تحت مظلة الخوف من انفجار حرب أهلية ثانية، أحيت جموع من اللبنانيين المنتميين لتيارات سياسية مختلفة الذكرى ال33 لانلاع الحرب الأهلية الأولى التي نشبت في 13 أفريل 1975 وانتهت عام 1990 ، وخيّم على هذه التظاهرات هاجس الرعب من تكرار مسلسل دموي دمر لبنان وأزهق أرواح أكثر من 100 ألف شخص. وتأتي المسيرة التي نظمتها هيئات المجتمع المدني اللبنانية، والتي انطلقت من منطقة مار مخايل وانتهت وسط بيروت لتقدم التماسا للأطراف السياسية المتنازعة حتى يحلوا خلافاتهم قبل أن تسبح لبنان نحو المجهول، فهنا في بيروت التي اندثرت معالم الدمار والخراب بها بعد انتهاء الحرب، وبعد اختفاء ما تعرف ب»خطوط التماس« التي كانت أثناء المعارك تقسم بيروت الى شقين، شرقي للمسيحيين، وغربي للمسلمين، تبرز بها الآن خطوط أخرى أشد خطورة رسمها الانقسام السياسي، وزاد من تعددها وتشعبها التدخل الخارجي في الشأن اللبناني، الأمر الذي يرشح الوضع للانفجار في أي لحظة. ورغم أن اللبنانيين بشتى انتماءاتهم وأطيافهم السياسية والمذهبية يعبرون من خلال إحيائهم لذكرى الحرب عن رفضهم القاطع بمجرد قبول فكرة حرب أهلية ثانية، خاصة وأن الوضع الآن أسوأ بكثير مما كان عليه في الحرب، بعد أن ظهرت الانقسامات بين المسيحيين أنفسهم وكذلك المسلمين، بل والدروز أيضا، ورغم أن الجيل الذي عايش الحرب واكتوى بنارها يرفض تجددها، إلا أن الجيل الجديد من الشباب قليل الخبرة تحرك فيه الخطابات الساسية النارية الحمية والتحفز مما يؤهله لحمل السلاح... ورغم مرور 33 عاما على هذه الأحداث الدامية، إلا أن استرجاعها وتدارسها أمر بالغ الأهمية، خاصة وأن الدول العربية برمتها ليست بمنأى عن تكرار سيناريو هذه الحرب على أراضيها، في ظل مؤامرات خارجية واستعمارية تسعى لتمزيق العالم العربي وتفتيته من خلال الصراعات الطائفية والمذهبية، وتعمل عديد أجهزة المخابرات المعادية الآن عبر أكثر من قطر عربي على تغذية الخلافات وتضخيم الانقسامات حتى إذا حانت ساعة الصفر انفجر الوضع فوق رؤوس الجميع. حافلة الموت وانطلاق شرارة الحرب شرارة الحرب انطلقت من منطقة عين الرمانة بضاحية بيروتالجنوبية، وعلى خطوطها تداخلت خطوط خارجية عدة بدءاً من الفصائل الفلسطينية ومرورا بسوريا وانتهاءً بالكيان الصهيوني، فبدت الصورة وكأن الحرب كان يجهز لها منذ أمد، فما أن تم إطلاق النار على حافلة ركاب تقل فلسطينيين، حتى امتلأت الشوارع بالمسلحين، وأغلقت الطرق بالمتاريس. لكن المسألة تعود في الأصل للصراعات والتنازلات السياسية في فترة الاستعمار الفرنسي لسوريا ولبنان، فأثرت تلك الخلفيات على الساحة اللبنانية بعد التغير السكاني واندلاع النزاع الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكذلك تقارب فريق مع سوريا وتحالف فريق آخر مع الكيان الصهيوني، ومن المفارقات العجيبة أن الصراع توقف في العام الموالي للقتال ترقبا لقرارات القمة العربية عام 1976 ، وكان من الممكن أن تنتهي الحرب في ذلك التاريخ، لكن عجز العرب عن إنقاذ لبنان من مأزقه وانقسام القادة العرب كعادتهم في رؤيتهم للأزمة انعكس بدوره على