تنتسب وهران إليه، تنتسب الأغنيات الوجيعة إليه، الفراق والغياب والجراح كلها إليه، ''المرجاجو ولعيون'' و''السانتاكروز''، ''الميرامار والكاناستيل'' والمدينة الجديدة إليه، الأمكنة، الشوارع، البيوت الواطئة، البيوت الجديدة المسقوفة، العالية، الباذخة، حتى تونس وأطفال قرطاج حتى كازا وغلمانها، طنجة وشاباتها، يصلهم صوت حسني العاطفي، الدامع، المسرف في العاطفة، الباذخ في بكائه، المصطلي بنيران الوحشة، الشوق، البعاد، غربة المحبوب وغربة من يهفو إلى المحبوب. لم يأت ذكر بائن لحسني إلاً في صورته الوديعة، صورته الوهرانية المفجوعة بفراق بعد ندب أو حطام أو ارتطام·· كلمات هشة، عفوية، مفككة، مجروحة جاء بها السيد شقرون إلى الساحة وتلقفها الشعب العاطفي المحروم من طمأنينة التعبير، المفرغ من شحنة اللغة الخاصة، الحميمة تلك التي يشبّ عليها إثنان عاشقان حيث يلتقيان ويفترقان ويتعذبان، كلام من فضَّة، وجرح في الهوى نازف يغترف من التجربة واعتصاراتها، شاب يافع يلهب الأحاسيس، ينكأ الجراح أو يحملها كضمير وذاكرة، ذاكرة صغيرة تغذَّت بآلامها القديمات واصطفًّت بلونها الذي يؤديه الشاب في الموقع الآمن فلا تتزاحم مع الصخب الرايوي المبتذل، ولا مع سماعية منحرفة، مثلية، مشوّهة الجسد روحها في عطالة، كان شيئا هو من ''بلاوي الهواري'' و''أحمد وهبي'' و''أحمد صابر'' على قربى من الجهة واللهجة والصيغة والتنويع الأنسترومونتالي، تصنيفا له هو وهراني، عاطفي، بموسيقى غرب شرقية وهو يشتغل على منظومة عاطفية جزائرية اللسان، فيه الصراحة والعواء، الانكشاف والويل، الشفقة والترجي والأمنيات، حصاد عاطفي، ألسني، لهجوي، ذكراني في مخاطبة الأنثى، أنثى لها النجوم والأسحار، الألق والصباحات، الجمال والبياض، النعومة والسمرة، الأنثى البيضاء، الزرقاء التي يتعثر القادم نحوها أو نحوهما، الأخرس العاشق بعنفية ملحوظة يطمح في مراد الحبيبات الجزائريات الصعبات، التاركات، الراحلات، القاسيات، الدخيلات، الحقيقيات والزائفات.. أمير ''قامبيطا'' الذي عرفه اللَّمعان الفني صغيرا، مشبعا بالعاطفة ولواعجها عرف بؤس اللحظة الوجدانية ومفارقاتها، زخم الهوى والجوى، النار الكاوية التي كانت تنشب بين ضلوع ابن شقرون الوهراني لم تكن تلك النار إلا المختبر اليومي لحرائق القلب، لقد عاش حسني مع رفيقته ''ملوكة'' عمرا قصيرا اهتدى إليها في بلاد الهجرة، أحبَّها، غنَّاها، وأبلغ عنها الناس، انشهرت ملوكة في حياته بادية الطيف في صوته المقهور، المرهف، القوي، في حركاته وحركات يديه وهرولته المتأنية على المصاطب والخشبات، وفي محاوراته مع الصحافة أو حديثه إلى الراديوهات، لكن الشاب المخطوف غدرا نحو البارئ الخالق لم تثن هزيمته أمام امرأة رثى بسببها الحب وقدره، ارتعاشات القلب وقسوته الدامية· وبالنسبة لجيله، فإنَّ حسني دلف إلى قلوب العامة، الذواقة، المعذبة دون جمرك أو لوائح انتظار حتى تموج الموجة وتلعب لعبتها مع الزمن ومع مبدئي القدامة والحداثة، حسني تقدم على عصره وعلى جيله وعلى منافسيه، فقد انتعش معه بريق الكثيرين لأن الكثرة قد