وأنت تقترب من مصنع الإسمنت الكائن ببلدية مفتاح، سينتابك شعور بالوحدة طالما أن المنطقة تنفرد بسكونها، اللهم أصحاب الشاحنات التي تتوقف بمحاذاة ورشة العمل تنتظر دورها أو حركة بعض الشباب الذين اتخذوا من ذلك المكان وسيلة للفوز بلقمة عيش ليست مضمونة كل يوم· أطفال وشباب من كل الأعمار اختاروا العيش على فضلات الإسمنت الذي يلتصق في ''كوكوطات'' الشاحنات، حيث يقضون ساعات النهار وبعضا من الليل في تجميعها في أكياس وبيعها لتجار ''التجزئة'' الذين يعرضونها على جنبات الطريق· الدخول إلى هذا المحيط المغلق والمساحة التي احتكرها هؤلاء الشباب ليس بالأمر الهيّن على الإطلاق، ومحاولة التحدث إليهم تتطلب من الزائر قدرا معينا من الحيلة واللباقة في استدراجهم للحكي وسرد مغامراتهم اليومية مع الحرفة التي اتخذوها وسيلة للاسترزاق· وما كنا نأمل في الحصول عليه من معلومات حول هؤلاء الشباب لم نصل إليه بالشكل الذي كنا نتخيله، طالما وأنهم لا يتحدثون كثيرا خاصة إذا تعلق الأمر بالصحافة· العمل من أجل القوت المعلومات التي كانت بحوزتنا تشير إلى تواجد أكثر من 50 طفلا وشابا يمتهنون حرفة جمع فضلات الإسمنت من الشاحنات، غير أننا فوجئنا عند زيارتنا لهم بعدد قليل لا يتجاوز السبعة أفراد، والسبب، حسب ما قيل لنا، هو وصولنا إلى عين المكان في حدود الساعة الحادية عشر صباحا، وهو توقيت يكون فيه هؤلاء الشباب قد انتهوا من عملهم اليومي، حيث يتفرغون فيما تبقى من وقت النهار إلى جمع ما أخرجوه من ''كوكوطات'' الشاحنات قبل تسويقه إلى تجار الأرصفة بأسعار سنعود إليها خلال سردنا لحكاياتهم· عندما هممنا بالحديث مع أربعة شبان وجدناهم بعين المكان، تعالت قهقهاتهم عندما علموا أننا صحفيون، لكن سرعان ما بدأ الهدوء والصمت يملأ فضاءهم، عندما باشرنا أحدهم بسؤال تقليدي: ماذا تفعل هنا؟ وبدون تردد أجابنا ذلك الشاب بنبرة بريئة براءة سنه الذي لا يتجاوز ال17 سنة ربيعا: ''أنا أعمل لأوفر رزق يومي''، لكن لماذا اخترت هذه المهنة بالذات؟ ''بعد خروجي من المدرسة لم أجد ما أفعله ففضلت مزاولة هذا النشاط لأني على يقين بأنني سوف لا أجد عملا في سني هذا''· وهل أنت فعلا في أمسّ الحاجة إلى ذلك، هل لديك أسرة؟ بلى، لكن الأوضاع الاجتماعية لعائلتي حتمت عليّ دخول عالم الشغل مبكرا، وأعتقد أن ذلك جنبني اللجوء إلى السرقة أو الانحراف''· يتراوح مصروف الجيب الذي يجنيه هذا الشاب الذي علمنا في سياق حديثنا معه بأنه يدعى عبد المالك، بين 500 إلى 700 دج يوميا، ويتطلب منه الأمر النهوض باكرا على الساعة الرابعة صباحا والاستمرار أحيانا إلى ساعات متأخرة ليلا وفق ما يتوفر له من فرص لجمع ما استطاع من بقايا الإسمنت: ''يتطلب منه الأمر أحيانا استخراج الإسمنت من داخل كوكوطات الشاحنات، وأحيانا أخرى يكتفي بملء الكيس من الخارج''· ما سمح لنا بمواصلة الدردشة مع هذا الشاب الذي غادر مقاعد الدراسة في السنة الثامنة، هو ميله إلى نطق لغة فصيحة تنم على أنه يملك مستوى تعليميا معينا، غير أن ما لفت انتباهنا ونحن نحاول كشف أغوار حياة هذا الشاب هو بنيته المورفولوجية التي تطرح أكثر من سؤال حول قدرته على القيام بهذه الأعمال يوميا، لأنه يملك جسما نحيفا، رغم لباسه الذي اكتساه الغبار المتطاير من معمل الإسمنت الذي جعله يتقمص صفاتا ومواصفات عامل بأتم معنى الكلمة· تلميذ في المدرسة وعامل خارجها حتى وإن كانت أعمار الشباب الذين يمارسون هذه المهنة المتعبة تتراوح في الغالب بين 18 و 40 سنة، إلا أن ذلك لم يمنع من تواجد بعض الأطفال في