الداخل اللبناني، فتجددت الاشتباكات، وعاد القتال ليتركز في جنوب لبنان بشكل أساسي، والذي سيطرت عليه في البداية منظمة التحرير الفلسطينية ثم قام الكيان الصهيوني باحتلاله. حرب لبنان كانت ستندلع عام 1970 بعد هزيمة العرب في حرب 1967 نشأت المقاومة الفلسطينية المسلحة، لتنفذ بشكل قوي ومؤثر عددا من العمليات العسكرية داخل الأراضي المحتلة، ومع نهاية عام 1967 كانت عمليات المقاومة الفلسطينية بداخل العمق الصهيوني على أشدها منطلقة من الأردن ومن لبنان، فبدأت »إسرائيل« بتوجيه ضربات عسكرية ضد القواعد الفلسطينية في لبنان، ونجحت القوات الفلسطينية الفدائية في الحفاظ على نفسها في ظل هذا العدوان، نظرا لقدرتها على المناورة وسرعة الاختفاء، فبدأ الارهاب الصهيوني بتنفيذ عمليات عسكرية ضد المصالح اللبنانية الحيوية، وذلك لدفع الحكومة اللبنانية لأخذ مواقف صارمة ضد المقاومة الفلسطينية، ومن أشد هذه العمليات قيام القوات الخاصة الصهيونية بضرب وتدمير ثلاث عشرة طائرة مدنية في مطار بيروت في 28 ديسمبر 1968. فأدت هذه العملية إلى زيادة حدة التوتر القائم بين الجيش اللبناني وقوات المقاومة الفلسطينية في لبنان، وأعقب ذلك وقوع أول صدام عسكري جدي بين القوات اللبنانية والفلسطينية في ربيع عام 1969، وشهدت الأشهر التي أعقبت هذا الصدام مجموعة من الاضطرابات والمصادمات السياسية في بيروت وصيدا وطرابلس، وتبع ذلك مجموعة من الغارات الصهيونية التي أدت إلى زيادة المصادمات وإلى حدوث أزمة حكومية استمرت سبعة أشهر ولم تنته إلا باتفاقية القاهرة المنعقدة في نوفمبر 1969 ، والتي تم بها الاتفاق على النقاط الرئيسية الثلاثة: - السماح للفلسطينين بإدارة مخيمات اللاجئين. - احتفاظ الفلسطينيين ببعض طرق العبور وبعض المواقع جنوب لبنان. - إقرار القيادة الفلسطينية بالمقابل بسيادة الحكومة اللبنانية وتعهدها والتزامها بعدم التدخل في شؤون السياسة اللبنانية الداخلية. ولكن اتفاقية القاهرة لم تنجح في حل مشكلة الاختلافات اللبنانية الفلسطينية، لأنها كانت نصف تسوية كما وصفها بعض المحللين السياسيين، وأهملت الكثير من الأمور التي بقيت معلقة بين الطرفين. ولقد حاول الجيش اللبناني القضاء على الأنشطة الفلسطينية العسكرية في جنوب لبنان، ولكنه فشل في ذلك بسبب دعم التيارات الإسلامية والشيعية للفلسطينيين الذين حصلوا أيضا على دعم اليسار اللبناني ومجموعات من المسيحيين الأرثوذكس، وبدأت تظهر منذ ذلك الوقت معالم صراع كبير بين المسلمين واليسار اللبناني والقوات الفلسطينية من طرف، والمسيحيين الموارنة واليمين اللبناني من طرف آخر، وكان من الممكن للحرب الأهلية اللبنانية أن تبدأ في تلك السنة، ولكن حرب أكتوبر 1973 أخرت حدوثها حتى عام 1975. أيام القتال والوساطات العربية بدأت الحرب بداية دموية شديدة منذ يومها الأول، وذلك بعد مقتل الزعيم اللبناني الشهير معروف سعد في مصادمة بين عناصر من جماعته وقوات الجيش اللبناني، وبعد الكمين الذي نصبه رجال مسلحون من عناصر الكتائب اللبنانية لحافلة تقل بعض الفلسطينيين والذي أسفر عن مقتل سبعة وعشرين لاجئا فلسطينيا، وفي