تثبت الأيام، يوما بعد يوم، أن النظرية الصهيونية التي يتعامل بها قادة إسرائيل مع الآخرين، والقائمة على عقدة الخوف، والتي تتمثل باستعمال القوة المفرطة لإثارة الرعب في الآخرين، دون حساب النتائج قد تلحق الضرر بصاحبها أكثر مما تلحقها بأعدائه، فإسرائيل لم تتعلم من حربها التدميرية على لبنان في أوت 2006 فكررتها في حربها على قطاع غزة في آواخر عام ,2008 ومع أنها استعملت قوة مفرطة بما فيها أسلحة محرم استعمالها دوليا، كالقنابل العنقودية والنابالم والفوسفور الأصفر، واستهدفت المدنيين والبنى التحتية من جسور ومحطات كهرباء ومدارس ومحطات تلفزة وبيوتا وأحياء سكنية··· الخ، إلا أن أهدافها من هاتين الحربين لم تتحقق مثلما هي في حروبها السابقة، بل على العكس فإن حزب الله في لبنان وحركة حماس في قطاع غزة ازدادا قوة ونفوذا، وجاء التقرير الدولي المعروف ب (تقرير جولدستون) ليدين إسرائيل بإرهاب الدولة وارتكاب مجازر بحق الإنسانية، وهاهي ترتكب حماقة جديدة باستهداف قافلة السفن الدولية التي جاءت لإغاثة قطاع غزة، فاعترضتها إسرائيل في المياه الدولية بقوة بحرية هائلة مدعومة بسلاح الجو، مع أن القافلة تحمل ناشطين دوليين مدنيين، ومواد إغاثة مدنية لقطاع غزة المحاصر، فكان ما كان من وقوع ضحايا ألهبت الرأي العام العالمي ضد إسرائيل، التي لم تنقذها الدعاية المضللة بأن الناشطين كانت بحوزتهم أسلحة استعملوها ضد قوات الكوموندوس الإسرائيلية التي استولت على سفنهم، فكانت النتائج أن وقفت إسرائيل عارية أمام الرأي العام العالمي، لا يعادل عريها إلا عري الأنظمة العربية التي لم تجد ما ترد به أمام شعوبها الغاضبة إلا اجتماعا لوزراء الخارجية دعا إلى عقد جلسة لمجلس الأمن الدولي، وقد كانت الحكومة المصرية على قدر من الذكاء عندما فتحت مصر معبر رفح لامتصاص غضب شعبها، ونأمل أن تستمر في هذا الذكاء بأن تبقي المعبر مفتوحا بشكل دائم· وكان الأجدر بالحكومات العربية بأن تأخذ القرار الفوري بكسر الحصار على قطاع غزة من خلال تسيير قوافل الإغاثة برا وبحرا، خصوصا وأن الرأي العام العالمي حكومات وشعوبا يدعمها، حتى أن الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، خرج عن صمته من هول ما جرى ودعا إلى إنهاء الحصار، غير أن الموقف الفاضح والمحرج للأنظمة العربية هو الموقف الرسمي للبيت الأبيض، الذي رفض الإدانة الصريحة لحماقة الفعل الإسرائيلي· وبما أن أمريكا هي الراعي للمحادثات غير المباشرة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، هذه المحادثات التي تجري بغطاء عربي، فقد وضعت الإدارة الأمريكية حلفاءها العرب في وضع محرج أمام شعوبهم، فقد كانت أمريكا ملكية أكثر من الملك -كما يقولون- في تبريرها لموقفها الرافض لإدانة إسرائيل بشكل صريح، وموقفها هذا يحمل في طياته رسالة مسبقة بأن الفيتو الأمريكي جاهز في مجلس الأمن ليمنع استصدار قرار يدين إسرائيل، كما أنه رسالة واضحة أيضا بأن أمريكا لن تضغط على الحكومة اليمينية في إسرائيل كي ترضخ لمتطلبات السلام حتى حسب رؤية الإدارة الأمريكية المنحازة دوما لإسرائيل· واللافت للانتباه هو ردة الفعل التركية الغاضبة جدا على إسرائيل، خصوصا وأن غالبية الضحايا في قافلة الإغاثة هم أتراك، لم تشفع لهم علاقات الصداقة والتعاون بما فيه التعاون العسكري المبرمة بين تركيا وإسرائيل، فكانت ردة الفعل التركية على المستويين الرسمي والشعبي أكثر مما هي عليه ردة الفعل العربية· ويبدو أن إسرائيل التي تحتفظ بكافة خياراتها العسكرية والاقتصادية والإعلامية··· وغيرها ما كانت لتقدم على حماقاتها هذه لولا علمها المسبق بأن النظام العربي الرسمي قد أسقط الخيار العسكري بعد حرب أكتوبر ,1973 كما أسقط الخيار الاقتصادي أيضا بعد هذه الحرب التي استعمل فيها العاهل السعودي الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز سلاح البترول للضغط على إسرائيل والدول الداعمة لها من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة في حرب جوان .1967 ويبدو أن الجميع إسرائيل والأنظمة العربية وأمريكا غير مدركين للتحولات في الشارع العربي، وأن أعمال إسرائيل وسياساتها التوسعية واستمرارها في تهويد الأراضي المحتلة، بل في استمرار هذا الاحتلال هي المسؤولة عن إضعاف معسكر الاعتدال العربي، وهي مسؤولة أيضا عن ظهور حركات التطرف في العالمين العربي والإسلامي، وأن الشعوب العربية لن تسكت إلى الأبد، وعدم إدراك ذلك يعني فقر في الفكر وعدم القدرة على استخلاص النتائج، وبالتالي فإن النتائج ستكون وخيمة على جميع شعوب ودول المنطقة·