صفوفهم، كحال ذلك التلميذ الذي التحق بالمجموعة التي كنا نتحدث إليها، وهو على خلاف زملائه يرتدي لباسا نظيفا ويحمل على ظهره محفظة وهي صور كانت كفيلة بمعرفة هوية عمل هذا الطفل الذي لا يتجاوز سنه 15 عاما ويدرس في السنة الثالثة متوسط، غير أننا تفاجأنا عندما أخبرنا زميل له بأنه يزاول هو كذلك هذه الحرفة خارج أوقات الدراسة، وكان أول سؤال وجهناه إلى هذا الطفل التلميذ هو كيف يستطيع التوفيق بين الدراسة والعمل في هذا المكان وسط شباب يفوقونه سنا وقدرة، ولم يجد صعوبة في الرد علينا قائلا: ''بدأت في التردد على هذا المكان منذ سنتين، حيث ألتقي بزملائي في الصباح الباكر لمدة ساعتين إلى ثلاث ساعات، وفي حدود السابعة والنصف أتوجه إلى التكميلية لمزاولة دراستي، كما استغل كل أوقات فراغي لجمع هذا الإسمنت وبيعه لتجار معروفين على مستوى بلدية مفتاح''· ما شدنا إلى هذا التلميذ العامل، ونحن نحدق في عينيه وبنيته الضعيفة هو صراحته في سرد يومياته وبعض جوانب حياته الأسرية: ''نظرا للفقر الذي تعاني منه أسرتي وجدت نفسي مضطرا للبحث عن عمل كهذا أوفر به مصروف جيبي، الذي يتراوح يوميا ما بين 100 إلى 300 دج والحمد لله''· لكن أي موقع للدراسة في كل هذا، ألا يؤثر عليه هذا العمل في القيام بفروضه والاستعداد للامتحانات، ثمة قناعات لدى هذا التلميذ العامل، فهو إلى جانب حاجته إلى المصروف، يقطن بمحاذاة معمل الإسمنت وبالتالي فقرب المساحة يسمح له بالانتقال إلى المدرسة أو شاحنات الإسمنت بصورة سهلة للغاية وهو ما حاول به تبرير اختياره لهذه المهنة دون سواها، كما علمنا منه كذلك أن عائلته لا علم لها بما يفعله ولو علم الوالد مثلا لأوقفه، وبقدر إيمانه بأن ما يفعله هو عين الصواب، فهو يعي جيدا مدى الأضرار والأمراض التي قد يتعرض لها جراء الغبار الذي يستنشقه يوميا، لكنه يصر على مواصلة الذهاب إلى حيث يوفر بعض الآلاف· أوامر من قائد المجموعة خلال الفترة التي قضيناها مع هؤلاء الأطفال لم يتوقفوا عن توجيه سؤال إلينا من حين إلى آخر وهو هل تكتب الصحافة عنا ونظهر في الصحف، بعد أن طمأناهم بأن ماهية ما نقوم به هو نفض الغبار عن شريحة من الشباب الجزائري التائه بين البطالة والتشرد والجري وراء لقمة العيش وأننا سوف لن ننشر أي صورة عن يومياتهم، عادت الطمأنينة إليهم وواصلوا الحديث معنا، وفي الوقت الذي هممنا فيه بمعرفة قصة شاب آخر، حدث ما لم يكن في الحسبان حيث ظهر من وراء إحدى الشاحنات المتوقفة بمحاذاة المعمل والتي أصبحت تمثل رزقا لهم، شاب آخر لم يظهر منذ وصولنا، وتكفي النظرة الأولى لهذا الشاب لنكتشف فيه ملامح مسؤول بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وقد اتضح لنا ذلك بل وتأكدنا منه من خلال كلامه مع الشبان وهو عبارة عن أوامر يصدرها، على منوال ماذا تفعلون هنا، ومع من تتحدثون، عندما علم بأننا من الصحافة طلب منا الانصراف بلباقة، وأمام ترددنا وعدم الاستجابة إلى أوامره هددنا بالضرب بواسطة قضيب حديدي كان يحمله بيده، حيث تحولت فجأة نبرة حديثه الذي تخلله كلام ساقط، فما كان علينا سوى العودة من حيث أتينا، لأن البقاء ومواصلة عملنا لم يكن ممكنا على الأقل خلال لحظة الغضب التي انتابت قائد المجموعة ومرشدها بل وحاكمها· غادرنا مملكة أطفال الإسمنت، وكلنا أسف عن عدم سماع بعض هؤلاء الشباب الذين كانوا يودون سرد مشوارهم مع هذه المهنة، إلا أن كلام قائدهم كان بمثابة القطرة التي أطفأت شعلتهم المتوهجة لمدّنا بقصصهم وما أكثرها· 250 دج للكيس الواحد ونحن نشد الرحال عائدين من عمل