جاك فيرجيس الملاك الذي حولوه إلى شيطان عاش في اليوم ألف مرة بقلوب الآخرين في آخر مشهد من حياته المليئة بالمغامرات و الغموض يودع المحامي جاك فيرجيس عالم الأحياء في بيت الكاتب و الفيلسوف الفرنسي فولتير، قبالة متحف اللوفر في رمزية كبيرة. نصير المظلومين، المستفز، المحامي الذي اختار هذه المهنة لتمنح حرية أكبر، غادر هذا العالم بكبرياء و أناقة. قلب المحامي كف عن الخفقان، حاملا معه الكثير من الأسرار ليبقى الغموض يلف مسيرة هذا الرجل المثير للجدل طوال حياته الخاصة و المهنية.عاشق الكلمات، رحل وهو الذي حاول أن يجمع بين الأدب و المحاماة و حتى التمثيل، حيث أدى دورا عن شخصه في مونولوج " الخصوم المتسلسل" الذي حاول من خلاله مسرحة العدالة على السلم الإنساني ، وفي هذا الصدد يقول " من المؤكد أن بين العدالة و الأدب علاقة كبيرة، المأساة هي موضوع الرواية ولكن أيضا المحاكمة ". في رحلة العمر التي امتدت على مدار 88سنة ، لم يكن مسالما أو مهادنا سواء في مواقفه أو في القضايا التي كان يرافع فيها، كان هذا النوع من القضايا الشائكة و الغريبة مجاله الحيوي، كان مستعدا حتى أن يرافع من أجل الشيطان، كما كانت تلقبه بعض الألسن السليطة وبعض وسائل الإعلام، وكان يعتبر أن معركة الأفكار أخطر من معركة القنابل، كما قال في تعليقه عندما طلب كارلوس أن يرافع عنه. العشاء الأخير لجاك فيرجيس لقد مات بين ذراعي، في حب وهدوء، كانت الابتسامة تعلو محياه، "لقد مات في بيتي" بهذه العبارات وصفت المركيزة دو سولاج ساعة موت فيرجيس، بينما كانت تحت صدمة فقدان حبيبها. في الطابق الأول أين توجد شقتها في حي فولتير بباريس، كان العاشقان على أهبة لتناول وجبة العشاء، كان فيرجيس في الغرفة القديمة التي توفي فيها في 30ماي 1778فولتير.. كانت الساعة تشير إلى الساعة الثامنة ليلا ..العشاء كان جاهزا، وطلب ليلتها فيرجيس تناول قطعة لحم خروف، وبينما كان في طريقة إلى المطبخ فجأة أحس بدوران، جلس على أريكة لأخذ أنفاسه، نوبة قلبية أخذته في لمح البصر رأسه مالت، وبيده مازال كأس النبيذ. المركيزة وفي لحظة ارتباك استنجدت بجارتها الطبية مارينا التي لم تكتشف أن فيرجيس تعرض لنوبة قلبية، بعدها تم طلب الإسعافات، لكن دون جدوى فيرجيس مات، في لحظة حزن على فراق الحبيب قالت دو سولاج " الموت أخذه بلطف". في تلك الليلة تم إخبار أبنائه من زوجته جميلة بوحيرد، ابنه لياس ( 44سنة) ظل إلى جانب والده طوال الليل نائما على الأرض، وفي اليوم الموالي لحقت ابنته مريم المقيمة في نيويورك، أولاد فيرجيس كانوا يعلمون بهذا المخبأ الغرامي لوالدهم، حيث كان أفراد العائلة يقضون فيه أعياد نهاية السنة. ابن الطبيب المتشرد الذي أصبح نجما ولد جاك فيرجيس إداريا في 5 مارس 1925 في اوبون راتشتاني بسيام (تايلاند حاليا)، حيث كان والده ريمون، قنصل فرنسا و يقول عن والده "لقد ولدت من أب متشرد، مهندس زراعي في الصين، وأستاذ في شنغهاي، فكان