العالم ما زال بحاجة إلى مشاكس يكشف كارثة الكولونيالية أول من قال أن الاستعمار الفرنسي للجزائر لا يحمل رسالة حضارية مرت عشر سنوات على رحيل عالم الاجتماع الفرنسي الشهير المثير للجدل بيار بورديو، و لا تزال أفكاره و رؤاه تصنع الحدث و تثير الجدل ، تماما كما كان في حياته مبعث عواصف فكرية، صنعت من المفكر بطريقة التحليل النفسي للمجتمعات في سبيل الوصول إلى تشخيص دقيق للحالات الاجتماعية الفيلسوف الفرنسي الأكثر شهرة خارج النطاق اللغوي و الجغرافي و التأثير الثقافي لفرنسا التي كانت يوما إمبراطورية. كان بيار بورديو أول من اعتبر أن الاستعمار الفرنسي من خلال دراساته التحليلية لتحولات المجتمع الجزائري في بداية سنوات الاستقلال لم يكن حاملا لرسالة حضارية، و اعتبر من خلال الدراسات التي قام بها مستخدما منهجه الماركسي النظري أن نقل فرنسا للجزائريين قسرا من تركيبة المجتمع الزراعي الرعوي إلى المجتمع المتمدن كان كارثة كولونيالية زعزعت التوازن الاجتماعي و فككت مبانيه. جرأة بيار بورديو جلبت له الكثير من الانتقاد و حملته أوصافا مشينة فهو تارة "إرهابي" و أحيانا "لا مسؤول" و شعبوي في تارات أخرى يتزعم طائفة، لكنه كان في كل مرة يقوم بنشر كتاب يثير زوبعة من ردود الفعل و قد بلغت تآليفه ما ينيف عن الثلاثين و بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاته أصدرت دار "لوساي" الفرنسية للنشر مجموعة محاضراته ب"كوليج دو فرانس" الذي دخله أستاذا محاضرا سنة 1981 الغير منشورة في كتاب يحمل عنوان "عن الدولة". صار بورديو منبوذا و مكروها ليس لمقالاته الفلسفية ودراساته في علم الاجتماع، بل لأنه كان دوما يسبح عكس التيار و يقول بصوت عال ما يعتقد الجميع أنه غير صحيح، كقوله أن ديمقراطية التعليم لم تكن في حقيقتها ديمقراطية و طريقة لفتح باب الجامعات أمام الجميع، ففي كتابه الإنتاج الصادر 1970 بين بورديو أن الوصول إلى المراحل العليا من التعليم لم يكن تمييزيا فقط بل كان طريقة ممنهجة لضمان استمرار إنتاج النخب التي تفكر بالطريقة ذاتها و تحافظ على بقاء النظام السائد و القائم و تضمن من خلال تكاثرها ديمومته، و في مرحلة لاحقة هاجم بورديو الأساتذة أنفسهم الذين كان واحدا منهم بذات الطريقة. في كتابه "هومو أكاديميكوس" الصادر سنة 1984 عن دار مينوي قال بورديو أن ما يبدو أنه عقلانية العلماء ليست عقلانية نقية بالمعنى التام، و بين أن فيها الكثير من الشوائب التي علقت بها من خلال إنتاجها ضمن منظومة المؤسسات الموجودة و التي يعمل العالم في إطارها و على نسقها. و كان بورديو قد قال عن نفسه أنه يكره فيها صفة المثقف في كتابه "تأملات باسكالية" الصادر في سنة 1997. و قد عارض بورديو في تبنيه لفكرة العقل الاجتماعي المحدد المعالم سلفا فيلسوفان كبيران هما جون راولز و يورغن هابرماس، بينما جلب له ذلك الموقف سخط الغالبية الساحقة من الانتلجنسيا الفرنسية التي لا تحسن التفكير خارج العلبة و لا التغريد خارج السرب. بيار بورديو كان مزعجا و مغتصبا للعقول الهادئة الساكنة إلى تعاليم الأولين لأنه يقترح على قرائه متابعة وقائع عملية تحليل نفسي للمجتمعات و سماها التحليل السوسيولوجي على وزن التحليل النفسي الذي أبدعه سيغموند فرويد. و كان بورديو في تحليله النفسي للمجتمعات لا يتورع عن التطرق لوضعيات حميمية في النشاط الاجتماعي، فهو في كتابه "التمييز نقد اجتماعي للحكم" الصادر عن مينوي 1979 يبرهن أن الذوق الرفيع و الجيد والاهتمام بالفنون ليس سوى علامات للتدليل على الانتماء إلى فرقة مهيمنة أو طبقة حاكمة و من خلال ذلك تجاوز بورديو المحضورات جميعها و صار بعد تهكمه و سخريته من العقلانية يتندر و يسخر من الثقافة، و لكن التحليل البورديوي للناس و سلوكاتهم الاجتماعية كان كمن يسحب من الأشخاص هوياتهم و يعريهم من نفاقهم الاجتماعي و يكشف الأهداف الخفية لتصرفاتهم الحسنة و الجميلة و المقبولة لدى العامة. و يقول لويس بينتو المهتم بدراسة الإرث البورديوي أن تفكير الفيلسوف صار متعلقا بالمجال و العادة، ففكرة المجال تبين أن الخصائص التي نسبغها على شخص فرد من خلال تصرفاته هي في حقيقتها أوصاف و خصائص تتمتع بها منزلته، من خلال كونه باريسي أو من الضواحي، أستاذا جامعيا أو إطارا ساميا في الإدارة، وكيلا عقاريا أو رب عائلة، و