سوق الجزارين بقسنطينة العتيقة يفقد زبائنه و يشهد تدهورا يهدد الحرفة بالزوال يعد سوق الجزارين أحد أقدم أسواق قسنطينة العتيقة المهددة بالاندثار بالرغم من أنه تكفل طيلة قرنين أو أكثر بتزويد الأسر القسنطينية باحتياجاتها من أحشاء و رؤوس المواشي و لحومها لتحضير مختلف الأطباق التقليدية . المار يمكن أن يلاحظ بأن عمليات الترميم الجزئية الترقيعية التي يقوم بها أصحاب محلاته الضيقة المتنافرة من حين لآخر، ليست ناجعة لإنقاذها من شبح الرطوبة و التشققات و الشروخ في أسقفها و جدرانها، كما أنه لا يمكن إلا أن يكتشف بأن نسبة إقبال الزبائن على السوق يتقلص كل يوم أكثر فأكثر حتى أن عددهم لا يتجاوز 12 زبونا يوميا ،بالرغم من إغراء أسعار السلع المعروضة المنخفضة مقارنة بالأسواق و محلات القصابة الأخرى المنتشرة بالمدينة و ما أن يحين منتصف النهار حتى تشل حركة البشر تدريجيا بهذا السوق ، ليتحول المكان في المساء إلى مرتع لعشرات القطط الضالة. يجمع الجزارون الذين التقت بهم النصر، بأن ترحيل معظم "الجيران"إلى المدينة الجديدة علي منجلي ، و انتشار الأسواق و المحلات الجوارية عبر أحياء المدينة إلى جانب بعض المخاوف غير المبررة من عدوى الحمى القلاعية عوامل تهدد الحرفة بالزوال و الموت قريبا. مشددين بأن كل السلع المعروضة يقتنونها في فجر كل يوم من المذبح البلدي حيث تعرض المواشي للرقابة البيطرية، كما أن أعوان مصالح مديرية التجارة تزور الجزارين للتأكد من معايير و شروط الأمن و النظافة و الصحة و بالتالي لا يوجد خطر على المستهلكين بقدر ما تترصد ،حسبهم ، المخاطر مستقبل من لا يزال يمارس هذه الحرفة بحي الجزارين و أسرهم ، حيث أكدوا بأن العديد من زملائهم أغلقوا محلاتهم و ذهبوا دون رجعة. و تأسفوا لأن مصالح التنظيف و الصيانة بالبلدية نست الحي و همشته منذ أكثر من عشريتين و كأنه لا يوجد بالمدينة، مما جعلهم يكلفون بعض الشبان بنقل النفايات على متن عربات "برويطات "إلى المفرغة بالحي المجاور بمقابل مادي. قبل سنوات كان السوق الذي يتضمن حوالي 26 محلا للجزارة يستقطب القسنطينيين القاطنين بوسط المدينة و مختلف أحيائها القريبة و البعيدة نسبيا على غرار حي فيلالي و سيدي مبروك و غيرها. و كذا زوار المدينة من مختلف المدن الأخرى و حتى المهاجرين من عشاق الأطباق التقليدية الشهيرة و في مقدمتها "العصبانة" و"بوزلوف"و "البكبوكة"و"اللسان المحشي" و"اللوبيا بالكرعين" و غيرها.و كانت محلاته تبقى مفتوحة من الصباح الباكر إلى غاية المغرب، فهذا السوق الذي يقصده عادة الفقراء "الزوالية"و متوسطي الدخل، شهير بأسعاره المعقولة و بعرضه الوفير كل يوم ،لأحشاء الغنم و البقر الطازجة من الكبد و القلب و الطحال و المخ و الكلى و الأمعاء ، إلى جانب الرؤوس و غيرها الخاضعة للرقابة البيطرية و العديد من حرفييه اشتهروا بتحضير النقانق "المرقاز"،وفق وصفات تقليدية توارثوها أبا عن جد و هاهو اليوم يتحول إلى سوق للقطط و القلة القليلة من بقايا الزبائن القدامى الذين لا يتجاوز عددهم في أفضل الأحوال 12 زبونا. و ما إن يأتي منتصف النهار حتى تشل حركة البشر ، فتخرج القطط من مخابئها لتصول و تجول و تتكاثر بكل حرية و أمان . مخبأ للمجاهدين عبق التاريخ يسكن المكان و ذاكرة رجاله الذين انسحب بعضهم تحت