تراجعت ظاهرة الترحال الذي كان يميز العائلات عبر سهوب الحضنة المختصة في تربية الماشية التي تتنقل رفقة قطعان أغنامها من منطقة إلى أخرى و ذلك إلى غاية نهاية القرن الماضي. فمن عايشوا تلك الفترة يؤكدون أن الترحال كان مقترنا بما يمكن وصفه بالثلاثية وهي الخيمة (بيت الشعر) والفرس أو الجمل و السلوقي وهو كلب رقيق القوام سريع الجري كثيرا ما يستعمل في الرعي والصيد معا. الترحال خلده الشعر الشعبي و الغناء التقليدي وبالنظر إلى كونه سلوك اجتماعي ضارب في أعماق التاريخ الوطني كثيرا ما يردد على ألسنة الشعراء والمغنين قصائد تصف هذا السلوك من بينها تلك التي صدح بها ذات يوم صوت الفنان أحمد خليفي رحمه الله بقوله: "قلبي يتفكر عربان رحالة" و معه قول شاعر الصحراء بن قيطون في قصيدته "حيزية" التي ما تزال تغنى إلى حد الآن بقولة : "في أم دوكال حطينا الرحال" وغيرهم كثير ممن يصفون الترحال بالتفصيل من خلال تنقل القافلة من منطقة إلى أخرى وهي تحط رحالها بحثا عن الكلأ والماء. وحسب العارفين بهذا السلوك الاجتماعي فإن قوافل البدو الرحل كانت في عشرينيات القرن الماضي ونظرا لغياب وسائل النقل تستغرق في تنقلها من السهوب إلى التل ما يزيد عن أسبوعين حيث غالبا ما يتم تقسيم القافلة إلى قسمين الأول مكون من أشخاص يتنقلون إلى مناطق التل لاستئجار الحصائد (بقايا القمح والشعير) ليعودوا أدراجهم وقطع مسافة طويلة و يشدوا الرحال مع عائلاتهم وقبيلتهم إلى المنطقة التي تم فيها تأجير الحصائد وهو القسم الثاني من الترحال. وللترحال مزايا عديدة حسب ما يردد شعبيا بولاية المسيلة من بينها توطيد العلاقات الاجتماعية ما بين أبناء المناطق السهبية و التل بدليل أن عديد ولايات شرق و وسط البلاد هي حاليا مقر سكن عديد الأعراش والقبائل التي تنقلت ضمن البدو الرحل إلى مناطق التل لكن بعضها فضل الاستقرار فيها مع بقاء جزء من هذه القبائل مواظبا على الترحال. و من بين متتبعي سلوك الترحال بولاية المسيلة نور الدين مقدود و هو مدير البرمجة والميزانية بالولاية (التخطيط سابقا) الذي ذكر بأن 60 ألف شخص كانوا يمارسون سلوك الترحال من مناطق السهوب نحو التل خلال الربيع و الصيف ليعودوا أدراجهم في فصل الخريف. لكن برامج التنمية التي لم تستثن هذه المناطق -كما قال- من خلال إنجاز برامج السكن و مؤسسات تربوية ساعدت على استقرار الموالين وتخليهم عن الترحال وهي وضعية قيل بشأنها الكثير لكن أثبتت أنها قضت على سلوك اجتماعي هام كان يتميز به سكان السهوب. استقرار الفلاح نعم لكن الموال لا و كثيرا ما تواجه مديرية المصالح الفلاحية بولاية المسيلة في ظل استمرار الجفاف وتقلص المراعي طلبات كثيرة للحصول على الأعلاف و أمام ندرتها يلجأ مربو الماشية إلى اقتنائها من السوق الموازية بأسعار خيالية في بعض الأحيان ما يجعلهم محل شكاوى موجهة إلى السلطات العمومية في هذا الشأن لكن المشكلة حسب عينة من تقنيي محافظة السهوب بالولاية هي أن من مزايا الترحال هو إعطاء الوقت لمدة ثلاثة أشهر لتجدد الغطاء النباتي في المناطق السهبية من خلال توقيف الرعي وتعويضه بالترحال إلى التل. وفي هذا الترحال حسب نفس المصدر حكمة مضمونها فضلا عن إراحة المراعي القيام بما يسمى حاليا بحماية المراعي وعدم الرعي فيها لمدة تمكن من تجدد الغطاء النباتي. وبما أن برامج التنمية مكنت من استقرار مربي الماشية فإن ذلك أتعب المراعي وجعل تجدد غطائها النباتي أمرا صعبا بل مستحيلا كلما تطول مدة الجفاف. تغير في طريقة تربية الماشية و بمجرد التخلي عن الترحال والاستقرار بمناطق تربية الماشية ظهر طلب مكثف على الأعلاف حتى أن البعض أصبح يستعمل أعلاف الدواجن ما أثر سلبا على نوعية لحوم الضأن بالمنطقة و غير من طريقة تربية الماشية من أنها كانت تعتمد على الرعي في السهوب والتل إلى طريقة هي أقرب إلى تلك الممارسة في بأوروبا أي استعمال الأعلاف. ويتخوف سكان منطقة الحضنة من أن تصبح تربية الماشية تمارس في المستقبل في المستودعات والتخلي عن الرعي التقليدي. بقلم محمد زغداني