أركون نبّه إلى ضرورة التمييز بين الحداثةالمادية والحداثة العقلية يرى الأستاذ فارح مسرحي، أستاذ الفلسفة بجامعة باتنة ومؤلف كتاب "الحداثة في فكر محمد أركون" الصادر صدر 2006، بأنّ النقاش حول المشروع الفكري للأستاذ محمد أركون لم يبدأ بعد، وينادي بضرورة زرع الثقة بين الفكر العربي الإسلامي المعاصر وجمهوره من جهة ومن جهة ثانية استقراء مشاكل هذا الجمهور وتشخيصها في جزئياتها ثم البحث لها عن الحلول المناسبة، ويرفض تشبيه نقد أركون للعقل الإسلامي بنقد المستشرقين لهذا العقل. أثير النقاش حول أفكار محمد أركون، عقب رحيل هذا الأخير عن هذا العالم، ما رأيك في مستوى ومحتوى هذا النقاش؟ أعتقد أنه لم يفتح بعد نقاش حقيقي وموضوعي حول فكر المرحوم محمد أركون، وكل ما تلا وفاته يعد من قبيل ردود الأفعال البسيطة والسطحية التي لم ترق إلى المستوى الذي يليق بمقام الرجل، فقد مرت وفاته كمجرد حدث بسيط في وسائل الإعلام الجزائرية عدا بعض المنابر التي خصصت له ملفات.وكما هي العادة عندنا، فحال المفكرين بعد وفاتهم تكون في الغالب أحسن من حالهم أثناء حياتهم فعلينا التريث والانتظار حتى يتم تداول وتناول الفكر الأركوني بالتحليل والنقد على صعيد أكثر اتساعا وأكثر أكاديمية من خلال الندوات والملتقيات الفكرية والدراسات العلمية الموضوعية، إذاك يمكننا الحديث عن تقييم لمحتوى هذه الدراسات وما تتضمنه من نتائج قد تسمح بتقييم المشروع الفكري لمحمد أركون . خلال هذه السنة رحل عمالقة الفكر المتنور في العالم العربي؛ نصر حامد أبو زيد، محمد عابد الجابري ومحمد أركون، هل من السهل تقدير وتعويض الفراغ الذي تركه هؤلاء ؟ بالفعل، فرحيل هؤلاء المفكرين يعد خسارة كبيرة للفكر العربي الإسلامي المعاصر ولكن الإشكالية المطروحة ليست متعلقة بالفراغ الذي تركوه، لأن هؤلاء قاموا بدورهم كما ينبغي وعبّروا عن مطالب مرحلة معينة من مراحل تطور الفكر العربي والمجتمعات العربية الإسلامية، وهي المرحلة المتسمة بانبثاق العديد من المشاريع الفكرية التي حاولت الإجابة عن سؤال التراث والحداثة. وفي رأيي فالفكر العربي الإسلامي المعاصر كان بحاجة منذ عقدين من الزمن إلى الشروع في مرحلة جديدة هناك من يسميها النهضة العربية الثالثة وهذا بعد الفشل النسبي لأغلب هذه المشاريع وعدم وفائها بوعود أصحابها من تحديث وتنمية وإقلاع حضاري وخلاص نهائي ...الخ . إذن، فالأمر لا يتعلق بوفاة مفكر أو آخر بقدر ما يتعلق بنهاية مرحلة، وضرورة السعي لتأسيس مرحلة جديدة على أنقاض المرحلة السابقة، وهذا لا يعني بالضرورة إحداث القطيعة مع ما سبق، إنما يعني إعادة قراءته وتقييمه وبيان أسباب فشله ثم الشروع في إرساء قواعد فكر عربي جديد بأهداف جديدة تناسب آمال وتطلعات مجتمعاتنا، لذلك فبدل البحث في سد الفراغ الذي تركه الراحلون يجب البحث في سبل تجاوز العوائق التي حالت دون نجاح مشاريعهم الفكرية في أرض الواقع، ولعل العائق الأكبر يتمثل في انقطاع التواصل بين النخبة المثقفة والجماهير الشعبية، فنسبة كبيرة من هذه الجماهير لا تعرف محمد أركون ولا نصر أبو زيد ولا الجابري ولا العروي ولا هشام جعيط وغيرهم كثر، وإن حدث وأن عرفتهم فلا تتعدى هذه المعرفة مجرد نتف مبعثرة لم يتبين بعد غثها من سمينها.