وطأة اليأس و الصمت ، في حين لا يزال الكثيرون يتحدون التهميش و قسوة الظروف على طريقتهم، فمنهم من يواصل العمل و يناقش مع زملائه كيفية إنقاذ ما يمكن إنقاذه بتكوين جمعية للدفاع عن الحرفة و مطالبة السلطات المحلية بترميم الحي و تهيئته وصيانته على غرار أحياء و معالم أخرى بالمدينة العتيقة أو غلق محلاتهم و نقلهم إلى سوق آخر.. لكن جميعهم يفتخرون بالدور الذي لعبه أجدادهم انطلاقا من هذا الحي خلال الثورة التحريرية. لقد كان حي الجزارين كما قال عمي محمد أحد قدامى الحرفة ،المؤشر الذي يدل على مدى تقدم الثورة نحو أهدافها ومدى صمود الثوار و نجاح عملياتهم ضد الاستعمار كما أن المجاهدين كانوا يختبرون المشتبه بهم في هذا الحي. فإذا دخلوه ثم خرجوا منه سالمين، فهذا يعني بأنهم ليسوا خونة أو "قومية"متسللين إلى صفوفهم. هاهنا كما أكد ،كان يخفي مئات المجاهدين و الشهداء أسلحتهم و يختبئون من الجيش الفرنسي بين أكوام الكرشة و باقي أحشاء البقر و الغنم و يخططون لعملياتهم تحت الطاولات . كل ركن و زاوية تحكي عن شهداء ربطت بينهم الدشرة و الحرفة و حب الجزائر. نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر، أحمد و محمد و محمود و الطيب و مولود و رابح بوهيدل و أحمد و العربي بو هروم و محمد و رمضان و الطاهر و حسن و مختار عميرش و مسعود و عمار و عبد الرحمان و عبد الله بو كرزازة و أحمد بوصبوعة و محمود و السعيد بن عميرة و غيرهم... القصابة كانت حرفة الكثير من الشهداء و المجاهدين وورثها عنهم أبناؤهم و أحفادهم لعشريات طويلة و لا يزال يتذكر اليوم من بقي على قيد الحياة من "معلميها" محطات أخرى في مسار أجدادهم قبل اندلاع الثورة بعشريات.لقد قدموا جميعا من مسقط رأسهم المشترك برج الطهر بولاية جيجل إلى حي عوينة الفول الشعبي بقسنطينة في القرن ال19 و هناك بدأوا ممارسة الجزارة بشكل موسمي ثم خصص لهم سوقا بوسط المدينة القديمة يضم أساسا نهجي السعيد تليلي من الأسفل و نهج حديد صالح من الأعلى ،فقسنطينة على غرار العديد من المدن الإسلامية القديمة اشتهرت بالأسواق المتخصصة ،فكل سوق أو رحبة يكرس لمزاولة حرفة بعينها على غرار سوق الخرازين و سوق الحدادين و رحبة الصوف و غيرها. رحلة الشتاء و الصيف الحرفي ر. بوكرزازة قال لنا بأن الجزارة كانت مدرسة لها أصول و قواعد.فأطفال قريته الجيجلية يتعلمون منذ سن الخامسة أو السادسة تربية و رعي المواشي و عندما يبلغ أحدهم ال 12من عمره، يتم إرساله إلى حي الجزارين لكي يتعلم القواعد الأولية للحرفة من أقاربه. و ابتداء من سن ال16 يتعلم الذبح و السلخ في المذبح و في ال25 عاما يسمح له بتوظيب و قطع اللحوم و نزع العظام ...إلخ. و في ال35 يرخص له بالذهاب للأسواق لشراء الماشية.و عندما يبلغ ال70 تتقلص نشاطاته و تقتصر على توجيه الشباب و استقبال الزبائن.و أضاف محدثنا بأن هذا النشاط كان في منتصف القرن ال19 تقريبا و جزء من القرن العشرين موسميا، حيث كان الجزارون يعملون في فصلي الخريف و الشتاء فقط بقسنطينة و يعودون إلى زوجاتهم و أبنائهم بالدشرة في الربيع و الصيف.