منذ البدء أقول أن عرض ''نزهة في الغضب'' الذي شاهدته منذ ثلاثة أيام على ركح المسرح الوطني الجزائري محي الدين بشطارزي أعجبني، وأمتعني إلى حد كبير، إنها المرة الأولى التي أرى فيها أحد أعمال المخرج الشاب جمال فرمي، وأيضا هي المرة الأولى التي أكتشف فيها عددا من المواهب الجديدة في الأداء، مثل نبيل عسلي وعديلة بن دمراد وياسمين عبد المومن وعديلة سوالم ووسيلة عريج وعيسى شواط ومحمد بن داود وخليل عون وجعفر بن حليلو وزهير كريميري ونجيب البصير ورضوان مرابط··· العرض تتشكل أرضيته من توليفة نصين اشتغل على تأويلهما نبيل عسلي ليعيد صياغتهما في نص مركب هو أقرب إلى منمنمة ساخرة، وزاخرة بالألوان والفكاهة السوداء الحادة كمشرط جراح، أرضية النصين هي لمؤلفين متميزين جعلا من مسرح البانيك والعبث تيارين مهمين في تاريخ المسرح الحديث، الأول هو الإسباني فرناندو أرابال صاحب فاندو وليس ومقبرة السيارات والسماء والبراز، والثاني هو يوجين ونسكو صاحب الكراسي والملك يتماوت والأميرة الصلعاء، كلا المؤلفين نقلا المسرح من ملكوت الكلاسيك إلى الأرض الخراب، الأرض الموبوءة بالإنسان المخرب، الإنسان المدمر، الإنسان الغارق حتى الذقن في شتى الحقارات التي جعلت منه خارج لعبة المعنى المرصوص، والمعنى المستقيم·· أي سعادة هاته التي يبتغيها الإنسان عندما تتحوّل اليوتوبيا الإنسانية إلى جحيم على الأرض، أو قطع من جحيم العالم الآخر·· أرابال ويونسكو قدما لنا من خلال أعمالهما مرثية حديثة لمصير العالم الذي نخرته الحروب والأنانيات المجنونة ومصائر الناس الذين فقدوا كل أمل في انتصار الخير على الشر الإنساني، ومن خلال هذه التوليفة التي ساءل من خلالها نبيل عسلي أرضية نصي أرابال ''نزهة في الجبهة'' ويونسكو ''سيناريو الغضب'' قدم لنا هذا النص المستصاغ في شكل منمنمة تحاول الانتماء إلى ما يمكن تسميته بالعبث الجزلان·· التوليفة النصية كتبت بلغة شارع غير مبتذلة فيها الكثير من النبض والإيقاع والسهولة الممتنعة والتلقائية الحية وقد انصهرت هذه التوليفة ضمن الرؤية الإخراجية الذكية والجميلة التي فاجأني بها جمال فرمي·· فالمخرج ضرب ضربة معلم كما يقولون·· منحنا كل حساسياته وقلقه ونظرته المُرّة إلى ما يجري على العالم الخاص والعام وفي مسرح الحياة·· ضمن المشهد العام للعرض قدم لنا جمال فرمي ثلاثة فضاءات، فضاء زوجين يعيشان حربهما اليومية من لحظة العشق إلى لحظة الزواج وما بعد الزواج، وفضاء الميديا الباحثة عن الإثارة، وعن الدم وعن الحرب وعن كل ما يجعل عالمنا كارثيا، وفضاء الحرب بكل ما تحمله من قيم الدمار والخراب، ومن مشاعر الشجاعة والعنف والنذالة والخوف·· كل هذه الفضاءات حاول أن يسبغ عليها المخرج أكثر من إيقاع بحيث تزاوجت فنيا جدلية السمفونيا والبوليفونيا على مستوى إدارة الممثلين وإدارة الفضاء وما يرافقهما من حالات تراجد كوميدية وذلك ضمن منمنمة حية تقترح علينا رؤية التفاهة، تفاهة الإنسان، وتفاهة الحرب عندما تخلو الحياة من المعنى المؤسس لإعادة بناء الإنسان وبناء العالم الذي أضعناه مثلما أضعنا تلك اللحظات الحقيقية تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين·· المنمنمة المليئة بالألوان والمشاهد المتراوحة بين ما هو حقيقي وما وراء حقيقي تسقط في نهاية العرض ذلك الجدار الوهمي الذي يقف كسور فاصل بين الحقيقة المعروضة في سوق الوقائع اليومية وفي سوق الأحداث الكبرى التي يعرضها علينا سادة العالم، وبين سوق الفرجة الذي يقترح علينا عالمه الخاص، عالم إعادة اكتشاف أنفسنا وحقائقنا من خلال تعريتها، وإسقاط أقنعتها عبر امتلاك لذة اسمها لذة المشاهدة والنظر·· وهنا تكمن سلطة الفن وسحره·· العرض برغم المتعة التي منحها لنا طيلة السبعين دقيقة، في حاجة إلى استثمار أكثر في الممثلين والممثلات ليصلوا -وهذا ممكن- إلى الذروة وإلى الاشتغال أكثر على الإضاءة.. وفي الأخير أقول برافو جمال·· برافو للفريق·