القنصل و الطبيب" تزوج والده ريمون من المعلمة الفيتنامية خانغ التي توفيت بعد ثلاث سنوات من ولادة جاك وبول، وكان والدهما قد سجلهما على أنهما ولدا في نفس اليوم، رغم أن سنة كاملة تفصل بينهما، قبل أن يتم اكتشاف أن جاك فيرجيس ولد يوم 20أفريل 1924وليس في التاريخ سالف الذكر. ترعرع الطفل فيرجيس في لارينيون، التي استقر بها أجداده من القرن الثامن عشر وكان من الأوائل في مدرسته، منذ الصغر كان قريبا من عالم السياسة، وقد شارك في سن 12مع شقيقه في استعراض للجبهة الشعبية. في ثانوية لا كونت دو ليسل كان في نفس القسم مع ريمون بار، وكان التنافس بينهما على أشده من يحرز على المرتبة الأولى . غير أن حادثة تاريخية حولت مسار حياته، عندما وجهت في 28نوفمبر 1942البارجة الحربية ليوبار مدافعها على لارينيون، في تلك اللحظة قرر الشاب فيرجيس وعمره لم يتعد 17سنة، السفر رفقة أخيه بول إلى مدغشقر و منها إلى لندن للالتحاق بالقوات الفرنسية الحرة، حارب في إيطاليا ثم في فرنسا وكان برتبة ضابط صف، نال على إثرها الكثير من الميداليات و النياشين، كان معجبا بديغول. المهنة التي منحته الحرية في 1945إنضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، وتحت لوائه ترأس جمعية طلاب لارينيون، وفي تلك الفترة تعرف على بعض العناصر من الخمير الحمر، كبول بوط وتميزت حياته بالسفر في أوروبا التي كانت تعيش على وقع الحرب. عشر سنوات من بعد ينال الشاب المتوفق شهادة البكالوريا ، و يقرر أن يمتهن المحاماة، و يبرر اختياره لهذه المهنة :" كان علي أن أختار مهنة، القانون لم يكن من هويتي، لقد درست التاريخ و اللغات، وقلت أن هذه الحرفة ستمنحني حرية أكبر ". وبالموازاة مع ذلك يغادر الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان يرى أن مواقفه كانت باردة إزاء القضية الجزائرية، كان محاميا بارعا و لامعا، يخشى جانبه و مكروه في بعض الأحيان ،عاشق السيجار كان يتلذذ عندما كان يقول " أعبد نفسي "، محرض عبقري، تمكن من خلط اوراق سيرته الذاتية ، دون أن يتمكن أحد من الكشف عن الزوايا الخفية في حياته، سيما المرحلة التي غاب فيها عن الأنظار و التي امتدت على مدار ثماني سنوات (من 1970إلى 1978). ثماني سنوات من الغياب الغامضة في تلك المرحلة يقال أنه قابل ماوتسي تونغ في الصين، ساند القضية الفلسطينية ما جعله محل بحث من الموساد الإسرائيلي لقتله، فيما أشارت مصادر أخرى أنه كان في خدمة المخابرات الصينية، وفجأة ظهر فيرجيس، بنظارته الدائرية ، بابتسامته المتهكمة، وعندما سأل عن غيابه قال : " لقد عبرت للجهة الأخرى من المرآة، إنها جزء من حياة الظل ". في الفيلم الوثائقي، الذي يروي قصة فيرجيس تحت عنوان" محامي الرعب " للمخرج بربات شرودور، يعترف فيرجيس،أنه كان متواجدا على فترات في باريس وعاش فيها متخفيا ، كما لم يستبعد المخرج فرضية أن اختفاء المحامي كان لأسباب مالية، لكنه ظهر فيما بعد سنة 