إذن، فالفكر العربي الإسلامي المعاصر مطالب أولا بزرع الثقة بينه وبين جمهوره وثانيا باستقراء مشاكل هذا الجمهور وتشخيصها في جزئياتها ثم البحث لها عن الحلول المناسبة بعيدا عن لغة الخلاص النهائي والتحرير الأكبر للطوبويات التي تدّعي قول كل شيء دون أن تقول أي شيء. بمناسبة حصوله على جائزة ابن رشد للفكر الحر، اعتبر المفكر الراحل محمد أركون، التوحيدي بمثابة أخ حميم لأنه كان مفكر ثائرا، ماذا يجمع بين الفكر والثورة من جهة والتوحيدي وأركون من جهة أخرى؟ بالنسبة للشق الأول من السؤال، من الصعب توضيح العلاقة بين الفكر والثورة في أسطر معدودات، فنحن أمام مفهومين فلسفيين عميقين ومتسعين إلى درجة يتعذر معها الإحاطة بالعلاقة بينهما إلا من خلال مدرسة فلسفية أو فيلسوف بعينه. وقد خاضت الفلسفات الماركسية والوجودية والبراغماتية في ذلك أيما خوض. غير أني سأستعين بأحد أقطاب الإبستيمولوجيا الأنجلوسكسونية المعاصرة وهو توماس كوهن الذي تحدث عن كيفية انبثاق النظريات العلمية الجديدة، وما يصدق في حقل العلوم الدقيقة قد يصدق بقدر كبير في الحقل الاجتماعي السياسي، فالثورة تحدث نتيجة عجز الفكر السائد عن حل الأزمات وتحقيق تطلعات الشعوب، ومن جهة أخرى، فالثورة باعتبارها تعبيرا عن إرادة التغيير مهما تكن سبل هذا التغيير، لا تكون فعالة في تحقيق أهدافها إلا إذا كانت موجهة من قبل منظومة فكرية أو إيديولوجيا محددة ومن هذا الوجه يكون الفكر أداة للثورة سابقة وموجهة للثورة، أما الوجه الآخر للعلاقة بين الفكر والثورة فيتجلى في كون الثورة تسمح بانبثاق أفكار جديدة وتفتح المجال لقيام أنماط تفكيرية أخرى وهو ما يدعوه توماس كوهن بظهور باراديغم جديد محل الباراديغم القديم العاجز عن الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها الواقع الاجتماعي والسياسي. وهنا تصبح الثورة أساسا لظهور ممكنات فكرية جديدة.أما بخصوص الشق الثاني من السؤال والمتعلق بعلاقة أركون بأبي حيان التوحيدي فمعلوم لدى دارسي الفكر الأركوني اهتمامه بما يسمى قديما بالأدب العربي والذي يتسع مدلوله ليشمل معارف متنوعة ومتعددة من لغة وفن وفلسفة وتاريخ، وتركز اهتمامه بشكل خاص بمن سماهم الأنسنيين les humanists على غرار الجاحظ والتوحيدي ومسكويه، ويرى أن هؤلاء كان لهم فضل السبق في تأسيس نزعة إنسانية وعقلانية منفتحة متحررة قبل أزمنة النهضة والحداثة الغربية وكثيرا ما ردّد أركون أن التوحيدي مثل أبيه أو أخيه أو خليله حتى أنه قال في أحد حواراته " اشنقوني مع التوحيدي ولا أبالي" وأعتقد أن الحبل السري الذي يجمع أركون بالتوحيدي يتمثل في الاهتمام بقضايا الإنسان والمعاناة من فقدان التواصل مع الأصدقاء قبل الأعداء نتيجة مواقفها الجزئية والمفعمة بنزعة التمرد ضد كل ما هو قائم، والهوة الفاصلة بين الفكر والسلوك لدى الخاصة قبل العامة....