uالكثير من الروائيين حاولوا اِستلهام التراث الصوفي رغم مخاطره يعتقد الكاتب والروائي عبد الوهاب بن منصور، أنّه مهما قِيل عن الرواية التي اِعتمدت أو اِستندت على التاريخ فهي رواية وليست تاريخاً ولا يمكن أن تكون بديلاً عنه. كما يرى أنّ الرواية هي تاريخ من لا تاريخ لهم بتعبير عبد الرحمن منيف. وأنه من واجبها كتابة التاريخ غير الرسمي والشفوي. فالرواية -حسب رأيه- تقول ما لم يقله المُؤرخ والسياسي أو ما حاولاَ إغفاله. حوار: نوّارة لحرش بن منصور، يقول أنّ كتاباته تنهل من الصوفيّة وقاموسها وتسبح في فضاءاتها الرحبة، وفي هذا السياق، يعتقد أنّ التصوّف ليس فلسفة أو معرفة كما يُشاع عند كثيرين، بل هو مُمارسة. المُمارسة التي أوجدت معها فلسفة حياة. إلى جانب هذا تحدث عن تجربته في كتابة المسرح والسيناريوهات الوثائقية والسينمائية. كما لم يغفل في حديثه عن تأخر ترجمة النصوص العربية، وأرجع السبب بالدرجة الأولى لتقصيرنا في تقديم أعمالنا. للتذكير، عبد الوهاب بن منصور، قاص وروائي، صدرت له مجموعة من الأعمال الأدبية، من بينها مجموعته القصصية الأولى «في ضيافة إبليس» العام 1994 عن قصر الثقافة والفنون بوهران، بعدها عرج إلى كتابة الرواية، فكتب «قُضاة الشرف» التي صدرت في العام 2001، عن منشورات اِتحاد الكُتّاب، والتي تُرجمت إلى الفرنسية، كما ترجم معهد غوته الألماني مقاطع منها في كراسات قدمها للتعريف بالأدب الجزائري خلال معرض الكِتاب الدولي لفرانكفورت سنة 2003. وفي 2006 صدرت له روايته الثانية «فصوص التيه»، والتي صدرت ترجمتها الفرنسية عن منشورات البرزخ. كما صدرت له رواية بعنوان «الحيّ السفليّ». أيضا له مجموعة من السيناريوهات الوثائقية والمسرحية والسينمائية. تعتمد في كتاباتك على ثلاثية: (التراث، التاريخ والصوفية)، ففي روايتك «قُضاة الشرف» -مثلاً- اِستثمرت في التراث والتاريخ. برأيك لماذا الروايات الجديدة تستثمر وتستلهم هذه التيمات؟ - عبد الوهاب بن منصور: مهما قِيل عن الرواية التي اِعتمدت أو اِستندت على التاريخ فهي رواية وليست تاريخاً ولا يمكن أن تكون بديلاً عنه. وشخصياً أرى أنّ الرواية تسدّ ثقوب التاريخ، بمعنى آخر إنّ الرواية هي تاريخ من لا تاريخ لهم بتعبير عبد الرحمن منيف. فالرواية في رأيي المُتواضع، عليها واجب كتابة التاريخ غير الرسمي والشفوي. الرواية تقول ما لم يقله المُؤرخ والسياسي أو ما حاولاَ إغفاله، لأنّ، مثلما قال منيف عن الرواية التاريخية، أحداثها وتأثيرات هذه الأحداث لا تزال تجري أمام أنظارنا، أي الآن. وبكلّ بساطة فهي إعادة تركيب ونسج لأحداث وفق رؤية آنية. أمّا عن التصوّف فالمسألة بالدرجة الأولى مُتعلقة باللّغة، لغة السرّ والكتمان ذات حمولة خاصة لذلك نجد كثيراً من الروائيين حاولوا اِستلهام التراث الصوفي رغم مخاطره، وأقول مخاطره لأنّي أعتقد أنّ التصوّف يُقرأ من داخل وليس من خارج مثلما هو الحال عند كثير من الروائيين. التصوّف مُمارسة قبل أن يكون معرفة أو فلسفة كما يعتقد البعض أيضاً رواية «فصوص التيه»، تغوصُ في الفضاء الصوفي بقوّة. ما الّذي يجعل الصوفيّة تستهويك وتفرد طقوسها على كتاباتك؟ - مثلما قلتُ سابقاً، فالتصوّف يُقرأ من داخل وليس من خارج، بمعنى أنّ محاولة اِستلهام لغة الصوفيين فقط محفوفة بالمخاطر، بدءاً من السمع والفهم فالمعرفة ثم العرفان. والدرجات الأربعة لا يمكن بلوغها من خارج، أي دون تجربة صوفية خالصة. فالتصوّف مُمارسة قبل أن تكون معرفة أو فلسفة كما يعتقد كثيرون. وفي رواية «فصوص التيه» حاولتُ الجمع بين الطقس والقاموس الصوفيين وعملتُ على تقديم نص روائي حامل للمعرفة وليس مجرّد رواية أحداث تترابط فيما بينها. وأعتقد أنّ الكتابة تجربة شخصية، لذلك كان لعامل البيئة التي عشتُ فيها تأثيراً عليّ، فقد تربيتُ في وسط صوفي بطقوسه المختلفة ومُمارساته وحكاياته، التي تبلغ حدّ الأسطورة زيادةً عن لغة الإشارة والرمز، وأمام كلّ هذا التراكم كان علي واجب السؤال والمُساءلة بإنتاج نصوص روائية تستلهمُ هذا التراث. ما بيني وبين كتاباتي خيطٌ رفيع ولا تخلو نصوصي من سيرتي روايتك «الحيّ السفليّ» نأيتَ بها من الصوفيّة إلى الواقعية أكثر، كما اِشتغلت فيها على محطات من سيرتك الذاتية. لماذا اللجوء إلى الذات والسيرة في هذه الرواية تحديداً، وهل الصوفيّة لم تعد ملاذاَ لكتاباتك ولخطك الأدبي؟ - لقد قلتُ أنّ الكتابة تجربة شخصية وما بيني وبين كتاباتي خيطٌ رفيع، أي لا تخلو نصوصي من سيرتي. فروايتي «الحيّ السفليّ» ليست بشكل «قُضاة الشرف» ولا «فصوص التيه» رغم أنّها تنبع هي الأخرى من التراث والتاريخ. وأعتقد أنّ الموضوع يفرض طريقة ولغة تناوله لذلك نأيتُ عن الصوفيّة في هذا العمل فقط. ورواية «الحيّ السفليّ» تقرأ تاريخ الإنسان وارتباطه بالمكان فالحيّ السفليّ له معنيان. الترجمة تتأخر عادةً للنصوص العربية ويرجع ذلك بالدرجة الأولى لتقصيرنا في تقديم أعمالنا «فصوص التيه» تُرجمت إلى الفرنسية وصدرت عن منشورات «البرزخ»، كما تمت ترجمة «قُضاة الشرف». لماذا برأيك تتأخر الترجمة في الاِلتفات إلى النصوص العربيّة؟ - صحيح ما تقولين.. فالترجمة تتأخر عادةً للنصوص العربية وأعتقد أنّ ذلك يرجع بالدرجة الأولى لتقصيرنا في تقديم أعمالنا، ولو أنّي أرى أنّ مهمة الكاتب هي الكتابة للقارئ العربي أوّلاً، أي يكتب لمجتمعه وليس لمجتمعات أخرى. ولا أنكر أنّ الترجمة لنصوصنا تفتح لنا حقولاً جديدة سواء من حيث القارئ أو الناقد. فبعد ترجمة «قُضاة الشرف» إلى الفرنسية بعد صدورها ثمّ ترجمة فصول منها إلى الألمانية في كُتيب كان معروضاً بمعرض فرانكفورت بألمانيا سنة 2003، تمّ نقل «فصوص التيه» إلى الفرنسية وأنا سعيد بهذه الترجمة خاصةً وأنّها حافظت على خصوصياتها اللغويّة. المسرح له إمكانية تحويل نص من الورقة إلى عمل حيّ يُسمع ويُشاهد تكتب للمسرح وتشتغل على نصوص مسرحية بالموازاة مع الكتابة الروائية. لماذا هذا الهوس بالمسرح، وهل تستوعب الخشبة ما لا يستوعبه المتن الروائي؟ عبد الوهاب بن منصور: المسرح حلم طفولي قديم. لقد عشقتُ المسرح وأنا تلميذ ثم طالب وعشتُ فترة مُتواضعة مع المسرح ثم اِنقطعت عنه لكن ظل الحنين إليه مشدوداً. وفي محاولة مني لتحقيق هذا الحلم القديم أو جزء منه أشتغل كتابةً على المسرح. وبالنسبة لي فالكتابة للمسرح أو الرواية أو القصة هي عمل إبداعي أحاول من خلالها تقديم إضافة جديدة وكتابة شيء متميز وجديد. فالاِختلاف الموجود بين هذه الأجناس يبقى اِختلافًا تقنياً فقط إضافة إلى أنّ المسرح يبقى عملاً جماعياً يتدخل فيه مجموعة من التقنيين لإحياء النص في حين تبقى الرواية عملاً مرتبطاً بشخص الكاتب. فالمسرح له إمكانية تحويل نص من الورقة إلى عمل حيّ يُسمع ويُشاهد.. أنا مولع بقراءة التاريخ والبحث التاريخي إضافةً إلى التصوّف إلى جانب هذا، كتبتَ سيناريوهات لأفلام وثائقيّة وسينمائية، منها سيناريو تاريخي حول التعذيب في الجزائر (سكوت، إنّنا نعذب). ماذا عن هذه التجربة، وما الّذي دفعك إلى خوض غمار الكتابة الوثائقية والسينمائية، وهل السينما الجزائرية تناولت موضوعة التعذيب كما يجب؟ - منذُ سنوات اِتجهتُ كذلك لكتابة سيناريوهات أفلام وثائقية، ولا أنكر أنّ ما شدني إلى هذه التجربة المُتواضعة هو عملية البحث الّتي تسبق الكتابة ثم تصوّر العمل فنيًا من مؤثرات وصوت وضوء...إلخ. فأنا مولع بقراءة التاريخ والبحث التاريخي إضافةً إلى التصوّف كما قلت سابقًا لذلك كان أوّل سيناريو كتبته تمحوّر حول شخصية صوفية جمع بين الموسيقى والشِّعر والتصوّف.. ومن بين الأعمال كان سيناريو فيلم وثائقي حول التعذيب بعنوان «سكوت إننا نعذب». ورغم الأفلام الكثيرة التي تعرضت لهذا الموضوع الحساس فإني عملت عليه بطريقة جديدة حيثُ لم أسقط في متاهة ذكر التعذيب الّذي تعرض له الجزائريون وطُرق التعذيب وأماكنه ومراكزه فقط بل تطرقت إلى أسبابه وأهدافه السياسيّة والاِجتماعيّة والثّقافيّة، إذ ليس من المعقول أن نربط التعذيب في الجزائر بمعركة الجزائر فقط أو لأجل الحصول على المعلومة، مثلما كان يُوهمنا الاِستعمار الفرنسي وعليه تم إنجاز مجموعة كبيرة من الأفلام الوثائقية أو التخييلية. لقد كان التعذيب في الجزائر مرتبطاً بنظرة عنصرية بحتة تعود إلى بداية الاِحتلال، ولم يكن أي جزائري سواء كان رجلاً أو امرأة أو طفلاً في منأى عن التعذيب، ولم تخلو مدينة أو دشرة جزائرية من مركز للتعذيب. بكلّ بساطة فإنّ التعذيب وفنونه كان يدرّس في مدرستين أُنشئتا خصيصاً لهذا الغرض واحدة بسكيكدة وأخرى بآرزيو. اِنطلاقاً من قراءتي لاِبن عربي ولفصوصه حاولتُ تبسيط متنه بمتن يُحيل إليه ويستند إليه بين "فصوص التيه" و"فصوص الحكم" لاِبن عربي، أين تكمن القواسم المشتركة وأين تختلف وتتمايز، وما الّذي أضافته فصوص ابن عربي لتجربتك ولفصوص بن منصور، أي لفصوصك؟ - طبعًا فمن خلال العنوان «فصوص التيه» الّذي يُحيلنا إلى فصوص الحكم لاِبن عربي ندرك أننا ندخل عتبة صوفية ونتدرج في معارجها بغية بلوغ حكمة ما أو لنا أن نتيه بين مسالكها. والتيه حكمة صوفيّة تبدأ بالقلق ثم المحو ليكون اليقين. فالتصوّف لا يعترف بالتضاد، إذْ ليس في قاموسه كفر وإيمان ولا رطب ويابس، إنّما العذب من العذاب. واِنطلاقاً من قراءتي لاِبن عربي ولفصوصه حاولتُ تبسيط متنه بمتن يُحيل إليه ويستند إليه. وما الاِبن (في رواية فصوص التيه) غير مريد بن عربي (في فصوص الحكم) مسلوب الإرادة وعديم القدرة لكن حقه في السؤال يظل يربطهُ بالتعرج والتدرج في المقامات حتى يبلغ مقام التيه إذ تمحى فيه كلّ الأضداد وتلك حكمة أحببتُ أن أُعرف. بعد هذه الكتابات والمؤلفات، كيف تقرأ علاقتك بالتصوّف، وهل خدمت كتاباتك على مستوى اللّغة تحديداً، وهل التصوّف لديك أسلوب كتابة وتعبير فقط، أم هو أيضا أسلوب حياة ومُمارسة؟ - كما قلتُ سابقًا فإنّ التصوّف ليس فلسفة أو معرفة كما يُشاع عند كثيرين، بل هو مُمارسة. المُمارسة التي أوجدت معها فلسفة حياة. ولذلك أقول مرّةً أخرى، أنّ التصوف لا يمكن قراءته وفهمه من خارج أي أن تجلس وتقرأ المتن الصوفي وتقول فهمت. لقد وضع اِبن عربي الكتابة أو القراءة على مستويات ثلاثة، فالأوّل للعامة والثاني للخاصة والثالث لخاصة الخاصة. فالمستوى الأوّل هو لمن أراد القراءة من خارج، مثلما وضع للخاصة ولخاصة الخاصة شروطا لبلوغ العرفان وهو الجمع بين العمل والقول إذ اشترط السمع ثم الفهم ثم المعرفة. أمّا الحديث عن اللّغة فذاك حديثٌ آخر لأنّ الصوفيّة وضعوا قواميس لمصطلحاتهم فالقبض عند بن عربي ليس هو قبض النقشبندي أو الجنيد أو حتى القشيري.