أعقاب تسلل بعض القوات الفلسطينية من سورية إلى لبنان تم تدعيم كفة تحالف المسلمين اللبنانيين والفلسطينيين ضد اليمين المسيحي اللبناني. وأعلن الزعيم الدرزي الكبير كمال جنبلاط عندئذ أنه كان قريبا جدا من تحقيق نصر عسكري حاسم على قوات المسيحيين الموارنة، ولكن دخول القوات السورية إلى لبنان بناء على طلب من الحكومة اللبنانية وتصديها لقوات المقاومة الفلسطينية وقوات اليسار اللبناني حال دون إلحاق هزيمة فادحة بالأطراف اللبنانية الأخرى. ولقد أدى نجاح القوات السورية في المحافظة على التوازنات المحلية اللبنانية إلى القبول الفرنسي والأمريكي الضمني والصريح أيضا بدخول القوات السورية إلى لبنان، ولكن القوات السورية لم تتمكن من إنهاء الحرب الأهلية التي استمرت في حدتها ودمويتها وسعة انتشارها، كما زاد عدد الأطراف الإقليمية المتورطة والمعنية بها، وهو الأمر الذي أدى إلى بدء الوساطة السعودية في لبنان والتي استمرت حتى عام 1989. وفي أواخر أكتوبر عام 1976 تم عقد قمة رباعية في الرياض جمعت الرئيس المصري أنور السادات والرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والقيادة السعودية، ولقد أدت محادثات المؤتمر إلى الاتفاق على وقف سفك الدماء في لبنان، ومن نتائج المؤتمر أيضا إعادة العلاقات بين سوريا ومصر. وفي بداية عام 1981 تصاعدت حدة الاشتباكات مرة أخرى بين الكيان الصهيوني والقوات الفلسطينية المرابطة في الجنوب اللبناني، ووضع أرييل شارون، وكان عندئذ وزيرا للحرب، خطة للقضاء على المقاومة الفلسطينية في لبنان، وبعد حصول تل أبيب على الموافقة الضمنية لوزير الخارجية الأمريكي إلكسندر هيج، عبرت في السادس من جوان ست فرق صهيونية إلى لبنان ووصلت إلى بيروت بعد ضربها للقواعد الفلسطينية في الجنوب اللبناني وحاصرت القوات الفلسطينية في بيروت، وكان واضحا أن شارون يسعى لتدمير القوات الفلسطينية في لبنان وقتل عناصرها. وشهد عام 1983 مجموعة من التطورات المهمة في أحداث الأزمة اللبنانية. ففي أعقاب فشلها في القضاء على المقاومة الفلسطينية انسحبت القوات الصهيونية من لبنان وأبقت الشريط الأمني في الجنوب تحت سيطرتها، لكي تستخدمه في منع المقاومة الفلسطينية واللبنانية من العبور إلى الأراضي المحتلة، كما قدمت إلى بيروت في نفس الفترة مجموعة من القوات الفرنسية وقوات المارينز الأمريكية، وهو الأمر الذي أدى إلى عودة القتال من جديد بين الفصائل والمليشيات اللبنانية، وكانت القوات البحرية الأمريكية تقصف أحيانا مواقع بعض الفئات اللبنانية في المناطق الجبلية.ولعبت السعودية دورا لدى سورية بين الأطراف اللبنانية المتنازعة وذلك لوقف الاقتتال واللجوء إلى التفاوض، وبعد فترة شهر تقريبا من الوساطة السعودية تمكن المبعوث السعودي من التوصل إلى صيغة لوقف النار وافقت عليها جميع الأطراف المعنية.وتضمن بنود الاتفاق في 25 من سبتمبر عام 1983 الوقف الفوري الشامل لإطلاق النار، وتشكيل لجنة من الأطراف المتنازعة لوضع ترتيبات الاتفاق، وتوجيه الدعوة لاجتماع عاجل لبدء الحوار الوطني اللبناني، وذلك بمشاركة وفدين سعودي وسوري في اجتماعات الحوار.