الفجيعة - ألو عبدالناصر· - مرحبا أحمد· - سأخبرك خبرا مؤسفا وحزينا، لكنه غريب جدا في نفس الوقت، حدث هذا في المسرح الجهوي عزالدين مجوبي، قبل لحظات·· - ما الذي حدث؟ - بينما كنا نشاهد عرض مسرحية ''حياة مؤجلة''، تأليف وإخراج جمال حمودة، توفي فجأة صديقنا المسرحي توفيق ميميش· - توفيق ميميش! ·· أنت تمزح· - لا أمزح في الموت· - الله أكبر· صمت وانقطعت المكالمة كانت هذه مكالمة صديقي الفنان المسرحي، أحمد هامل، من بناية المسرح الجهوي عزالدين مجوبي بعنابة، بعد عشرين دقيقة من توقف قلب الفنان عن النبض،وأين على الخشبة؟ توفيق ميمش أكثر من رحلة تعود بي الذاكرة إلى سنة 1987 حين تعرفت عليه بشواربه الكثة وقهقهته المدوية رفقة الفنان حميد قوري، لوكيل عبدالحميد، صويلح حسين··· أثناء تقديم مسرحية ''الطاروس''، هذه المسرحية التي أبدع في تشخيصها توفيق ميميش، بل تساءلت كثيرا لما فازت هذه المسرحية في أحد المهرجانات الكبيرة بجائزة أحسن ديكور، لما لم تفز بجائزة أحسن أداء رجالي؟· أذكر أنه أثناء احتفالية توزيع الكاكي الذهبي من طرف محافظة المهرجان الوطني للمسرح الهاوي بمستغام، أثرت موضوع الشهرة وخيانة المسرح مع الناقد أحمد شنيقي، وحين تحدثنا عن توفيق قال لي بصراحته أن ''مسرحية (الطاروس) هي التي قزمت توفيق ميمش، لأنه بعدها لم يستطع تجاوز هذه الشخصية، بل ظل يكافح كي يتخلص من أثها''، وهذا ما لاحظته شخصيا في الأعمال التالية: ''دروب الغيوان، الوشام، السوسة، سوق ألفين، الأحلام القذرة، عروس الظلام، ريح الجنوب، المبني للمجهول، واد الحجر''· كما تابعت عن كتب تجربة تعاونية المسرح الجديد، التي تأسست في بداية التسعينات بقصر الثقافة والفنون عنابة، في الفترة من 1993 إلى ,1996 حيث تم من خلالها إنتاج الكثير من الأعمال المسرحية التي تناستها الذاكرة الثقافية الجزائرية، وكان أبطال هذه الرحلة المغايرة هم: ''حميد قوري، توفيق ميميش، رشيد جابو ربي، عبد الوهاب لوامي، نبيل رحماني''، وأسماء أخرى كانت تشق طريقها نحو البداية ·· وكانت تجربة متميزة في زمن قاتل وحارق، حيث استطاعوا بتنوع أعمالهم تكريس جمهور مسرحي كانت تمتلىء به قاعة دار الثقافة يومي الإثنين والخميس، في الوقت الذي كانت فيه بناية المسرح الجهوي عزالدين مجوبي تعيش حالة خواء ·· وأهم تلك الأعمال، أبولو كسكوس، tv بلووف، ومسرحية الهربة، وهي مسرحية تدخل في إطار التجريب، والتي تم إعادة إنتاجها من طرف المسرح الجهوي عنابة، بعد توقف نشاط التعاونية لأسباب أجهلها ولم يعلن عنها أصحابها، أشير أن ''ميميش'' أيضا قدم ثلاث أعمال من نوع المونودراما وهي: البوسطاجي، وسوق 2000 وحافلة تسير·· كل مرة ألتقي فيها ''ميميش'' إلا ويكون الحديث حول موضوع المسرح وعذاباته في عنابة تحديدا·· العهد بعد عرض مسرحية ''واد الحجر'' أخبرني توفيق، وكان في حالة نفسية صعبة بل وغاضبا، أن هذا سيكون آخر عرض مسرحي له كممثل، لأن صحته لم تعد تحتمل إيقاع عرض يتجاوز أكثر من ساعة، وأنه تعب نفسيا وجسديار وقدم الكثير للمسرح الجزائري دون الالتفات إلى تضحياته، وقال لي بصريح العبارة ''لن أصعد مرة أخرى إلى لخشبة كممثل يا ناصر''، (رغم أنه عاش كثيرا في عنابة إلا أنه مازال يحافظ على لكنته التبسية ويناديني، الناصر (بالتفخيم)·· قلت له: يا توفيق لن تستطيع، خلقت ممثلا وستموت ممثلا· قال لي: سنرى· وبعد هذا اللقاء وجدته موزعا في مسرحية ''المبني للمجهول'' والتي كتبت عنها مقالا مطولا في موقع مسرح دوت كوم، وحين انتهى العرض فاجأته بحضوري، غمزته، وضحك كعادته مقهقها وفهم قصدي؟ إنه فنان بالفطرة·· ثم دعاني إلى شرب قهوة في ساحة الثورة، ليعرف رأيي في العرض، قلت له ستقرأ وجهة نظري منشورة، ولكن ما أريد أن أعرفه اللحظة، هو أنك أخلفت وعدك وعدت إلى التمثيل·· أخبرني بحرقة متنهدا، أن ظروفه المادية صعبة جدا· وقال لي حرفيا: ''لولا تكفل إدارة المسرح بإقامة عائلتي الصغيرة لضعت·· لضعت خويا الناصر!!!'' - لكنها خيانة·· قلت ضاحكا قاطعني: لا تلمني·· وأرجوك أن لا تعتبر الموضوع موضوع خيانة ولا تكتب عن هذا الموضوع، إنها قضية ''خبزة'' في الأخير، لكن ثق أنني سأنشئ في القريب العاجل تعاونية مسرحية، أنتج أول أعمالي الحرة، قريبا، وأتخلص نهائيا من سلطة الوظيفة·· الوظيفة ''ممثل'' قالها بسخرية مقهقها·· بعدها إلتقيت توفيق في عدة مناسبات، سواء في فعاليات المهرجان الوطني للمسرح المحترف في طبعاته المتعددة أو أجده في ساحة الثورة صحبة إبنته الصغيرة حيث أخبرني بفرح أنها تشاهد كل العروض التي تقدم في المسرح، وتقلد الكثير من الممثلين، ستكون فنانة كبيرة، ''إنها موهوبة يا خويا الناصر··'' هكذا يحدثني توفيق كل مرة ألتقي به في عنابة الجرح· كان من المفروض أن أرى باكورة أعماله التي أنتجها من خلال تعاونيته وهي ''اليد اللي توصل''، وقد شاركنا معا في تصفيات المهرجان الوطني للمسرح المحترف بعنابة ,2010 ولكنني لم أر عرضه بسبب التزاماتي في محافظة المهرجان الوطني للمسرح المحترف بإعداد كتاب الملتقى العلمي لدورة القدس .2009 حيث تحصل عرضي الذي كنت كاتب نصه: ''الكلب والعجب'' من إنتاج تعاونية القلعة الثقافية جيجل، على المرتبة ما قبل الأخيرة، وتحصل هو على المرتبة الأخيرة، وتلك كانت آخر مرة ألتقي فيها شخصيا·· ميميش لحظات قبل السفر منذ أيام التقيت صديقي المسرحي والتقني الفني بالمسرح الجهوي عزالدين مجوبي، عبد الرفيق عابد وأخبرني عن اللحظات الأخيرة لتوفيق قبل وأثناء العرض، حيث أدى صلاة العصر جماعة رفقة التقنيين، وأثار مسألة أحد تقنيي الإضاءة الذي تضامن معه وهو ''أحمد''، وتحدث مع زميله في العرض الفنان بشير سلاطنية وطلب منه المحافظة على إيقاع العرض، ثم تحدث عن التعديلات التقنية التي تم إحداثها خلال العرض، ويتحدث عبد الرفيق أنه بعد بداية المسرحية أثناء خروج توفيق لفترة قصيرة في الكواليس كان فرحا، وقال أن جو العرض رائع، وكان فعلا سعيدا، وعاد للعرض، بروح جميلة·· وكانت آخر جملة له في المسرحية: ''أنا يوم دخلت المسرح، كنت أعتقد أنني سأغير المجتمع نحو الأفضل، لكن المجتمع تغير فعلا لكن نحو الأسفل··'' وبعدها إستلقى على ظهره، ثم قال: إنها رقدة مليحة راني دخت·· ثم·· ودع ·· إلى الأبد وكانت الصدمة ولم تسعف قلبه الضعيف جحافل طلبة معهد الطب ولا رجال الحماية·· (أنظروا الصورة المرفقة التي تنشر أول مرة والتي أخذها المصور منذر عياشي عمر، إنها تتجاوز كل الكلمات··)· الدفن حين سمعت أن توفيق دفن في تبسة، إنزعجت قليلا، لأنه فنان منح الكثير والكثير لمدينة عنابة، إنه فنيا إبن هذه المدينة·· ولكن بعد مرور الصدمة قلت، أفضل أن يدفن في تبسة، فعنابة الثقافية قاتلة، وخائنة، أين هم: بوبكر مخوخ، عبد الحق بن علجية، خيرالدين عمرون·· ؟؟ إنهم أبناء النسيان··· وداعا خويا الناصر كما أحب أن أسميك سرا فأنت إبن الخشبة·· إننا نتعلم من موتك في حياتنا المِؤجلة·