1978و بحوزته مال معتبر ولا أحد سأله عن مصدرها. في الحوار الذي أجرته معه مجلة لوبوان الفرنسية في مارس الفارط قال:" ذات مساء من شهر مارس، انفتح الباب و هبت ريح و همست لي : ارحل، ذهبت لخوض مغامرات دامت تسع سنوات ، كنت في كل مكان، رحلت لأعيش مغامرات كبيرة كانت فاشلة ، العديد من أصدقائي ماتوا، ومن ظلوا على قيد الحياة، هناك عهد الصمت يربطني بهم ". محامي الشيطان دافع فيرجيس عن عدد من الشخصيات المعروفة المناضلة كجميلة بوحيرد (التي تزوجها فيما بعد )ما بين 1957-1962، ثم رئيس الخمير الحمر السابق خيو سامفان في عام 2008، وتوزع موكلوه بين يساريين ويمينيين و نشطاء إضافة إلى دفاعه عن المفكر روجيه غارودي لإنكاره للمحرقة، و النازي كلاوس باربي (1987)، و إليتش راميريز سانشيز الملقب بكارلوس (1994). فيما عرض في عام 2002 خدماته على الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش، لكنه ميلوسيفيتش رفض أية مشورة قانونية من أي طرف. لقبته بعض وسائل الإعلام ب «محامي الشيطان»، وساهم هو نفسه في بناء هذه الصورة من خلال مذكراته " اللقيط المتألق" وبإعطائه لردود استفزازية في المقابلات الصحفية، وقال عندما سئل إن كان سيدافع عن هتلر ، فأجاب: "وأرغب أيضا في الدفاع عن بوش! بشرط أن يقر أولا بأنه مذنب". و في تعليقه على المتهمين الذين كان يرافع عنهم ، يقول فيرجيس "كلما كانت التهمة كبيرة، كان حق المتهم في الدفاع أكبر، كالطبيب المطالب بإسعاف كل الناس ". لم يرافع فيرجيس عن الأسماء المثيرة للجدل او التي كانت تضعه تحت الأضواء وإنما هناك المتممون العاديون كالبستاني المغربي عمر رداد و القائمة طويلة . بين الجبة السواء و القلم لم يكن فيرجيس مولعا فقط بالمرافعات الملتهبة و القضايا الشائكة المثيرة للجدل ،وإنما كان بالأدب وخلال مسيرته الطويلة ،اصدر العديد من الكتب وكان أولها " من أجل جميلة " سنة 1957، قبل أن ينغمس المحامي في ملذات الكلمات التي امتدت على مدار 88سنة، واغلبيتها كانت لها علاقة سواء بالقضايا التي رافع فيها مثل " أدافع عن باربي " أو " عمر قتلني "أو نظرته للقانون وأمور اخرى ، حيث بلغت إصدارته حوالي 20كتابا ،منها قاموس عن عشاق العادلة، كما كان له مونولوج في المسرح. وردة حمراء على قبر فيرجيس كما في حياته و موته، ظل مثيرا للجدل، في جنازته حضر كل الذين أحبوا الرجل لمبادئه، والذين عشقوه، وحتى أولئك الذين ناصبوه العداء في حياته، سواء لمواقفه أو لأنهم كانوا منافسين له في قاعات المحاكم. فيرجيس جمع الفرقاء من مختلف الأطياف السياسية،والاجتماعية والثقافية، وحتى الذين غابوا و أولئك الذين كانوا وراء القضبان الحديدية، بعثوا بورود حمراء . فيرجيس رحل وترك ألف سؤال عن رجل، عن محامي، كان يعيش في اليوم ألف مرة بقلوب الآخرين . ع – قادوم زغاريد على الفتى منصور في رحلته الأخيرة عندما كان جثمان جاك فيرجيس محمولا على الأكتاف على عتبة كنيسة سانت توماس