، والمجال لا يتسع للتفصيل في هذه المسألة التي تحدث عنها أركون مطولا في كتابه "الفكر الإسلامي نقد واجتهاد".ويبدو أن العلاقة بينهما توطدت أكثر حتى بعد وفاة أركون، حيث كان التوحيدي يقول: ليس الغريب غريب الأوطان، إنما الغريب من في وطنه غريب، فبعد الغربة التي عاشها أركون فكريا وروحيا في حياته، انضافت إليها غربته الجسدية بدفنه خارج وطنه (الجزائر). ذكر أركون في نفس المناسبة، بأن اللغة العربية انفصلت عن معجمها الفلسفي وطغى عليها الخطاب الأيديولوجي، هل المقصود هنا بالخطاب الأيديولوجي الفكر الديني؟ من الصعوبة فصل أفكار أركون عن بعضها البعض، فهي تشكل منظومة فكرية متلازمة متسقة، وهو لا يتحدث عن اللغة العربية بصورة معزولة، إنما يربطها ضمن ما يسميه بالمثلثات الأنثربولوجية بالفكر والمجتمع ويدرس ذلك ضمن منظور يستحضر بقوة المعطى التاريخي. فاللغة تتأثر بالفكر وبالمجتمع فيتسع معجمها أو يضيق باتساع الأطر الاجتماعية للمعرفة التي تحدد ما يمكن التفكير فيه وما لا يمكن التفكير فيه في كل مرحلة تاريخية. ومن ثمة فالفكر العربي واللغة العربية عرفا عصر ازدهار وتفتح وإبداع في القرون الهجرية الخمسة الأولى ثم سادت نزعة التقليد والتكرار والتضييق على الفكر فتقلص مجال المسموح التفكير فيه وتحجرت الأطر الاجتماعية للمعرفة، وأصبحت الكثير من القضايا من قبيل المستحيل التفكير فيها مع أنها كانت مفكرا فيها قديما. إذا فالمقصود من كلام أركون هو طغيان التقليد وذلك في شتى المجالات وعلى رأسها المجال الديني. "الركون إلى الجاهز" تهمة موجهة للتيار الديني "التراث" وللتيار العلماني "الحداثة الغربية"، كيف يمكن إيجاد نقاط تلاقي بين التيارين المتصارعين ؟ الركون إلى الجاهز ليس عيبا في كليته، إنما العيب في الاعتقاد أن لا سبيل للتغيير إلا ذلك السبيل، لأن ذلك من شأنه تضييق مجال الحرية وإغلاق باب الإبداع، مع أن التغيير الحقيقي والفعال يتطلب معرفة دقيقة بالواقع وإطلاعا عميقا على الماضي وعدم الاكتفاء بأحد الطرفين دون الأخر. وإيجاد نقاط الالتقاء بين التيارين يتطلب أولا توفر إرادة الالتقاء لديهما كخطوة أولى، وهي فيما نعتقد غائبة لأن كل طرف متمسك بأطروحته معتقدا أنها الأصح أو الأنجع ومن ثم يتعذر في هذه المرحلة على الأقل الحديث عن تقارب بينهما خصوصا إذا استحضرنا مسألة كون الهدف الأساسي لكلا التيارين سواء أعلنا عنه أو أحجما يتمثل في السعي للوصول إلى السلطة واحتكارها، وهو ما يزيد في اتساع الهوة بين الطرفين. العقل الإسلامي يرحّب بالسلع المادية الغربية ويرفض الأفكار التي أنتجت تلك السلع، لماذا ذلك ؟ كثيرا ما نبه أركون إلى ضرورة التمييز بين الحداثة المادية والحداثة العقلية مشيرا إلى الازدواج الذي يطبع موقفنا من الحداثة حيث نقبل منتجاتها ونرفض أسسها، ورغم أهمية هذا الطرح إلا أننا نعتقد أنه لا يمكن القبول بالحداثة العقلية بصورة مطلقة لأن هناك خصوصيات حضارية للمجتمعات لا يمكن تجاهلها، ومن ثم فالتعامل الإيجابي مع الحداثة يتطلب الحذر واليقظة وتوفر الفكر النقدي المتحرر من عقدة النقص اتجاه الآخر وعقدة الشعور بالعظمة تجاه الأنا. هناك من يقول بأن نقد أركون للعقل الإسلامي لا يختلف عن نقد المستشرقين لهذا العقل، كباحث في فكر أركون، هل توافق هذا الرأي ؟ أولا لا يمكن رمي كل المستشرقين في سلة واحدة فهم لا ينطلقون من نفس المنطلقات ولا توجههم نفس الموجهات، فالاستشراق ظاهرة لها تاريخ وقد مرت بمراحل وتطورت كثيرا سواء في مناهجها أو في مواقفها ومن ثم فمقاربة المستشرقين أو علماء الإسلامياتles islamologues لموضوعاتهم تختلف من فترة زمنية لأخرى ومن مستشرق لأخر. وأبحاث أركون أو مشروعه في نقد العقل الإسلامي تتداخل مع أعمال بعض المستشرقين في نقاط معينة وتختلف معها في نقاط أخرى، نقول هذا مع العلم أنه لا يخلو عمل لأركون إلا وانتقد فيه الإستشراق وأشار إلى الاختلافات التي تميز أعماله عن أعمال هؤلاء العلماء وتتركز هذه الاختلافات في نقطتين أساسيتين هما: الاختلاف المنهجي، إذ يأخذ أركون بمناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية في طبعتها المعاصرة في حين يعتبرها المستشرقون موضة عابرة متمسكين بمناهجهم الكلاسيكية خاصة فقه اللغة والتاريخ السردي، الاختلاف الثاني الذي يفصل مشروع أركون عن الاستشراق يتمثل في عدم الاهتمام بحاضر المجتمعات العربية الإسلامية المدروسة، ففي حين يركز هو على ربط مشاكل الحاضر بماضي هذه المجتمعات ويحاول إيجاد الحلول المناسبة لها، يعتبر أغلب المستشرقين أن عملهم لا يتعدى دراسة التراث أو الماضي. كمسلمين، لماذا ترعبنا كلمة نقد؟ ليست المسألة مقتصرة على المسلمين أو خاصة بهم، فالنفور من النقد شعور عام لدى أي إنسان، لأن هناك علاقة حميمية تربط الإنسان بأشيائه وأفكاره وماضيه وكل ذلك يشكل هويته، والنقد ينصب على هذه الأبعاد مما يجعل الإنسان يشعر بالخطر من تزعزع أو حتى فقدان هويته، خصوصا إذا كان هذا الإنسان في موقع ضعف اقتصادي وسياسي كما هو حال المسلمين الآن، فلابد من تفهم عدم تقبل النقد بسهولة، ومع ذلك يمكن تغيير الوضع شيئا فشيئا وهذا بالانخراط في عملية النقد الذاتي أو العودة النقدية على مسار الذات وتاريخها وتراثها، فالنقد الذاتي أولا؛ أخف وطأة من نقد الآخرين وثانيا يسمح للذات باستعادة الثقة في نفسها وبعناصر هويتها وبالتالي تجاوز مرحلة الخوف على فقدان هذه الهوية وفتح مجال النقاش والنقد حول كل المواضيع بما في ذلك الأكثر حميمية أو الأكثر تقديسا، والتغيير يصبح ممكنا إذا غيّر الناس ما بأنفسهم.