أحسننا أننا لم نعطِه حقه كما يجب، دفعنا فضولنا الصحفي إلى التوقف عند أحد تجار الرصيف المختص في بيع أكياس الإسمنت، الذي يجهد أولئك الشباب أنفسهم ويعرضون صحتهم للخطر من أجل ملء ما استطاعوا من أكياس· في بداية الأمر وقصد معرفة سعر الكيس الواحد، تقمصنا شخصية الزبون وبادرنا البائع بسؤال عن سعر سلعته، فأجابنا على عجالة 250 دج، وحتى لا ينكشف أمره ونواصل التمثيلية، سألناه عن جودته، فرد علينا قائلا بإمكانكم تشييد قصور به، فهو ذو نوعية جيدة واسأل الذين استعملوه· لم نرد مواصلة الحديث طويلا مع ذلك الشاب، بعد أن علمنا منه بأنه يشتري الكيس الواحد في سوق الجملة بمملكة الاسمنت ب 230 دج وأن هامش الربح لا يتجاوز 20 دج في سوق التجزئة· غير بعيد عن هذا البائع الذي وعدناه باقتناء الاسمنت من عنده إذا دعتنا الضرورة إلى ذلك مستقبلا، واتجهنا نحو بائع آخر يختلف عن سابقه من كل النواحي، أولا هو رجل في ال40 من عمره، يملك ''براكة'' من الزنك يستعملها لتخزين أكياس الإسمنت وبيعه، وصادف توقفنا تواجد شاحنة صغيرة بها أكياس وشاب في مقتبل العمر منهمك في تفريغها أمام أعين صاحب المحل· في البداية لم نكشف له هويتنا بل خضنا معه في الأسعار التي يبيع بها، حيث أخبرنا بأن الكيس الواحد يحتوي على 38 إلى 40 كلغ وسعره هو 250 دج، وبينما كان منهمكا في وصف منتوجه وسلعته والتأكيد على جودته، همسنا في أذنه بأننا نحن صحفيون وجئنا من أجل معرفة أسرار هذه المهنة المعروفة منذ سنوات ببلدية مفتاح، وبقدر المفاجأة التي انتابته وتغير ملامح وجهه، حاول إخفاءها، أبدى سعادته بالحديث إلينا، حيث قص علينا حكايته مع أكياس الإسمنت: ''أنا أب لأربعة أطفال وأزاول هذه المهنة منذ خمس سنوات، حيث أقوم ببيع الإسمنت وأحيانا بجمعه بواسطة الدلو من الشاحنات المحاذية للمعمل، وقد فضلت هذا العمل حتى لا ألجأ إلى السرقة أو أعمال أخرى لا يرضاها الله''· بحكم كبره في السن فإن المشوار المهني لهذا المواطن الذي أصر على عدم ذكر اسمه، بدأ مبكرا حيث سبق له حيث عمل في مطعم من سنة 1995 إلى 2003: ''بعد توقيفي عن الشغل وطردي مكثت ثلاث سنوات بدون عمل، قبل أن أتحول إلى ممارسة أعمال حرة ليقودني القدر إلى مهنة بيع الإسمنت كما تلاحظون''· ومن بين ما قاله لنا هذا التاجر هو أن أباه كان مجاهدا في الثورة ولم يأخذ حقه إلى أن وافته المنية، وأنه يحمد الله لأن همّه الوحيد اليوم هو تأمين قوت عائلته وأبنائه الأربعة الذين تتراوح أعمارهم بين شهر و7 سنوات، ويعيل عائلة كبيرة تتكون من ثمانية إخوة متزوجين يعيشون في منزل من 12 غرفة وكلهم يشتغلون في أعمال حرة· مخاطر صحية تهدد الشباب لا نضيف شيئا إن قلنا إن العمل في ورشة مثل معمل الإسمنت وما ينتجه من غبار يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على العمال والسكنات المحاذية له· وتبعا لذلك، فقد توجهنا إلى مستشفى الأمراض التنفسية المتواجد ببلدية مفتاح قصد الوقوف على بعض الحالات التي تكون قد أصابت عمال مملكة الإسمنت من الشباب الذين تحدثنا إليهم، غير أننا فوجئنا بعدم استقبال المستشفى لأي حالة تخص هذه الشريحة· وبالمقابل، فقد تحدثنا مع أحد المختصين في الأمراض الصدرية، حيث أكد لنا بأن الأطفال والشباب الذين يعملون بمحاذاة معمل الإسمنت معرضون مستقبلا إلى الإصابة بثلاثة أمراض أساسية هي: 1) خطر الإصابة بمرض سرطان غلاف الرئة ويدعى ''ميزوتيليون'' MESOTHELIONE بعد سنوات· 2) سرطان الرئة· 3) صعوبة التنفس بسبب انكماش الرئة مع مرور السنوات أو ما يسمى ب ASBESTOSE.