و استقر معظمهم لاحقا بشكل تدريجي بمساكن بحي الجزارين و استأجروا أو اشتروا محلات بالمدينة القديمة و عاشوا عصرهم الذهبي بعد الاستقلال و خاصة في السبعينات و الثمانينات من القرن الفارط. لقد أجمع الجزارون الذين تحدثنا إليهم بأن الحرفة و الحي بشكل عام بدآ في التقهقر منذ التسعينات و تواصل إلى غاية اليوم. الجزار عمار بن عميرة، في العقد السادس من عمره قال لنا بأنه بدأ ممارسة الحرفة في سنة1968 و كان الزبائن يقصدون محله بالعشرات في الصباح الباكر بعد عودته من المذبح محملا بسلع طازجة، مشيرا إلى أنه كان يبيع اللحوم و ليس الأحشاء وحدها قبل أن يقلص نشاطه على غرار الغالبية العظمى من زملائه بالسوق. و أضاف مفتخرا بأن زبائنه كانوا من المدينة القديمة و من مختلف أحياء المدينة و ظلوا أوفياء لسنوات عديدة.لكن ترحيل معظم السكان المحيطين بالحي و فتح الهواة و الدخلاء على الحرفة الكثير من المحلات بأرجاء الولاية أدى إلى بداية نهاية و موت الحرفة حسبه .مضيفا بأن الحنين و "نوستالجيا"الأيام الخوالي تجذب القليل من الزبائن من حين لآخر لأجواء الحي،لكن الدخل لا يكفي حسبه لسد احتياجات الأسرة في ظل غلاء أسعار كل شيء،إلا أسعار الأحشاء في سوق الجزارين. الجزارون الشباب يؤكدون: لن نورث الحرفة لأبنائنا هشام ،شاب في العقد الثالث،متزوج و أب لطفلين قال بأنه ورث الحرفة عن أجداده لكنه لن يورثها لأبنائه، لأنها تمر بأسوأ أوضاعها،فهو يتوجه مع بقية جزاري الحي على الرابعة صباحا للمذبح البلدي و يحضرون أفضل السلع لكنها تبقى مكدسة مهما اجتهدوا في تخفيض أسعارها و دفع حتى ثمن تذاكر النقل لبعض الزبائن القدامى الذين تم ترحيلهم إلى المدينة الجديدة.و مازاد الطين بلة حسبه أن محله القديم لا يتجاوز طوله مترين و عرضه مترين أيضا.و الثلاجة الضخمة لا تكفي لتخزين كل السلع التي لا تباع، مما يجعله يعلق بعض الأحشاء أو يعرضها أحيانا على طاولة محله، لكن أعوان الرقابة التابعين لمديرية التجارة بالمرصاد،و لا يتفهمون حسبه الوضع، فأثقلت كاهله و كاهل زملائه الغرامات المالية و قرارات الغلق التي يسلطونها عليهم ويقابلها تقلص مستمر في المداخيل. نفس المعاناة نقلها زميله بوجمعة، مؤكدا بأن جيلهما هو الأخير الذي تورط في حرفة الأجداد التي فقدت قيمتها.و أضاف بانفعال:"منذ أكثر من 20عاما لم يحضر أي عون من مصالح البلدية لتنظيف أو صيانة أو تهيئة الحي و كأنه خارج إقليمها أو غير موجود أصلا في الخريطة.نحن نتكفل بتنظيف كل شيء و نستأجر عمالا لنقل النفايات إلى المفرغة العمومية على متن برويطات خاصة ،كما نقوم بكل أشغال الصيانة و الترميم على حسابنا حتى في الطريق العمومي". و تساءل جزار شاب من نفس عمر زميليه قائلا:"كيف يمكن أن تزدهر حرفتنا مجددا و قد تغيرت العادات الغذائية و أصبح معظم المواطنين يقبلون على الأكلات العصرية الخفيفة و السريعة؟ الواقع يقول بأن تحضير الأطباق التقليدية يرتبط بالمناسبات. وحدهن الجدات و بعض الأمهات فقط يتذكرن من حين لآخر طبق "العصبانة" و "البكبوكة "و "اللوبيا بالكرعين". أتمنى أن تتدخل الجهات المعنية لتهيئة هذا السوق وفق المعايير الصحية و التجارية و القانونية للأسواق العصرية المنظمة أو تحولنا لسوق مهيأ آخر و تسمح لنا بتوسيع نشاطنا لبيع اللحوم إلى جانب الأحشاء". في حين يفضل معظم الجزارين الذين تحدثنا إليهم حل ترميم و تهيئة السوق الذي يعتبر من أقدم أسواق وسط المدينة و يعتبر جزءا هاما من ذاكرتها المنسية. إلهام.ط