لا يزال «زقاق السوافة»، الكائن بقلب مدينة خنشلة، الذي يعود تاريخه إلى حوالي قرن و نصف من الزمن، يستقطب بأجوائه الرمضانية التي تفوح بعطر الأصالة و الماضي الجميل، وحركيته الدائمة، الصائمين من كل حدب و صوب، للتجول و الاستذكار، و أيضا اقتناء ما يحتاجون إليه من منتجات متنوعة ذات جودة عالية بأسعار تعتبر معقولة و مقبولة، مقارنة بتلك المتداولة في المحلات و الأسواق الأخرى، خصوصا الخضر و الفواكه و المشاوي و الملابس و الهواتف النقالة و حتى الخردوات . كلتوم رابية فضاء تجاري يؤرخ لمدينة خنشلة قال الباحث في الثقافة الأمازيغية، محمد الصالح أونيسي، للنصر، أن مدينة خنشلة بنيت في سنة 1874 و قدم إليها سكان من عدة مناطق، كالمسيلة، القبائل الكبرى، و واد سوف، و أغلب الوافدين إليها، كانوا يمارسون التجارة في مكان معين بوسط المدينة، سواء في المحلات، أو كباعة متجولين أو «دلالة» يعرضون الملابس و الزرابي و السجادات للبيع، و بما أن عددا كبيرا من التجار من واد سوف، ارتبط الشارع بمدينتهم، و كانوا معروفين ببيع الصوف و السكر و معجون التمر «الغرس». الباحث أكد أن السوق لم يفقد رونقه و بريقه، بالرغم من مرور 148سنة على إنشائه، و لا يزال فضاء تجاريا حيويا، خاصة في شهر رمضان، أين يكثر العرض و الطلب، و ذلك بالرغم من المنافسة الشرسة و انتشار عدد كبير من الأسواق. و استطاع »زقاق السوافة» أن يحافظ على خصوصياته من الاندثار، فالتعامل بين الباعة و الزبائن أساسه البساطة و التواضع و التسامح، فهذا المكان لم يكن للبيع و الشراء فقط، بل كان فضاء يلتقي فيه المواطنون لقضاء أوقات طيبة يتبادلون خلالها الأحاديث و الانشغالات و يتناقشون حول مختلف المواضيع التي تهمهم. حركية تتواصل إلى غاية آذان المغرب أول شيء يمكن أن يلفت انتباه المتجول في »زقاق السوافة»، هو ترويج الباعة لسلعهم بأصوات عالية و عبارات رنانة، و لكل بائع طريقته للإشهار أو ذكر الأسعار، لجلب الزبائن. و تصنع طاولات الباعة المستعملة للعرض، ديكورا مميزا، فالحركية متواصلة و الازدحام شديد بهذا السوق الشعبي، الذي يمتد عبر كل من حيي ابن باديس ولحسن مرير، فيتوسط الأحياء القديمة، و يجمع أعدادا كبيرة من المواطنين الذين جعلوا منه مقصدا لتلبية حاجياتهم خلال الشهر الفضيل، الذي يكثر فيه الطلب على المواد الاستهلاكية. اللافت أن أسعار البضائع المعروضة مقبولة، مقارنة بتلك المتداولة على مستوى المحلات و الأسواق العادية، كون هذا الفضاء التجاري تم تصنيفه من طرف مديرية التجارة لولاية خنشلة، بالتنسيق مع مصالح البلدية، ضمن أسواق الرحمة، التي تهدف إلى كسر عمليات المضاربة في الأسعار ، و تشجيع الإنتاج المحلي. أكد لنا عمي منصور، ابن المنطقة، أن هذا السوق هو القلب النابض لخنشلة و المكان الذي يجتمع فيه سكانها، على اختلاف مستوياتهم، من المواطن البسيط إلى ميسور الحال، لتوفره على