في يوم 11/2/2011 فعلها المصريون وأطاحوا بالفرعون حسني سيد إبراهيم مبارك الذي أذلهم طويلا وعميقا، وفعلوا ذلك في ذكرى انتصارهم على آخر الحملات الصليبية الأوروبية على الوطن العربي حين اعتقلوا ملك فرنسا في المنصورة في 11/2/.1202 وما أن تم خلع مبارك حتى ارتفعت زغاريد المصريين الذين كانوا بملايينهم يملأون شوارع مدنهم وقراهم وتدفق ناس الأمة العربية مشرقا ومغربا يرقصون في الشوارع يشاركون شعب مصر فرحته التي لم يحدث مثلها منذ قرون. وهنا أود أن ألاحظ مايلي: 1 - أن ليس في الذاكرة العربية طوال تاريخها المشرقي والمغربي على حد سواء أن خرج الناس في توقيت واحد بزغرودة واحدة وبإجماع غير مسبوق سوى لحظة إعلان استقلال الجزائر عام 1962 حين خرجت الأمة العربية كلها وفي طليعتها شعب مصر بزغرودة واحدة تشارك شعب الجزائر فرحته الكبرى التي لم يفرح مثلها بعد. 2 - أن حركة التحرر القومي العربي التي بدأت في الجزائر عمليا على يد الجزائريين بكفاحهم ضد الاحتلال الفرنسي عام 1830 وأخذت أبعادها الفكرية في المشرق العربي، وشارك الأمير عبد القادر وجماعته في دمشق في بلورتها فكريا وسياسيا، حتى أراده المصريون أن يكون رئيسا لحزبهم الوطني.. هذه الحركة تعود للتجدد مرة أخرى من المغرب العربي نفسه، حيث انطلقت شرارة هذا التجديد العملي من تونس خلافا لكل التوقعات والدراسات ذات المنهج الغربي، فأشعلت تلك الشرارة شعب مصر، وهو محرك الأمة ومركز قراها وخلاصة حضارتها.. فنجح المصريون بتأكيد بدء حركة التحرر القومي العربي في كنس الأنظمة البوليسية التي فرضها عليهم الغرب الصهيوني الاستعماري.. وهذا ما يستحق التأمل والدراسة والاستنتاج، فمعظم العرب يعيشون في الجناح الغربي من وطنهم الذي تربطه مصر بالجناح الشرقي. 3 - هذه المرة الثالثة في تاريخ العرب الحديث الذي تسقط فيه الجماهير المدنية غير المسلحة نظاما عسكريا بوليسيا، حيث كانت المرة الأولى في ستينيات القرن العشرين حين أسقط المدنيون السودانيون حكم الجنرال إبراهيم عبود، وبعد عقود لقن الشباب التونسي الشرطي زين العابدين بن علي، درسا فتح دفتر التاريخ ليبدأ الشباب المصري وبسرعة مدهشة تقليب صفحات هذا الدفتر ويكتبون على رأس الصفحة الأولى: سجل أنا عربي وها أنا أكلت لحم مغتصبي. وبالتأكيد أنه بعد نجاح حركة شباب مصر وعودة الإسلامي إلى حالة الثورة حين انضمت إليهم كل فئات المجتمع العمرية والفئوية والاجتماعية والمهنية... لم يعد أي مستقبل للنظام البوليسي العربي والإسلامي، وعلى هذا النظام أن يتحسس بجدية رأسه.. فقد ثبت بما ليدع مجالا لزيادة مستزيد أن المؤسسة الأمنية سواء بشكلها الشرطي العلني أو السري أو بشكلها العسكري ليس بإمكانها الحفاظ على نفسها، ناهيك عن أي نظام تصنعه أو يوظفها.. وتبدو المسألة قابلة للعدوى لتشمل أي نظام عشائري أو ديني.. فليس هناك مجال بعد للسيطرة الأقلية في الوطن العربي حتى لو دعمتها كل قوى العالم. 