داكان، تعالت زغاريد دوت المكان، مناضلات جزائريات كنا حاضرات يومها، زغاريد على نخب رجل كان يوم الكفاح المسلح يرافع من أجل القضية الوطنية، عن جميلات الجزائر عن جميلة بوحيرد وأخريات. شكل أفريل1957منعرجا آخر في حياة جاك فيرجيس، عندما دعي للدفاع عن المناضلة الشابة جميلة بوحيرد ، يومها لم يكن فيرجيس قد مر على دخوله عالم المحاماة سوى 19شهرا، "بين الجزائريين و أنا كان حب من أول مرة " ومع جميلة أيضا التي تزوج بها فيما بعد، و أنجب منها مريم ( 1967) و إلياس ( 1969) كانت محاكمة جميلة بوحيرد المناضلة في جبهة التحرير الوطني التي حكم عليها بالإعدام بمثابة المعركة لفيرجيس ضد القضاة الذين لم يكونوا سوى امتدادا للنظام الكولونيالي واليد التي يبطش بها، وكان من الواضح أن الحكم لن يكون في صالح موكلته، وجه أصابع الاتهام إلى عدالة بلاده التي يرفضها، شجاعته و جرأته دفع ضريبتها بمنعه من مزاولة مهنته لمدة سنة، لكن في أعين المناضلين فيرجيس أصبح بطلا. رفضه للنظام الكولونيالي لم يكن وليد المحاكمة ، لقد سبق له وأن غادر الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان يرى أن مواقفه باردة اتجاه القضية الجزائرية، اثناء حرب التحرير غامر بحياته، كان شجاعا و مخاطرا في نفس الوقت كعادته، وكانت هذه المرحلة من أزهى فترات حياته. من فيرجيس إلى منصور نضال المحامي تواصل من أجل القضية الوطنية، حيث أرسل من قبل جبهة التحرير الوطني إلى المغرب، و أصبح مستشار الوزير المكلف بالشؤون الإفريقية، وعندما استعادت الجزائر استقلالها اعتنق فيرجيس الإسلام وأصبح مواطنا شرفيا في الجزائر المستقلة التي استقر بها قبل أن يعين في منصب رئيس ديوان وزير الخارجية عمار بن تومي. وفي تلك الفترة أسس مجلة الثورة الإفريقية، في مارس 1963 التقى جاك فيرجيس الزعيم الصيني ماوتسي تونغ حيث سرعان ما أعجب بأطروحات الزعيم الصيني، عندما تمت تنحيته من منصبه عاد فيرجيس إلى فرنسا و أسس مجلة الثورة والتي كانت تعد أول جريدة ماوية في فرنسا. في 1965و بعد الإطاحة بالرئيس الراحل أحمد بن بلة، عاد فيرجيس إلى الجزائر و أقام وزاول بها مهنة المحاماة إلى غاية 1970. ع – قادوم جاك فارجاس في آخر حواراته لا منطق لحقوق الإنسان حين تحارب فرنسا متمردين في مالي و تسلح آخرين في سوريا المحامون لا يقرأون والسياسيون أيضا حين صدر كتاب جاك فارجاس "بإعترافي" منشورات "بيار غييوم دو رو" قبل ستة أشهر و يومين من رحيل كاتبه، أجرت يومية "سيد-أواست" (جنوب-غرب) الفرنسية حوارا مع صاحب القضايا الغامضة الشهيرة، نشرته يوم 10 فيفري 2013 و ربما كان ذلك آخر حواراته، النصر تنشر ترجمة حرفية للحوار. الأستاذ جاك فارجاس يمكن تلخيص كتابك في هذا المقطع " وجدت مع حفاظاتي مع جهاز الولادة احتقار السلوكات اللائقة و قوس بوترين"، كل ثراء و ثروة العالم ، ولدت طفلا مقاتلا؟ جاك فارجاس: ولدت كما يقال مولدا مزيج بين عرقين، لكن دون أن أتعرض لعقدة النقض المرتبطة بالمولدين، بالعكس، من أم فيتنامية و أب من جزيرة ريونيون أحسست في وقت مبكر بأنني مختلف عن الآخرين. جعلتني أصولي مضاعفا (مزدوجا ) و لم تكن تليق بي معايير العالم أجمع حتى و أنا طفل، و كان هذا كافيا لكي أتحرر من السلوكات المطلوبة و المعتاد في الحياة. من هنا نبع الكره لرجال السياسة و الأغنياء؟ حين فقدت سريعا أمي، تمت تربيتي من طرف أبي و عمتي العجوز في هذا المنحى، كقارئ لميربو كان والدي طبيبا و مسؤولا عن فريق شيوعي سري ، و كان لديه كره مرضي تجاه المال و احتقار كبير للسلطة السياسية، و قد ورثت ذلك. "السياسيون خجولون بما فعلوه، لكنهم يفعلونه رغم ذلك" هكذا كتبت و كنت تشير إلى فابيوس و قضية الدم الملوث... نعم... لقد قرأت في كتابي هذا السباق ضد الموت؟ هذا فظيع... دافعت عن هذه المرأة الحامل...هذه المحاكمة جرت فعلا، كانوا مجرد سياسيين يحاكمون سياسيين آخرين، كان هذا مدعاة للإحباط، لا يمكن أن يستمر ذلك لفترة أطول. انضممت إلى المقاومة و عمرك 17 سنة، ثم أنشأت مجلة شيوعية، كنت متعطشا لكي تتخلص؟ لم تكن سوى تجارب رائعة، الحرب ضد القدامى، الهرمين في كل مرة، و التجوال عبر العالم كثوري محترف... لقائي بنهرو، مع ماو (تسي تونغ) كان جنونا. بالرغم من التزاماتي الإيديولوجية المعارضة للجنرال دوغول، كان على الدوام وفيا لي. كان لديه إحساس بالكرامة رغم عمله كرجل سياسة. كتب لي مرة: "إخلاصك لا يترك أحدا لا مباليا". نجحت بتفوق في مسابقة المحاماة سنة 1956 ، لكنك لم تختر الراحة في مكتب باريسي؟ بالعكس ذهبت إلى الجزائر للدفاع عن السياسيين من الأفلان (جبهة التحرير الوطني ) كانت معاداة الاستعمار هي القضية التي تحركني.... ثم بقيية المشاهير باربي، كارلوس، إبراهيم عبد الله، غارودي،غباغبو... كانت مرافعات كبيرة، جعلتني معروفا، مع روابط خاصة جدا مع زبائني، لكنني حرصت في كتابي على التطرق للمجهولين من غير المعروفين، الأبرياء و المذنبين الذين دافعت عنهم. حين توليت القضايا العادية اكتشفت فجأة عالما جديدا، الحياة الحقيقية، أناس يشبهونني. إنه الشخص الذي يعلن إفلاسه، إنها المرأة التي تنتحر مع ولديها... أخرجت من بين العامة عمر رداد مثلا؟ المحاكمة هي تأليف بالمعنى "الاستتيكي" الجمالي للكلمة: لكي ينجح عليه أن يلامس الجمهور... و هذا ما كانت تفتقده أنتيغون؟ بالفعل، في ذلك الوقت لم يكن هناك وسائل إعلام جماهيرية... هناك جملة لأنتيغون تلخص كل شيء: "ليس بوسع الملك أن يبعدني عما هو لي، سأدفن أخي...