واقعُ الترجمة في الميدان العلمي هو الأضعف * الميدان العلمي بحاجة إلى متخصصين محترفين لهم ثقافة في الميدان العلمي الّذي تترجم منه الكُتب في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والباحث الأكاديمي، المختص في فلسفة القيم والمعرفة، الدكتور عبد الرزّاق بلعقروز. عن واقع الترجمة العلمية في الجزائر وأسباب تأخرها وبعض مشكلاتها. مُشيراً في هذا الصدد إلى أنّ الترجمات الموجودة لا تُضاهي الترجمات العالمية، وأنّ الترجمة الفاعلة لا تقتصر فقط على ترجمة النصوص المكتوبة وإنّما تتعداها إلى ترجمة الأفلام والأشرطة العلمية أيضا. معتقدا أنّ هذا الشكل من التّرجمة أكثر حضورا في العالم العربي من التَّرجمة المكتوبة. كما يتحدث عن مخابر البحث العلمي، وما يمكن أن تقدمه للحياة البحثية والعلمية والإنسانية والثقافية وغيرها من مجالات الحياة والعِلم والعلوم؟ بلعقروز، تحدث أيضا عن أمور أخرى ذات صلة بالبحث العلمي ومخابر البحث وسياساتها المنتهجة، وكذا أزمة القيم في ثقافة المجتمع. حاورته/ نوّارة لحرش للإشارة، الدكتور عبد الرزّاق بلعقروز، باحث جزائري حاصل على دكتوراه العلوم وفلسفة القيم والمعرفة. أستاذ محاضر في قسم الفلسفة بجامعة سطيف-2. خبير محكم وعضو الهيئة العلمية لمجلة الجمعية الجزائرية للدّراسات الفلسفية. لديه عِدة كُتب منها: «تحولات الفكر الفلسفي المعاصر أسئلة المفهوم والمعنى والتواصل»، صادر عن منتدى المعارف في بيروت عام2018، وكتاب «من أجل المعرفة: مفاتحات حوارية مع الذّات والكتاب»، عن منشورات الوطن، الجزائر عام2017، وكِتاب «روح القيم وحرية المفاهيم نحو السير لإعادة التّرابط والتكامل بين منظومة القيم والعلوم الاِجتماعية»، عن منشورات المؤسّسة العربية للفكر والإبداع،2017، المُتوج بجائزة الشيخ زايد للكِتاب في دورتها الثالثة عشرة(2019)، عن فرع المؤلِّف الشاب. الترجمة العلمية لا تقتصر فقط على ترجمة النصوص المكتوبة وإنّما تتعداها إلى ترجمة الأفلام والأشرطة العلمية كيف هو واقع الترجمة العلمية في الجزائر، ولماذا تعاني من الندرة أو القلة، ما الّذي يجعلها لا تصل إلى المأمول والمرجو منها؟ هل يرجع هذا إلى قلة المترجمين العلميين في الجزائر، أم إلى عزوفهم عن الاِشتغال في هذا المجال؟ عبد الرزّاق بلعقروز: لا أتصور أنّ التَّرجمة الأدبية والفلسفية بمثل الحضور الّذي يتوافر بحيث يشكل قوّة ووفرة في الاِنتاجات الفكرية في واقعنا، فنحن متأخرون في الترجمة كثيرا، فضلاً عن أنّ الترجمات الموجودة لا تُضاهي الترجمات العالمية، ولا نُترجم من اللغات الأخرى غير اللّغة الفرنسية مثلاً، فنحن محجوبون عن مستجدات المعرفة الفكرية والفلسفية التي تنتجها المجتمعات المعاصرة التي تكتب باللّغات الإنجليزية والألمانية مثلا، من هنا فنحن نُترجم ما هو موجود في المنتوج الفلسفي الفرنسي، أي ما يُترجمه الفرنسي وما يحتاجه في ثقافته وتصوراته، وإذا كان واقع الترجمة هكذا في ميدان الأدب والفكر، فهو أضعف منه في الميدان العلمي، لأنّ الميدان العلمي يستوجب متخصّصين محترفين لهم ثقافة في الميدان العلمي الّذي تُترجم منه الكُتب، وهذا ما لا يتوافر لدينا