ولم يمض شهر على اتفاق وقف إطلاق النار بين الفصائل اللبنانية حتى نشب نزاع مسلح قوي في طرابلس بين فصائل فلسطينية مدعومة من القوات السورية وفصائل فلسطينية أخرى تابعة لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات.ولمعالجة تدهور الأحداث في هذا الأمر الخطير، تم الاتصال بأطراف النزاع المختلفة وأدى هذا الأمر إلى التوصل إلى اتفاق من أربع نقاط لوقف القتال بين الفلسطينيين وحل الخلافات بينهم بالحوار وخروج المقاتلين الفلسطينيين من مدينة طرابلس والمناطق المحيطة بها. لبنان... أرض القتال الخصبة من الأشياء المهمة المتعلقة بالحرب الأهلية اللبنانية، أن الخلاف على الهوية القومية للبنان بعد صعود نجم القومية العربية، والصراع العربي الصهيوني، وأحداث »أيلول الأسود« في الأردن عام 1970م، وانتقال العديد من المقاتلين الفلسطينيين على إثره إلى لبنان، كل تلك الأحداث كانت بمثابة وقود تلك الفتنة، حيث أدت هذه العناصر الى تغيير تركيبة الأحلاف بين الأطراف المتحاربة خلال الحرب بشكل متزايد وغير متوقع، وبنهاية الحرب كان كل فريق تقريبا قد تحالف مع كل من المجموعات الأخرى، أو انقلب عليها على الأقل مرة واحدة، وفي الثمانينيات كان الوضع محبطا إلى حد بعيد، فبيروت كانت مدمرة بشكل كبير بعد الاجتياح الصهيوني، الذي أدى إلى خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، فتطورت المعارك لتعرف طريقا إلى المجازر الطائفية وعمليات التطهير العرقي، وفي النهاية أدت الحرب إلى إضعاف استقلال لبنان بشكل كبير، وفي الوقت الذي تم توقيع اتفاق الطائف فيه عام 1989، كان الجيش الصهيوني يسيطر على الجنوب بأكمله، ولكن هذا الاحتلال الانتهازي كان يواجه مقاومة شديدة من قبل قوات حزب الله الشيعية التي أعلن عن ميلادها أثناء الحرب ليس للمشاركة فيها وإنما لمقاتلة الاحتلال، واستمر جهاد حزب الله للاحتلال حتى انسحب الجيش الصهيوني في النهاية عام 2000، وظل التواجد السوري الذي بدأ في لبنان منذ أواسط السبعينيات منتشرا في معظم مناطق لبنان، ولم تسحب سوريا قواتها حتى العام 2005، حيث استغلت الولاياتالمتحدة وفرنسا وحلفاؤهما في لبنان حادثة اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، لتضغط على سوريا حتى قررت الخروج من لبنان، تاركة وراءها تركة ثقيلة تنازع عليها الفرقاء اللبنانيون، بشحذ من قوى خارجية تبحث عن مكان مناسب تلد فيه »شرق أوسط جديد«، وقوى أخرى تريد إلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني والأطماع الأمريكية على أرض خصبة للقتال، وبين تباعد المشروعين بعد المشرق والمغرب، يبقى لبنان ممزقا بدون قيادة ولا مجلس نيابي مفتوح لشحنات الأسلحة القذرة التي تصل أراضيه يوميا ليس لقتال العدو مثلما هو الحال مع سلاح المقاومة، وإنما لتقوية الحلفاء الملطخة أيديهم بالدماء والمتعطشين لإشعال حرب أهلية جديدة، يرون أنها ستحشم الصراع لصالح الكيان الصهيوني والولاياتالمتحدة والسعودية بالقوة، خاصة وأن الفريق الآخر أجزم بأنه لن يلوث سلاحه بدماء اللبنانيين، وأن هذا السلاح سيظل موجها فقط للعدو.