرية وعجائبية هي من ستتكفل بالنقل المكاني والزماني ورسم الشخوص للقارئ. أمّا المسرحيون فهم من يحولون الّلغة إلى حركةٍ وصوت، فلقاء الروائي مع المسرحي هو لقاء سحابي، الرواية هي الماضي والدراما هي الآن. والمحك الوحيد الّذي يمكن أن يقلب الموازين هو هذا التقلب الّذي أصاب عصرنا الحديث ويبدو أنّ المسرح والسينما يسبقان الرواية إلى مجالات أخرى من الإبداع، فالمسرح الحديث بدأ يتخلص من الحوار والملفوظ الكثير.. فأصبحت الحدود بين الرواية والمسرح حدود ملغمة، فالسارد أو القوّال أو الحكواتي أو التروبادور في المسرح ألقى بعصاه وقيثارته ومنديله وبوقه وتحول إلى كائن يقترب من الطيران، فعبر الجسد سيتمكن من قول الكثير وعبر أصوات أخرى يمكن أن يُوصِل مشاعره للمُتلقي، قد بدأ الباحثون في أرض المسرح يُنقبون عن مناجم أخرى جديدة لرسم وجه جديد للمسرح، فها هو في مسرح ما بعد الحداثة أو ما بعد الدراما وجد آخر الساردين والمحملين باللّغة القادمة من الرواية أو القصة أو الشِّعر في ورطة حقيقية. ويبقى السرد مُعلقًا برقبة المونودراميين فقط وفي حالات المونولوج والحوار الداخلي في بعض الأعمال المسرحية. أو في أعمال ملحمية تاريخيّة. رغم هذا نقول أنّ الرواية في الجزائر كانت على خط واحد مع المسرح في النهل من التراث الشعبي إلاّ أنهما بقيًا على خطان متوازيان لا يلتقيان إلاّ قليلا رغم أنّ المُتعارف عليه أنّه كلّما كان مستوى الرواية قويًا كان مستوى التلقي جيدا. فالاِقتباس من الرواية إلى المسرح كان ضعيفا مقارنة بالاِقتباس من المسرح إلى المسرح، إلاّ أنّ هذه الاِقتباسات لم تسلم من لسان النقد الّذي نعتها بالاِقتباسات المُغردة خارج السرب والمجتمع. وبالنسبة لي فهذا في حد ذاته تقييدٌ لحرية الإبداع، فالاِقتباس عملية إبداعية تستحق التنويه والإشادة. وأرى أنّ هذا النقد هو من عطّل قليلا عملية التلاقح بين الأجناس الأدبية والمسرح. وتبقى خبرة التفاعل الفني والأدبي بين الجنسين في الجزائر خبرة ناقصة وتحتاج لشجاعة الطرفين المسرحي والسينمائي، فأهل الرواية عليهم بالكتابة للمسرح وأهل المسرح عليهم العمل على الأعمال الروائية، هذه الأخيرة التي ستمنحهم فرصة للتدقيق في عوالم أخرى لأجل مسرح مُتجدّد الرّوح واللّغة، فكسب قراء جدد من المسرحيين والمتفرجين أمرٌ اِيجابي وكسب أقلام جديدة من الرواية إلى المسرح مكسبٌ مهم، ومن يدري لعلنا نجد لغة جديدة للتعبير عن أنفسنا تلبية للدائرة المناخية لمجتمعنا بكلّ أطيافه وأحلامه ورغبته في الحرية.