في الجزائر، حتّى أصحاب التخصُّصات العلمية لدينا في الطّب والبيولوجيا مثلاً لا تتعدى أبحاثهم النَّشر في المجلات الدّولية، ولا يولون الاِهتمام بتثقيف المجتمع من الناحية العلمية، بخلاف رجل العِلم في الغرب، فتجده متخصصا في جراحة القلب مثلا، لكنّه يكتب للنَّاس عن القلب وعن كيفية الوقاية من أمراضه، ويُقدُّم خطوات منهجية لأجل هذه المهمة، والأمر نفسه مع المتخصّص في العين وفي الكبد وفي الرياضة البدنية، ما هو منشور لدينا يرتبط بفنون تشريح الجسد وتسمية الأعضاء، وهذا لغايات بيداغوجية علمية وليس لغايات تثقيفية للرأي العام تسهم في تزويده بمعرفة نفسه وجسده أكثر. هل يمكن للمترجم الأدبي مثلاً أن يخوض غمار الترجمة في المجالات العلمية؟ أم على أهل الاِختصاص من (باحثين ومترجمين علميين) أن يتداركوا الأمر؟ عبد الرزّاق بلعقروز: أرى أنّه من الأفضل للمترجم في الأدب أن يتقن الترجمة التي في حقله، قبل أن يتجه من الترجمة في المجالات العلمية، لأنّه حتّى داخل الفروع المعرفية الواحدة ثمّة خلل، فلا يمكن مثلا للمتخصص في الأدب أن يترجم ترجمة وافية النّصوص الفلسفية لأنّها تحتاج إلى إحاطة بالمصطلح الفلسفي مفهوميًا وتاريخيًا، المطلوب هو أن يترجم المُتخصص في المجال العلمي الكُتب العلمية، وهذا يحتاج منهم التحرر من الغرور باللّغة الأجنبية، وأن يتقنوا جيّدا اللّغة العربية التي هم مفلسون فيها ولا يعرفون إلاّ لغة التخاطب من العربية، وهذا ما أورث فراغًا في الترجمات العلمية التي ستقدم قيمة علمية وفائدة لطلبة العْلم فضلاً عن الفضاء الاِجتماعي العام. والترجمة العلمية لا تقتصر فقط على ترجمة النصوص المكتوبة وإنّما تتعداها إلى ترجمة الأفلام والأشرطة العلمية أيضا، وأعتقد أنّ هذا الشكل من التّرجمة أكثر حضورا في العالم العربي من التَّرجمة المكتوبة، وللأسف القنوات التلفزيونية في الجزائر يغلب عليها الاِهتمامات السياسية أكثر من الفضاءات العلمية، وهذا ما يزيد من توسع الفراغ للترجمة العلمية، أليست هذه القنوات قادرة على التَّعاقد مع مترجمين جزائريين وشراء الأفلام العلمية وترجمتها، ونحن على يقين من أنّ الإقبال عليها سيكون في صورة تضاهي الأفلام التي يمجها المجتمع الجزائري في عمقه وصميم ثقافته. مخابرنا تستمد قيمتها من عددها وليس من نوع اِنتاجاتها كباحث جزائري شاب، له اشتغالات بحثية متوجة بجوائز عربية. ما هو برأيك الدور الرئيسي لمخابر ومراكز ومؤسسات البحث العلمي على مستوى الجامعات في الجزائر، هل من دور محدّد ومسطر يجب عليها القيام به؟ وكيف هو واقع وحال وأداء هذه المخابر؟ عبد الرزّاق بلعقروز: سأركز في هذا السؤال الحيوي والهام حول مخابر البحث، على حال مخابر العلوم الاِجتماعية والإنسانية بحكم اِنتمائي إلى هذا الحقل المعرفي، وأرى أنّ حالها كحال الجامعة الجزائرية، مراتب متأخرة في التّصنيف الدولي، كما أنّنا نجدها من حيث الديباجات المتعلقة بالأهداف ومحاور الاِهتمام ضخمة وبرّاقة، ومن حيث الواقع لا مقدرة علمية قوية لها، ولم تسجل إنجازات علمية أو أبدعت مفاهيم دخلت بها الواقع أو أسهمت بها في ترقية المعرفة العلمية النّوعية، مخابرنا في الجزائر