كل ما يحتاجه المواطن، من سلع و مواد، قد لا يجدها في فضاء آخر، من خضر و فواكه، مأكولات جاهزة، مشاوي، ملابس، و هواتف نقالة، و حتى الخردوات يبحث عنها الكثيرون من قاصدي هذا السوق الذي لم يتغير شكله و لم يفقد شعبيته، رغم قدمه. يوفر للشباب البطال فرصة لكسب الرزق ما يميز زقاق السوافة في شهر رمضان، هو استقطابه للباعة من عدة مناطق، سواء كانوا تجارا دائمين أو موسميين، لعرض سلعهم و جلب الزبائن، باستخدام أساليب تسويقية بسيطة لجذب الزبائن. وتجد بين الباعة شيوخ، كهول، شباب و حتى أطفال، فقد وجدنا هناك طفلا يبيع الأعشاب العطرية القصبر والبقدونس وقال لنا أنه يأتي إلى السوق بعد خروجه من المدرسة، أو في الأيام التي لا يدرس فيها، و يجلب الأعشاب من عند فلاح من بلدية طامزة، ليبيعها و يساعد والده في مصاريف البيت. و وجد عدد من الشباب في السوق، حلا للبطالة التي يعانون منها، ليصبحوا أفرادا منتجين، متحدين الظروف الصعبة لكسب الرزق الحلال و هو حال الشاب عادل الذي لجأ إلى «زقاق السوافة» لكسب مصروفه و مساعدة أسرته، حيث أنه يبيع «الحميص» الذي يتكون من الفلفل المشوي بنوعيه، و كذا الطماطم و الثوم مشويين، و يسكب فوقها زيت الزيتون، وهو الطبق الذي تحضره له والدته في المنزل، ثم يضعه في علب محكمة الإغلاق. و في كل يوم يفرد طاولة على مستوى هذا السوق، لعرض علب «الحميص» التي تلقى إقبالا معتبرا من الزبائن في رمضان، فيبيع كوبا بلاستيكيا صغيرا ب50 دج و يتضاعف السعر كلما زادت الكمية المطلوبة، مشيرا إلى أن الزبائن الذين يشترون منتوجه لأول مرة، يعودون عدة مرات، ما جعله يزيد الكمية المعروضة. انتعاش مهن موسمية مرتبطة برمضان تنتعش في زقاق السوافة مهن موسمية مرتبطة بشهر رمضان، و يقبل عليها الباعة لأنها تعكس النمط الاستهلاكي للصائمين الذين يسعون لتزيين مائدة الإفطار بكل ما يشتهونه من مأكولات شعبية و حلويات و خبز تقليدي بأنواعه، و مخللات و مقبلات و مملحات ذات أشكال و مكونات مختلفة، تعرض بأسعار أقل من أسعار المطاعم و المتاجر التي يستغل أصحابها المناسبة لرفع الأسعار و فرض زيادات تتجاوز ثمنها الحقيقي. من بين الأكلات الجاهزة المعروضة على الطاولات المغطاة بمظلات، يحتل الصدارة البوراك، البوزلوف و الكرعين، الدوبارة، البيتزا التقليدية، هريسة اللوز، الهريسة المنزلية، الكسرة بأنواعها و الرغدة، الدجاج المشوي على الجمر، و العصائر الطبيعية، التي يبرزها الباعة لتحريك شهية الصائمين، فيرتبوها و ينسقوها بطريقة جذابة، و تنبعث منها روائح تسيل لعاب الصائمين. و بالرغم من البساطة التي يتميز بها زقاق السوافة، إلا انه يلعب دورا مهما في تنشيط الحياة التجارية و الاقتصادية بالولاية، فقد وجد الكثير من الشباب فرصة للاسترزاق، في مكان يعتبر جزءا من ذاكرة الولاية، لا يزال صامدا أمام متغيرات الزمن، محافظا على مكانته الخاصة عند الخنشليين.