و إذا كان ذلك جريمة، سأكون قديسة في جريمتي". القطيعة ليست الشتيمة، حين جرت محاكمة واضعي القنابل، قلت أن قيم المتهم أعلى و أنبل من قيم القاضي، لم أصف القاضي بالرعاع أو التافه لكن في العمق كان أفظع و أقبح... حين تتبادل الكلام مع زبائنك، لا نعلم إذا كنت محاميا أو نفسانيا. يبدو أنك مصاب بظاهرة ستوكهولم... أحيانا أقارن نفسي بكتاب برنانوس عنوانه " يوميات قس في الريف" هذا الشخص الذي يحاول أن يفهم ماذا يجري... بالتأكيد أنا مصاب بهذه الظاهرة، بالنتيجة ذلك مثل الرهائن الذين يجدون أنفسهم بعد عشرة أيام مع خاطفيهم يتبادلون الحديث و يقولون لبعضهم في النهاية "هذا الشخص أنا و لو كنت مكانه لفعلت ما فعل". "شخص واحد يستطيع التقرب إلى درجة كبيرة من شخصية المتهم: المحامي" كما أشرت في إحدى ملاحظاتك . الكاتب أيضا أليس كذلك؟ نفكر في ترومان كابوت و "بدم بارد"... كلما نقصت مقاربة الكاتب للخيال، كلما قاربت المحاكمة الحقيقة، فكروا في سان فرانسوا الأسيزي، الذي يتحدث عن الجمال و رونق الحقيقي. لكن بالتأكيد هناك بين العدالة و الأدب علاقة كبيرة. التراجيديا هي موضوع الرواية، و هي أيضا موضوع المحاكمة. هذا درس كتابي. الأدب ساعدني على الفهم، حين نصل إلى مسرح جريمة قتل، لا نقول "الجريمة و العقاب"، نقول "من و لماذا؟"... المحامون لا يقرأون مطلقا، و أما السياسيون فحدث و لا حرج، هذا مفزع. لو لم تكن محاميا ماذا كنت ستكون؟ محامي، لأنه كان علي أن أجد مهنة، في تلك الفترة و كنت درست الحقوق، أنا ما يستهويني هو التاريخ، خاصة الحضارات الغريبة التي تلفها الأسرار، كان ينبغي أن تكون لدي الواسطة، و كنت سأحصل بها على منحة دراسية، وكنت فككت شيفرة الإتروسكيين و كنت سأكون مرحا جذلا. نتحدث قليلا جدا عن سنوات 1970 حتى1980 ، أين اختفيت طيلتها عن الأنظار؟ كنت في كل مكان تقريبا في تلك الأعوام، كانت لي علاقات مع ابن بوتو (رئيس باكستان والد بينازير بوتو)، مع كاميلو توريز و (أبو الحسن) سلامة الفاعل المفترض لتفجيرات أولمبياد ميونيخ، الذي كان يراني محاميا كبيرا و صديقا، لم أكن مع بول بوت (زعيم الخمير الحمر في كمبوديا). "دخان السيجار يبعد الناموس و كذا دعاة الإنسانية" كما يحلو لك أن تقول هل الإنساني طفيلي برأيك؟ الإنسانيون المزيفون نعم، في إحدى الحصص التلفزيونية حين تصادف شخصا يقول لك بنبرة مرتعشة "حقوق الإنسسسااان" هنا تأخذ واحدا... أنظر إلى فرنسا التي تحارب معارضين في مالي و تسلح معارضين في سوريا...أي منطق باسم حقوق الإنسان؟ كنت تفضل أن تكون دانينزيو، غيفارا ، أو زولا؟ زولا ، آخذه بجد كبير، التشي (غيفارا) علمني السيجار لكن حياة دانينزيو و مغامرات حبه تستهويني أكثر فأكثر...لقد كتب هذه الجملة الجميلة "دون فرنسا العالم سيكون وحيدا" نحن بحاجة إلى فنانين... هل تعلم ،فقط الفن و الجمال يعطيان معنى للحياة و هذا المعنى يمنحنا السعادة. بما يكفي لكي نتحدث عن الموت بهدوء؟ لا يزال سرا بالنسبة لي سأقترب منه مثلما أفعل مع امرأة. كان يفترض أن أموت مئة مرة، لكنهم أخطأوا الهدف: شخص يقوم بالمطاردة ثم تتعطل سيارته، قنبلة في شقتي بينما لم أكن موجودا... ما تفضل لجنازتك في فرنسا؟ ثلاثة أو أربعة أشخاص يحبونني و يقومون بدفني، و إذا قام سياسيون باستغلال موتي أحب أن أقول لهم " كونوا على أقل قدر من الكرامة".