الأخذ بالنموذج الغربي في التعاطي مع الدين والسياسة والعلم شرط لتطور المجتمعات العربية * العقلانية النقدية لا تمارس القطيعة مع التراث بل تدخل معه في مساءلة نقدية تساعد الفلسفة، حسب الباحث وأستاذ أم العلوم بجامعة خنشلة، في التفكير النقدي، وتبحث عن إيجاد الحقيقة النهائية، وتهتم بتعليم كيفية العيش الحسن. ويتحدث الباحث الشاب في هذا الحوار عن سر اهتمامه بفكر كانط الإنساني، وعن اختلاف اهتمامات الفلسفة من عصر إلى آخر. حاوره: نورالدين برقادي صرّح قبل أشهر أحد الباحثين المتخصصين في الحقل الفلسفي، في حواره لجريدة النصر عن أركون بما يلي: "في فترة معيّنة أدمنت كتاباته وقرأتها كلّها، تحت ضغط هاجس شخصي، ظننت أني سأجد في طرحه لقضية النص، والوحي، والدين، والعلمانية، وتاريخية النص بعض المفاتيح، لكن ظني خاب بعض الشيء، فكر أركون توليفة نظرية بين الكثير من الاتجاهات والطروحات الفكرية، ومدرسة الحوليات الباريسية في التاريخ، لكن لا تصل بموجب هذه التوليفات إلى أي موقف فلسفي أصيل، سوى تاريخية النص القرآني، وفرضيات حول تشكّله داخل تاريخ الدعوة المحمدية.."، كأستاذ للفلسفة، هل يمكن اختزال فكر شغل كثير من الناس وأثار نقاشات لم تنته بعد، بهذه القراءة المبسّطة ؟ طبعا يجب أن نميّز بين الهاجس الشخصي لهذا الباحث وبين المشروع الفكري-النقدي ل"محمد أركون"؛ أي أن نفرق بين من يبحث عن ذاته في أفكار الآخرين، وبين من يسعى إلى بلوغ الحقيقة حتى وإن كانت في نهاية المطاف تتناقض مع الذات، هذا الأخير ينطبق على المشروع الفكري الذي بدأه أركون القائم على "نقد العقل الإسلامي" بصورة حداثية، نقدية، عقلانية وهي مجهزة بوسائل علمية تمكنها من بلوغ مثل هذا الهدف، ومحمد أركون هو مثال للمفكر المتميز، لكونه أولا مفكر انبثق من المؤسسات الأوروبية المعروف عنها صرامتها، وهو ثانيا مثال العقل الحر، الرافض للجاهزية والتسطيح، حيث يقول أركون: "المشروع النقدي الذي شرعت فيه منذ ثلاثين عاما يتمثل في إعادة تفكير الإسلام "repenser l'islam وهو ليس في المقام الأول فلسفيا ولكنه أولا تاريخيا بالمعنى الذي تكون فيه كتابة التاريخ مجالا تندرج فيه الإشكاليات والمفهوميات والمناهج الخاصة بكل التخصصات التي تدرس الإنسان والمجتمع" (ARKOUN Mohamed, penser l'islam aujourd'hui, p8) أما بالنسبة للتوليفة النظرية لفكر أركون لكثير من النظريات والمناهج الغربية فهذا أمر جدّ طبيعي، بل علامة صحة فلسفية، فليس هناك – اليوم – فيلسوف أو نظرية فلسفية بالمفهوم الكلاسيكي، كل ما هناك نيتشه مفتتا أو كانط مركبا، وهذا ما ينطبق على الفلاسفة المعاصرين (دريدا، فوكو، دولوز، هابرماس، رورتي ...)، وهو ما ينطبق أيضا على المفكرين العرب المعاصرين، إذن يبدو أن كل بحث في استقلالية فكر فيلسوف أو مفكر ما هو بحث لا جدوى من ورائه. أصدرت كتابا، سنة 2011، حول الفيلسوف كانط، تحت عنوان "إيمانويل كانط فيلسوف الكونية"، لماذا كانط ؟ نعم، الكتاب يحمل العنوان التالي: "إيمانويل كانط، فيلسوف الكونية"، صدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان ومنشورات الاختلاف- الجزائر، وأيضا عن دار الآمان- الرباط، سنة 2011، وهو أول أعمالي الفلسفية المنشورة، وهو في أصله رسالة ماجستير تحمل العنوان التالي: "الكوني في فلسفة كانط"، تحت إشراف البروفيسور والأكاديمي البارز الأستاذ الدكتور "جمال مفرج" من جامعة قسنطينة، وهو صاحب فضل كبير علي في توجيه أبحاثي الأكاديمية، أما فيما يخص خطوط الكتاب الرئيسية، فإنه ينطلق من إستراتيجية الفلسفة النقدية ذاتها، على اعتبار البعد الكوني/العالمي الذي كان يشتغل عليه كانط، إنه على عكس الكثير من الفلاسفة المؤدلجين الذي يقفون على حدود الجغرافيا السياسية والتمركز الفكري مثل هيغل. غير أن كانط يقف في صفّ أولئك الذين وصفهم الفيلسوف الألماني "كارل ياسبرس" في فصل من كتابه: "عظمة الفلسفة" بأنهم "فلاسفة إنسانيون"، من هذا المنطلق يبدو أن كانط فيلسوف الإنسانية بامتياز وبلا منازع، ولا أقصد هنا بالإنسانية ذلك الشعور الذي يكنّه كل منا إلى قضايا الإنسان مهما كان دينه أو جنسه تجاه الإنسان الكوكبي، بل إن كانط صاغ ذلك الشعور بطريقة فلسفية محكمة البناء عبر ثالوثه النقدي وحتى في كتاباته الأنثروبولوجية المتأخرة، سواء في مشروعه الأخلاقي، أو السياسي أو الجمالي أو الأنثربولوجي. ارتبطت الفلسفة في الجزائر عند العامة وبعض الخاصة بالعدمية واللا جدوى، ماذا يمكن أن تقدمه الفلسفة للإنسان في حياته ؟ إسمح لي أن أستحضر هاهنا القول المأثور: "من جهل شيئا عاداه"، فتلك الأحكام هي مجرد اعتباطية ولا تمت بصلة بالحكم النقدي البناء، فهي تختزل العمق والصعوبة الفلسفية في العدمية واللاجدوى، لا يخفى علينا بأن البعض – أو لنقل الأغلبية- تبحث عن راحة العقل وهدوء البال وإجابات جاهزة حتى وإن كانت سطحية، غير أن الدرس الفلسفي على النقيض من ذلك، حيرة وشك وتساؤل مستمر، فقد أكد الفيلسوف الألماني "مارتن هيدغر" أن ألم الرأس علامة صحة فلسفية، والمقصود هنا بألم الرأس الوجع الناتج من تشابك الأفكار والبحث عن مخرج لتلك الأزمة الفكرية، والتي ما هي في الأخير سوى نبض من تناقضات الواقع وقد تشكل فكريا، وهنا نستحضر ذلك التأويل الفريد من نوعه في تاريخ الفلسفة لواقع الفكر ولفكر الواقع مع الفيلسوف الألماني"هيغل" صاحب كتاب "فينومينولوجيا الروح". أما عن سؤالكم: ماذا يمكن أن تقدم الفلسفة للإنسان في حياته؟ فلا مفرّ أن نبدأ بالسؤال الذي يفرضه قانون النوع، وهو السؤال الأكثر مرجعية ممكنة، يقول: "ما هي الفلسفة ؟" ينبثق عنه سؤال آخر هو: "ولأي شيء تصلح؟"، والحقيقة أنه يوجد لهذه الأسئلة من الإجابات بقدر ما يوجد من الفلاسفة، إن نظرة في آفاق تاريخ الفلسفة تسمح بالتعرف على ثلاث "وضعيات أو مواقف" تعايشت دائما على مرّ الزمن: تنظر الأولى إلى الفلسفة على أنها تفكير نقدي، وتعزو لها الثانية طموح إيجاد الحقيقة النهائية، وتقول لنا الثالثة عن هدف الفلسفة هو تعليم كيفية العيش الحسن. ألا تزال الفلسفة تثير الأسئلة الكبرى ؟ طبعا ماهية الفلسفة هي الأسئلة الكبرى والأسئلة البعيدة/العلل الأولى، غير أن لكل عصر فلسفي ميزاته وخصائصه، فقد كان العصر اليوناني بالنسبة للفلسفة عصرا أنطولوجيا، عرف أسئلة ميتافيزيقية كبرى، التقت فيه ملحمة الميثوس واللوغوس، وقدمت الفلسفة اليونانية إجابات عن أصل العالم والإنسان ووجود الله، تبعتها فلسفة العصور الوسطى التي قدمت هي الأخرى أطروحات تغذت من اللاهوت ومن الكتب السماوية (التوراة، الإنجيل، القرآن)، أما العصر الحديث فكان معرفيا- علميا أثارت فيه الفلسفة أسئلة المعرفة العلمية (الرياضية، الفيزيائية، المنطقية ...