تستمد قيمتها من عددها وليس من نوع اِنتاجاتها. هي في ازدياد وتكاثر، والسبب هو أنّ ما يهم هو الرّقم كي نحظى في تصنيفات المعرفة العلمية العالمية بمرتبة، لدينا كذا من المخابر وكذا من وحدات البحث، وزارة التعليم الجزائرية تشجع على إنشاء المخابر وتوفر الشروط المالية والإدارية لإنجاح مسارها، لكن الغالب حتّى لا نقول الكل، لم يجد أصلا أين يصرف ميزانيته، لا برنامج علمي قوي، ولا ملتقيات ذات أهداف واضحة، ولا مجلات نوعية في انتاجاتها، ولا مشاريع تخدم التنمية والمجتمع، الخلل يكمن في ضُعف التكوين المنهجي على مستوياته الثلاثة: التكوين في منهج التفكير، التكوين في الممارسة البحثية، والتكوين في مستوى الممارسة السلوكية والتكامل مع مؤسسات المجتمع. أضحى دور المخابر عندنا إداريًا خالصًا، اِحتضان مشاريع الماستر، الدكتوراه، تخصيص مجلة لنشر البحوث التي في أغلبها من ممضوغات الرسالة العلمية التي بدورها تسكن في قرون خلت ومراجعها بائدة، وأيضا من أجل التّرقية والمناقشة، وهذا الاِحتضان محمود لكنّه لا يصنع العقل العلمي المبدع. السياسة التي تنتهجها وزارة التعليم العالي من حيث فتح المخابر ووحدات البحث والمراكز العلمية واضحة ومقصدها محمود، الخلل يكمن في أنّها من حيث توطينها في الجامعات لا نشاطات علمية إبداعية ولا مشاريع خادمة للمجتمع والتنمية، فالمخبر هو المحضن للإبداع لأنّ المُفترض أن يكون التفكير فيه جماعيًا وتكامليًا بين العلوم، وتشكيل وتراكم خبرات معرفية. المخابر البحثية في الجامعات الغربية: تنتج أفكارا استراتيجية مهمة تعتمد عليها الدُّول، في القضايا السياسية والاِقتصادية والأمنية وغيرها، وما تُقدمه من توصيات لصُناع القرار وفق رؤى استراتيجية مبصرة، ونُظم إدارية محكمة. أمّا الدور الّذي من الأجدى أن تقوم به هذه المخابر في الجامعات الجزائرية فيمكن إجماله في: أولاً: البناء المنهجي العلمي لقدرات الفكر في الجزائر، والاِحتفاظ بهذه القدرات وتقويتها، ورفع كفاءات الباحثين من خلال برامج التدريب وتبادل الخبرات. ثانيًا: الاِنفتاح على الفضاء الاِجتماعي العام، وتثقيف فئات المجتمع والترويج لأفكار وتوجهات المركز عن طريق وسائل النشر والتغطية. ثالثًا: إنتاج المعرفة التي لها صلة بالتنمية والتي تخدم الجهات التنموية في المجتمع وتقديم مقترحات نوعية وعملية وعالمية، والاِرتقاء إلى مستوى الكونية في المعرفة من حيث الإبداع والإنتاج وإتقان شِعار «فكّر عالميًا ونفذ محليًا». العولمة فتحت الحدود الجغرافية وغيرت من الزمن لكنها دمرت منظومة القيم مع تسارع وتصارع الزمن في هذا الراهن المتشعب، ما هي منظومة القيم التي تشكل ثقافة المجتمع الجزائري الآن، وما مدى تأثير العولمة على قيم الثقافة الجزائرية؟ أيضا ما مدى تغير أو ثبات القيم في المجتمع الجزائري، وكيف يمكن للتربية أن تؤدي دوراً تجديديًا لقيم هذا المجتمع: الدينية والتاريخية والاِجتماعية؟ عبد الرزّاق بلعقروز: مع تسارع وتصارع الزمن في هذا الراهن المتشعب، ما هي منظومة القيم التي تشكل ثقافة المجتمع الجزائري الآن؟ يمكن أن نجيب على هذا السؤال إجابة مزدوجة مركبة، أي ما هي مصادر ثقافة المجتمع الجزائري من حيث الصورة النّظرية أولاً، وثقافته من حيث مادته الواقعية ثانيًا، فمن حيث الصورة النّظرية نلاحظ أنّ ثقافة المجتمع الجزائري تتشكل من الدين والموروثات الثقافية التي تنسجم مع المبادئ الأخلاقية لدين الإسلام، فالقيم الدينية والقيم الاِجتماعية والقيم النَّفسية والقيم التاريخية، تداخلت لكي تشكل منظومة ثقافية يتشربها الإنسان الجزائري. أمّا من حيث المادة الواقعية أو الثقافة الواقعية، فهي تعبر عن لحظات الاِنفصال عن هذه القيم الأصلية، بخاصة في مستوى القيم الاِجتماعية والنّفسية، وبداية الاِنخراط مع ثقافة جديدة تصنعها الوسائل الإعلامية التي بدورها لا هم لها إلاّ بث الثقافة الاِستهلاكية والسلعية. وتبعًا لهذا يأتي دور العولمة التي تُعيد تشكيل الثقافة الجزائرية وثقافات المجتمعات الأخرى على حدٍ سواء، فتدخل إلى صميمها وتغير من أصولها، فتحل بدلاً من الاِلتزام بالأخلاق التحرر منها، وتجعل العلاقات الاِجتماعية القائمة على التكافل والمحبة واحترام القيم، لا تنسجم مع الفردية التي تنادي بها العولمة، أو بالأحرى النرجسية، أي أنّ الذّات تقبل أو ترفض ليس بناءً على قيم، وإنّما بناءً على رغبة ذاتية فردية خالصة، فالعولمة فعلاً فتحت لنا الحدود الجغرافية وغيرت من الزمن وجعلت من التواصل مفتوحًا، لكنّها دمرت منظومة القيم الأخلاقية التي تعبر عن سلامة الفطرة الإنسانية، وعن الجانب الرّوحي في الإنسان. كيف يمكن معالجة أزمة القيم التي يعانى منها الإنسان الجزائري والتي نجدها أكثر حِدة عند جيل الشباب الّذي يُعاني غموضاً في الهوية وضياعاً في الأهداف؟ عبد الرزّاق بلعقروز: رغم هذه الأزمة في القيم الجزائرية، إلاَّ أنّ إمكانية العلاج ممكنة ضمن هذا التحدّي، وهو علاج متوقف على تجديد مؤسساتنا التربوية، وعلى رأسها مؤسسة الأسرة والمسجد والمدرسة والجامعة، فهذه عليها أن تجعل من أولى أولوياتها بناء الوجدان وتنمية البعد الروحي في الطفل، لأنّه خميرة المستقبل، ولأنّ قوّة الرّوح منبع المقاومة وأداة حفظ منظومة القيم الدينية والاِجتماعية والنّفسية والتاريخية الخاصة بثقافة المجتمع الجزائري. والتركيز على مرحلة الطفولة هذه هي الحصن الحصين لحفظ الهوية وإنقاذ الشباب من الشعور باليأس وضياع القيم، فالقيم هي التي تعبر عن نشاط الرّوح الإنسانية، بينما العولمة تُعبر عن النشاط الجسمي، والرّوح أولى في الاِعتبار من ثقافة الجسم، لأنّ الغاية الكُبرى من وجود الإنسان هي تنمية هذا الثراء الداخلي فيه لكي لا يطمس جسمه، روحه ووجدانه، ولكي لا نصل إلى الحالة الثقافية التي يعيشها الغرب في تجرده من القيم الأخلاقية، وعجزه في المقابل عن خلق قيم تلبي حاجاته المتكاملة. إنّ الطريقة المناسبة للحفاظ على روح القيم هي إيجاد القدوة للشباب التائه، الّذي أضحى يشعر بالعبث واليأس، وأيضا إنشاء (عِلم جديد) يهتم بكيفية تفعيل القيم وتجديد العلوم النفسية العاجزة عن إيجاد حلول نفسية فعليّة، إنّ رجال الأخلاق يقولون اليوم، أنّ الرّوح هي التي تعالج النفس وليس العكس وهذا العِلم يمكن أن يكون عِلم روحانيات جديد ينقل الثقافة من النمطية والشكلية إلى الرّوحيّة والعلويّة.