من منزلته لن تكون له نفس الرؤية للعالم و لا نفس التصرف فيما يحيط به و يحدث له، و هذه المحددات للشخص تغيب دوما عن الباحث و الدارس و المهتم بتفسير سلوكات الناس. و لما كان الأشخاص متعلقين غالبا بنرجسيتهم كان تحليل بورديو لهم من هذا المنظور تعديا على خصوصياتهم و عنفا على موقعهم الاجتماعي لأن بورديو لم يجعل للأفراد شيء من القدرة بل جعل المتصرف و المتحكم في أفعالهم هو موقعهم الاجتماعي. من جهته يرى كلود غوتيي الفيلسوف الباحث في علم الاجتماع بجامعة مونبيلييه الثالثة و مؤلف كتاب القوة الاجتماعية المرتقب صدوره أن معنى مفهوم العادة في تحليل بورديو ليس بالنظر إلى الفعل الصادر عن البشر على انه محصلة و نتيجة للتركيبة الاجتماعية، بل بإعتبارها فرصة تمنح لكل شخص لكي يستعيد امتلاك المحددات الأولية لسلوكه و التلاعب بتلك المحددات و العوامل التي تفرز نشاطه من خلال التقريب و الإرتجال والإبداع و هنا تكمن الجزئية الحرة في أفعال و سلوكات الناس الاجتماعية، لكونهم قادرين على التصرف داخل محدداتهم و منه تنبع قدراتهم على الابتكار و عدم البقاء أسرى الوضع الإجتماعي و لا حتى المنزلة التي يحتلونها داخل النسيج المجتمعي، ليبرز بورديو أن الاختيارات الممنوحة لنا و المتاحة بين أيدينا محدودة لكنها ليست آلية و لا ميكانيكية و لا مفروضة من قوى الغيب الإجتماعي. و لا يتراجع بورديو عن استعمال الحجج الفرويدية في الرد على منتقديه بالقول أن المعارضة لأفكاره نجمت عن أفكار مسبقة لدى خصومه و أن الخصوم بحكم مجابهتهم باستمرار لم يبقوا مجرد خصوم بل صاروا أعداء. سمحت الإحتجاجات الإجتماعية التي أعقبت قرار الوزير الأول الفرنسي جوبي سنة 1995 بمراجعة نظام التقاعد و الحماية الإجتماعية لبيار بورديو بمتابعة تحول اجتماعي معاصر على المباشر هو الأضخم منذ تظاهرات الطلبة في ماي 1968. فقط مات ميشال فوكو سنة 1984 و رحل جاك ديريدا للتدريس في الولاياتالمتحدةالأمريكية و بقي بورديو في فرنسا مراقبا و محللا و منتقدا و كان يرى أن عليه واجبا تاريخيا بالدخول إلى معترك الغليان الإجتماعي لتلك الفترة و ما لبث أن تدثر برداء المثقف الملتزم على حد تعريف أنطونيو غرامتشي مما جعل "رونان دو كالان" يقول كنا ننتظر أن يبقى عالم الإجتماع في خطابه التشاؤمي عن مصير العالم و أن يقول خطابا نظريا للغاية إلى حد تحييد مفعوله السياسي و هو سلوك عدد من المفكرين الراديكاليين الذين يجعل بعدهم عن الموضوع و عدم ملامستهم المباشرة للقضايا التي يتحدثون عنها تأثيرهم فيها منعدما و لكن بورديو كان قد اعلن انه دخل البيت من باب المطبخ، و لما كان الإتفاق شبه تام بين مختلف عناصر الإنتلجنسيا الفرنسية كان بورديو مؤيدا متحمسا للإضرابات و قد جر له ذلك الموقف الإجتماعي العديد من النعوت و الأوصاف الإضافية و كان ألان توران يحذر من "إنزلاقات أقصى اليسار" في إشارة إلى مواقف بورديو الغير مهادنة و هاجم كل من الان مينك و جان ماري كولومباني مدير تحرير صحيفة لوموند و فرانسواز جيرو من ليكسبراس من سموه الصيني الأحمر، و لجأ بورديو إلى طلب النجدة من مفكرين و فلاسفة أوروبيين في مواجهة أبناء وطنه المتنكرين له و عقد لقاء مع أكسال هوناث و الوائي الألماني غونتر غراس و دعا المثقفين إلى التحالف و التكاتف. في تلك السنة و لمواجهة طغيان الميديا و تحكمها في صناعة الرأي قرر بورديو الدخول إلى عالم النشر و أنشأ درا نشر باسم "ريزون داجير" لنشر مفاهيم و علوم الدراسات الإجتماعية كتكملة لمجلة متخصصة حول بحوث العلوم الإجتماعية التي أنشاها سنة 1975 و التي صارت مرجعا عالميا في الإختصاص. و حققت منشورات الدار مبيعات قياسية، فبيع من مؤلف "عن التلفزيون" 140 ألف نسخة في عام واحد و حقق كتاب بيار سارج حليمي "كلاب الحراسة الجدد" و يقصد وسائل الإعلام نجاحا منقطع النظير ببيع 100 ألف في ستة أشهر. بيار بورديو ترك العالم يموج بعضه في بعض و رحل ملقيا تبعات التقصير عن تفسير ظواهره من بقوا حاملين رؤيته الثاقبة و نظرته الحادة للناس وللأشياء و هل كان بورديو سيسكت و هو يرى الربيع العربي يصنع أحداثا جليلة في بلدان عجزت عقود من السياسة التقليدية عن تحريك مجتمعاتها أم أن العرب محكوم عليهم بالبقاء مواضيع لدراسات علماء القارات الأخرى... ع.شابي (عن مجلة ماريان الفرنسية )