4 - كسرت ثورة شعب مصر التي أطلقتها شرارة تونس عنجهية النظام الاستعماري الغربي، فمن الملاحظ أن أوباما حين هنأ الشعب المصري بسقوط الفرعون كان يتكلم بعواطفه كرجل أسود أكثر منه كرئيس للولايات المتحدة التي تشجع الأقليات والفئات والعسكر والبوليس لقمع أكثرية الأمة.. فقد تحدث الرجل عن مارتن لوثر كينغ وعن غاندي الهند الذي رفض الاعتراف بالصهيونية التي تحرك السياسة الأمريكية نفسها.. كما كشفت الانتهازية والنفاق واللصوصية التي يقوم عليها نظام الإضطهاد العالمي الذي يمثله في هذه الحقبة كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا وروسيا والصين التي تنزلق رويدا رويدا إلى هذا المعسكر البغيض وتكاد تصطف معه. 5 - أثبتت ثورة تونس ومصر أن حركة التحرر القومي العربي هي حركة الشباب العربي على مدى الدهور، فهي ليست حركة عرقية أو إثنية أو طائفية أو سلفية أو طوباوية، ليست جامدة في التاريخ ولا عاجزة أمام المستقبل، وكنت قد كتبت في ''الجزائر نيوز'' وفي غيرها من الصحف، أن الأمة العربية ترفض أن تصلب على جدران التراث أو تشنق على أبواب روما. وهاهم شبابنا في تونس ومصر يبرهنون بأن حركة المجتمع العربي هي حركة داخل أرقى حالات العصر من حيث التكنولوجيا ومن حيث المفاهيم ومن حيث القيم، وأن المتخلف والرجعي والمتعفن هو الدولة العربية نفسها، وهي الأيديولوجيات الطائفية والفئوية والانفصالية والعرقية والعنصرية وقوى الإستغلال والاحتقار المحلي والدولي.. فمنذ اليوم صارت العروبة تعني المساواة والعلم والتنمية.. ولم يعد للشعارات السياسية البلهاء والثرثرات السياسية التي تغطي كل الموبقات أي مكان في هذه الأمة، فها هو شاب عربي في بلدة تونسية معزولة يثور في وجه شرطية مكنها نظام بوليسي داعر من صفعه، فتسقط ثورته فراعنة هذا الزمن فرعونا إثر فرعون. ولا يجد هؤلاء الفراعنة عاصما لهم حتى لدى أسيادهم الذين سلطوهم ولا في أموالهم التي نهبوها، فلا روما نفعتهم ولا التراث أنقذهم. 6 - إن حركة التحرر القومي العالمي حشرت الصهيونية، وهي أهم تجليات الفكر الاستعماري الاستيطاني عبر التاريخ في زاوية جد ضيقة، فلم يعد باستطاعة هذا الفكر ومعه صهيونيته القول بأن العرب أمما شتى وأنهم متخلفون وأنهم لا يستحقون الديموقراطية وما تعنيه من حرية وعدالة ومساواة، وأنهم مسلمون إرهابيون، وأنهم لا يستحقون أوطانهم... بل إن السياسة الدولية اليوم إذا أرادت أن تتخلص من سقوطها الفكري والسياسي، فبإمكانها الاعتماد على حركة الشباب العربي في تونس ومصر وغيرها من الأنظمة العربية -حيث لم تعد هذه السياسة قادرة على حماية هذه الأنظمة- لإقامة نظام عالمي جديد ليس فيه مجال للاستغلال وكل أدواته الرجعية من طائفية وإثنية وبوليس وإرهاب واستعلاء واستكبار واستيطان. 7 - أثبتت أن التاريخ العربي في تونس ومصر وعموم المشرق والمغرب ليس وحدة جغرافية فحسب، بل هي وحدة حضارية منصهرة منذ فجر التاريخ.. فقد وجدنا تلاحما غير مسبوق في القارات الخمس بين الحضارة القرطاجية البونيقية والحضارة الفرعونية والحضارة الفينيقية والبابلية في بوتقة عربية إسلامية واضحة وراسخة، فليس بالمعنى أن يقيم المسيحيون قداس الأحد في ميدان التحرير بحماية المسلمين، وأن يقيم المسلمون صلاة الجمعة بحماية المسيحيين، وأن يتزوج شباب مصريون في القاهرة - التي بناها المغاربة - وفي الإسكندرية - التي أنتجت الفكر اليوناني - ويؤسسون عائلات جديدة تحت هذا المعنى. هذه الملاحظات التي سقتها تجعلني أقول: إن أولئك الذين أرادوا إفساد فرحة الشعب الجزائري مع أخيه الشعب المصري واستغلالها لأهداف إثنية وطائفية وبوليسية وفوضوية تشنق الجزائريين على أسوار التراث وتصلبهم على أبواب روما.. إنما هم يأتون من زمن تجاوزه هذا الزمان، زمان شباب حركة التحرر القومي العربي في المشرق والمغرب الذي طلع وردة متفتحة من الجرح العربي.