تعبّر من المعابر نفسها وتعمل في المناطق العذراء نفسها رغم أن هؤلاء النجوم من الكثرة التي لم تخلَّد ولم تخلًّد، لقد راح ''أنور'' حيث راح، هذا الشاب التلمساني الحائز على إمكانيات أفضل للبرز ووالاستئساد بالساحة كصوت اليفاعة والمراهقة الخاصة، حيث ندرت هكذا أصوات غير أنَّ الشاب أنور سقط في الفخ المشرقي بتماهيه في موديل ''راغب علامة'' وتواريه خلف أنشطة جانبية ومشرفين ومناجيرات فشلوا في إنضاج الرايوية العاطفية البريئة، هذا الفشل انطرح بقوة في التجربة الوجدانية ومكرَّرا بالعشر في أسماء كنصرو وبلال وعقيل وبوليفان، رغم أنَّ ''بوليفان'' علا كعبه وصيته برائعته ''مغبون عليها'' صيت بلغ مداه أقاصي التاء من كل جهات الوطن الأربعة، نتحدث هنا عن الطفرة التسعينية وإرهاصاتها فطالما تغير الغناء وتهذَّب وانصقل وامتدَّ وطنيا وتخلَّص من عقدته الوهرانية وأسمالها ظهر كل هؤلاء في السياق السوسيولوجي نفسه متقدمين عن بعضهم أو متأخرين إلاَّ قليلا ناطرين ومتعاطين للهو الغنائي كروحية نظيفة لم تسبق للشيوخ والشيخات أن منحوها أو نذروا لها وقتها من التغيير المطلوب الجسور. إنه سياق سوسيولوجي جديد، بلغه جديده، وإجرائيات جديدة، مجتمع يتحرك، يبحث عن تنفس طبيعي لمكنوناته، معتدل، احتفالي وراغب في المحبة وأناشيدها. فلا ''أنور'' بوسامته وشطارته التلمسانية ولا ''بلال'' ببحَّة الترجل والفروسية الجزائرية القائمة على لفهامة الزائدة للحياة وتفاصيلها، للمرأة وعوالمها، ولا ''بوليفان'' الذي خرج ولم يعد في أغنية حنان وغبن وحبًّ خالص ولا ''نصرو'' الذي نطَّ من حبل إلى حبل ومن تجربة إلى أخرى انتهت على التوًّ بمشاكل الهجرة وشروطها في بلاد الولاياتالمتحدةالأمريكية، شهد هؤلاء مصائر مؤلمة وترنُّح أداؤهم بين غثًّ، فالصو ممجوج وآخر صادق لأنه يجرح ومصهور في جمرته، من بين الهؤلاء وحده ''حسني'' أنصت إلى النداءات المخفية، البعيدة، أنصت إلى اللواعج والجوانح فأبكى مستمعيه، ونكَّل بهم وجاوز بهم مفرق البحرين، بحر الرمل في عاصفة الحب القديم وبحر العجز في الحب الشرقي الجميل، الخافت، المعبأ بالأنين والآه والسلوى. كان ذكاء وطنيا ليس بها غبار أو وحل طين أن يستمد الشاب الصغير، مات وهو لم يبلغ السادسة والعشرين، ربما شرعيته الغنائية الباقية إلى ما بعد وفاته من اجتهاده وتركيزه على الموضوع الواحد بأنساق مختلفة وخيارات موسيقية على تماثلية واضحة مع موسيقات الحب والعاطفة المعروفة والتي توحَّد بها جمهور العالم والجزائر والمغرب العربي. ''لا ما تبكيش قولي هذا مكتوبي'' و''طال غيابك يا غزالي'' و''جامي ننسى لي سوفنير'' و''قالوا حسني مات'' و''ما ظنيتش نتفارقو'' أغنيات مازالت محفورة وتؤدي مناسك التذكار والمحبة، عنفوان حسني، إخلاصه لجبهة واحدة، إيمانه بالعاطفة وبأن للشعب قلب آخر غير سياسي وغير ديني وغير أصولي، قلب قلبي يحب ويتجمل ويتطرَّز باللآلئ والياسمينات، إيمان حسني وحده كان أكبر من نشرية الأنصار في لندن التي قالت ''تمَّ اغتيال اليوم واحد من أكبر رموز الفساد في الغرب الجزائري ''المدعو- حسني''.