سليم بوفنداسة كان لا بد أن يموت محمد أركون حتى يثار بعض الجدل حوله في الجزائر، لكن الجدل هذه المرة أثير حول جثته وليس حول انتاجه، بعدما قررت زوجته مغربية الأصل دفنه في مسقط رأسها بالدار البيضاء عكس رغبة أهله الذين كانوا يريدون دفنه بتيزي وزو الجدل أثير في بعض الصحف وعلى مواقع ومنتديات على الأنترنيت ودار في عمومه حول الجثة وليس حول الميراث، مع اسثناءات ظهرت في صحف ومواقع عربية ذكرت بمنجزه وذهب بعضها إلى إحياء الهجوم عليه بسبب مقولاته حول تاريخانية تفسير القرآن ورفضه مبدأ الإجماع في الفقه. وهي اتهامات ليست بالجديدة قد تضاف إليها عمليات تكفير وطعن في الوطنية رغم أن الرجل كان واضحا في جانبه الإيماني وفي علاقته ببلده الأصلي حيث ظل يؤكد أنه لازال جزائريا وأن تفكيراته انطلقت من البيئة الجزائرية في الأساس وانه منذ الخمسينيات كان مؤمنا بإيديولوجيا الكفاح لكنه كان يلح وهو في جامعة الجزائر على ضرورة إرفاق هذه الإيديولوجيا بأسئلة عن بناء الأمة لتجنب الإخفاق فيما بعد.مات أركون في الثانية والثمانين وكان لا بد أن يموت في يوم ما ( فكلنا سنموت ما دام الموت هو المصير العادل الوحيد الذي نخضع لسلطانه في نهاية الأمر، لحسن الحظت!) والمشكلة ليست في موته الآن ولكن في وجوده سابقا، فأركون لم يكن موجودا في الوسط الثقافي والعلمي الجزائري إلا بقدر لا يعكس مكانته العلمية كما أن أعماله لم تثر اهتمام الناشرين والمترجمين الجزائريين، كما لم يثر الراحل اهتمام الجامعات الجزائرية في حياته. ولا ذنب هنا لأحد، فالرجل كان يشتغل في مواقع متقدمة من المعرفة الإنسانية ومن الطبيعي أن يتواجد في المناخ المناسب لعمله، والجامعات الوطنية كانت ولازالت تشتغل في مستوى آخر. وكذلك الشأن بالنسبة لحركة النشر في الجزائر المرتبطة أساسا بدعم الدولة، في غياب ناشرين حقيقيين يشتغلون على قيمة الآثار التي يخرجونها إلى العالم وجودتها ويضعون مؤسساتهم في تماس مع حركة النشر العالمية ومع الإنتاج المعرفي الجديد. بل أن محمد أركون وصل إلى نتيجة مأساوية مؤداها أنه لا يمكنه التواصل مع قراء العربية الذين لم يستوعبوا مفاهيمه وانتهوا إلى تكفيره، فقرر الكتابة بالإنجليزية لمسلمي آسيا من الماليزيين والهنود وغيرهم . لأنه فهم بأن التقدم الذي تعيشه هذه البلدان شامل يمس الفكر والفلسفة والتخلف الذي يعيشه بنو جلدته شامل أيضا، وربما سيطول أمام "غياب العقل" لفترة تناهز ثمانية قرون، والمقاومة التي يتعرض لها "العقلانيون" الجدد في مناخات ثقافية تطغى عليها الأساطير الخادمة للنخب الحاكمة في الدول العربية والاسلامية بعد المرحلة الكولونيالية.تعطيل العقل، أدى إلى تخبط وأبطل الإبداع ولم يتردّد أركون في محاضرة القاها بالقاهرة قبل ثلاث سنوات في اتهام الغرب بالتواطؤ من أجل أبقاء الوضع على ما هو عليه، لأن النخب الحاكمة في الغرب تلعب خارج ميراثها العقلاني من أجل مصالحها الأمر الذي جعلها تعود إلى ميراث عصر الظلمات من خلال التمركز حول الذات وإنتاج الخطب العنصرية والتمييزية واختراع مقولة "الحروب العادلة" لإعادة مكبوت العصور الوسطى إلى ساحة الوعي الغربي كما حدث خلال الحرب العالمية الثانية.توجه أركون غربا وشرقا كان بحثا على الأداة والمتلقي، في وقت غرق فيه العالم العربي في ظلمات جديدة، مع انفجار وسائل الاتصال الحديثة واسعة التأثير وظهور نجوم الفتاوى على الفضائيات الذين نجحوا في توجيه ضربات قاتلة للفكر الإسلامي وأعادوا الجماهير إلى العصور الغابرة، من خلال إبعادها عن القضايا الجوهرية. في هذا الوقت يبدو المفكر الإسلامي والباحث الأكاديمي معزولا، وكذلك كان أركون الذي لم يتواجد في العقود الأخيرة إلا في عدد محدود من الجامعات العربية في مصر والمغرب على الخصوص.ويكتسب رحيله هنا بعدا رمزيا يحيل إلى موت العقل. حتى و إن بقيت الأركونية في حاجة إلى اكتشاف لأنها تقترح عبر "الاسلاميات التطبيقية" قراءة علمية للموروث الإسلامي، بعيدا عن نزعات الأسطرة كما تحاول وضع هذا الموروث في ريبيرتوار الثقافة الإنسانية، على اعتبار أن الحضارة الإنسانية واحدة كما تقول بذلك نظريته عن الأنسنة، التي كانت سابقة للعولمة، التي أخذت النزعة الاستهلاكية والتجارية في العلاقات بين الأمم وأغفلت الجوهر المشترك.وفوق رمزية الغياب تلوح عبثية مرّة في النزاع حول الجثة بين أهل المفكر في الجزائر وزوجته مغربية الأصل ثريا اليعقوبي، حيث ذكر شقيقه أعمر لصحيفة "وقت الجزائر" أنه يحوز وصية من الراحل لدفنه بمسقط رأسه مؤكدا ان العائلة ستناضل من أجل إستعادة جثمانه فيما تحدثت وسائط أخرى عن وجود وصية لدفنه في المغرب، وإذا ما أضيف إلى ذلك محاولة السلطات المغربية تسييس هذه القضية الإنسانية ، فإن سيد العقلانية "كرّم" بميتة عبثية تؤكد غربة رجل العقل في حياته وفي موته أيضا.وبالتأكيد فإن محمد أركون لا يستحق هذا المصير مثلما لا يستحق إهمال ميراثه والحديث عن جثته .لكن الأمل الباقي بعد استكمال المشروع الأركوني، هو أن تلتفت الأجيال الجديدة من الدارسين ومن "النخب" إن وجدت إلى هذا المشروع وتنتبه دور النشر في الجزائر إلى آثاره وتوفرها للقراء والمهتمين.