إلخ)، باعتبار الثورة العلمية التي عرفتها الإنسانية آنذاك، بعدها الفلسفة المعاصرة والراهنة التي أصبحت تطرح سؤال الإنسان- بالدرجة الأولى- وفق عبارة الفيلسوف الفرنسي الشهير :"ميشال فوكو": "وفجأة تذكر الإنسان نفسه"، كما أصبح عصرا إيتيقيا بامتياز، تغلغل معه السؤال الأخلاقي في كل مناحي حياة الإنسان، خاصة مع الثورة البيوتقنية التي تدخلت في جسم الإنسان، وفي إمكانية تغيير الجينات، فظهرت أصوات فلسفية تحذر من هذا التدخل المفرط، مثل الفيلسوف الألماني: "يورغن هابرماس" من خلال كتابه: "نحو نسالة ليبيرالية"، وأيضا أسئلة السياسة والعدالة، كما هو الحال مع الفيلسوف الليبيرالي الأمريكي "جون راولز"، من خلال كتابه: "العدالة كإنصاف"، وفي إطار السؤال الأخلاقي، أصدرنا كتابا جماعيا بعنوان:"الفلسفة الأخلاقية- من سؤال المعنى ومأزق الإجراء"، الكتاب صادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون لبنان، ومنشورات الاختلاف الجزائر، ودار الآمان بالرباط، سنة2013، وقد شارك فيه نخبة من الأكاديميين المتخصصين في الحقل الفلسفي من العالم العربي (الجزائر، تونس، مصر، العراق، سوريا...)، ناقشنا من خلاله الفلسفة والسؤال الأخلاقي عبر العصور الفلسفية القديمة إلي الراهن- اليوم، مع إبراز التحول الفلسفي من سؤال الأخلاق الميتافيزيقية نحو الأخلاقيات التطبيقية. في حوار مع الفيلسوف المغربي الراحل د. محمد عابد الجابري، قال صاحب "نقد العقل العربي" بأن ".. التراث يعتقلنا والواجب أن نعتقله.."، كيف يمكن تجاوز الجدال اللا منتهي حول التراث ؟ أولا لا يمكن أن نتجاوز الجدال – فأنت أصلا تسميه الجدال اللامنتهي- فلن يتم تجاوز جدل التراث إلا إذا تم حقا تجديد التراث ومن ثمة تجاوز مشكلاته، وإن تم مجاوزة مشكلات التراث معناه دخولنا في عصر فكري جديد – الحداثة-، وهذا يعني أنه يستحيل علينا أن نقفز على التراث، فإذا كان بالإمكان أن نعطي أسماء لأنفسنا لقلنا أننا كائنات تراثية، فالتراث يسكننا ونحن نسكنه، وعبارة المفكر الراحل د. محمد عابد الجابري تعكس العائق الابستيمولوجي الذي يحول دون تفكيك جريء للتراث، لهذا حري بنا أن لا نتساءل عن كيفية تجاوز الجدل حول التراث بل جدير أن نتساءل عن: كيف نمارس الجديد والتحديث من داخل التراث نفسه، وكيف يمكننا أن ننقل هذا التراث الخاص بنا إلى مستوى الكونية، والحقيقة أن هذا يستلزم تفاعل نقدي عقلاني مع تراثنا، فالعقلانية النقدية لا تمارس القطيعة مع التراث بل تدخل معه في مساءلة نقدية لاكتشاف مواطن القوة المنهجية والمعرفية، "...إن ما ننشده اليوم من تحديث للعقل وتجديد للفكر الإسلامي يتوقف ليس فقط على مدى استيعابنا للمكتسبات العلمية والمنهجية المعاصرة، بل يتوقف على مدى قدرتنا على استعادة نقدية ابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون" (محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص552). جاء في كتاب الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود "ثقافتنا في مواجهة العصر"، مايلي: ".. وسيلة الرومانسي في إدراك ما يدركه هي وجدانه لا منطق عقله..وكانت المدينة الصاخبة أكثر ملاءمة للباحث العلمي.."، كيف هي علاقة الجزائريبالمدينة كسلوك وقيم لا كإسمنت وحديد ؟ للأسف تلك العلاقة بين المدينةوالجزائري نجدها أحادية البعد، تكاد تُختزل في العلاقة البراجماتية (سكن، مرافق، صحة، تعليم ...إلخ)، أما من ناحية القيم الجمالية فهي تحضر فقط في الأعمال التاريخية والأدبية والروائية، مثل حضور مدينة قسنطينة في رواية: "ذاكرة الجسد" ل "أحلام مستغانمي" وأيضا رواية "بشير مفتي": "أشباح المدينة المقتولة" ومثل: "الموت في وهران"، ل"لحبيب السايح"، بالإضافة إلى الكثير من الأعمال الروائية والفنية كالرسم مثلا (جسور مدينة قسنطينة – على سبيل المثال لا الحصر)، إذن جمالية المدن وقيمتها الحضارية تكاد تستفز فقط المختصين (التاريخ، الرواية، القصة، المسرح، الرسم...إلخ). هناك من التيارات السياسية والفكرية من يطالب بالاكتفاء بنموذج الحضارة الإسلامية في بناء الدولة، ماذا تمثّل التجربة الإسلامية بالنسبة للتجربة الإنسانية، وهل توجد حضارة مكتفية ذاتيا ؟ التجربة الإسلامية مثّلت بحق مظاهر التجربة الإنسانية في فترة من فترات التاريخ الإنساني، وذلك عندما استطاع المسلمون في العصر العباسي أن يتقبلوا الآخر المختلف اثنيا وعرقيا ولغويا، فتعايش المسلم والبوذي والنصراني والقبطي واليهودي والمجوسي... ، ونظروا إلى هذا الاختلاف على أنه عامل قوة وتميز، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا آنذاك تحت طائلة صكوك الغفران ومحاكم التفتيش، علينا إذن أن ندرك جيدا أن الحضارة العربية الإسلامية في فترة من الفترات بلغت مستوى الحضارة الإنسانية بسبب ثقافة الاختلاف. هل تطورنا مرتبط بضرورة المرور بنفس المسار الذي مرّ به الغرب من: إصلاح ديني، نهضة فكرية، ثورة صناعية، ليبرالية سياسية واقتصادية؟ نعم بالضبط، وليس القصد من هذا أن هناك تطابق بين تاريخ المجتمعات الغربية والمجتمعات العربية الإسلامية، بل إن للتطور في شموليته نواميس يسير بمقتضاها تنطبق على تاريخ الشعوب، بحيث تستفيد هذه الشعوب من الدرس التاريخي فتتقدم نحو الأحسن، فليست هناك قفزات تاريخية، لأن الحتمية التاريخية لا تستثني أحدا، وهذا يعني أن قدر المجتمعات العربية الإسلامية هو أن تمرّ بتلك المراحل التي مرّ عليها الغرب، ليس بصورة مطابقة، ولكنها في تجربتها مع الدين والعلم والسياسة تبدو مطابقة، وهذا ما أكده "صموئيل هنتغتون" في كتابه: "صراع الحضارات"، حينما شبه تاريخ المجتمعات الإنسانية في طريقها نحو التقدم والتطور بعربات في سباق الرالي، فالعربة الغربية قد بلغت خط الوصول، بينما باقي العربات بما فيها المجتمعات غير الغربية قد تاهت في الصحراء، ونسيت أصلا فكرة السباق وتخلت عنه، طريق العودة واحد ووحيد بما أن طريق التقدم والتطور أيضا واحد، فكان على تلك المجتمعات أن تستفيق من غفلتها التاريخية وكان عليها أيضا أن تستأنف سباقها من جديد، ولكن بعد أن سبقتها عربة الغرب إلى خط الوصول بقرون من الزمن. إنه لمن الخطأ أو لنقل الوهم أن يعتقد البعض أن ما بلغه الغرب من تقدم وتطور - اليوم- هو هدف الغرب وحده، وبالتالي لسنا في حاجة إلى هذه الغاية، ومن ثمة سيكون هدفنا غير التطور والرقي، إن الغرب اليوم يحصد النتائج من عمق أسباب صنعها بنفسه، فكان علينا نحن أيضا أن نشاركه الأسباب التاريخية حتى نشاركه النتائج، لهذا لا يمكن لمجتمعاتنا أن تقفز على ناموس التطور ثم تطالب بثمار هذا التطور.