بات الإصلاح السياسي والديمقراطي جزء رئيسيا من قاموس النخب السياسية والفكرية والإصلاح، هنا ليس مقصودا لذاته بقدر أهميته في بناء حياة ديمقراطية حقيقية تكفل تداول السلطة سلميا وانتخابات نزيهة والمزيد من الحريات وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان، وهو ما يدفع نحو أوضاع مستقرة داخل الدولة، هذا مع علمنا بأن التحول الديمقراطي في العالم العربي في الوقت الراهن يواجه عدة مخاطر لما يشكل من تأثيرات على هيكلة الدولة، فالتحولات الراهنة ارتبطت إلى حد كبير بعامل التدخل الخارجي والذي وصل إلى درجة الاستخدام الحاد للقوة العسكرية كما حدث في حالة العراق أو الضغوط الإكراهية كما حدث في حالتي سوريا وإيران وبعض الدول العربية الأخرى بأشكال وعلى مستويات مختلفة، مما أدى إلى ظهور تفاعلات سياسية حادة لم تكن موقعة· كذلك فإن التطورات السياسية داخل الدول ارتبطت بموجة موازية تتمثل في تصاعد تأثير العامل الإسلامي على التفاعلات السياسية وتداعيات الحرب الأمريكية على ما أسموه بالإهاب في كثير من مناطق العالم العربي مما أدى إلى اختلاط كبير في اتجاهات ومفاهيم التغيير المستهدف على المستويات المختلفة غير أن التسارع غير المعتاد في التحولات الديمقراطية في ظل تأثيرات وسائل الإعلام وطموحات الرأي العام خاصة النخب السياسية وربما الضغوط الخارجية وظهور تنظيمات سياسية جديدة لم تتبلور بعد بما لا يتناسب مع معدلات التحولات الجارية في بنية الثقافة المجتمعية للشعوب المختلفة ومجموعة الأطر القيمية والثقافية والاقتصادية وغيرها التي تحكم سلوكياتها وتحد توجهاتها قد دفع في اتجاه ظهور أشكال من عدم الاتزان الداخلي التي تحمل معها احتمالات للصدام أو الفوضى أو السلوكات العشوائية غير النمطية على الأقل· هذا في وقت مست فيه عملية التحول الديمقراطي لبعض الدول قضايا كبرى لا تتعلق فقط بطبيعة النظم السياسية وإنما بهياكل الدولة الموحدة ذاتها وأدى ظهور أطر غير معتادة في المنطقة العربية لتقسيم السلطة وتقسيم الثروة والفيدرالية وأشكال اللامركزية الأخرى إلى طرح احتمالات تأثير كيانات الدول ذاتها ومن ناحية أخرى كشف ضغط التحولات الديمقراطية عن وجود مشكلات معقدة طائفية وعرقية ومذهبية كانت كامنة داخل العديد من الدول العربية وسيطرت هذه المشكلات على الناتج الديمقراطي لتفرز ظواهر غير تقليدية بالنسبة لمفهوم الديمقراطية الليبرالية ذاتها على نحو يطرح مسألة الديمقراطيات غير المستقرة، وإذا كان تعريف التحول الديمقراطي على أنه المرحلة الانتقالية بين نظام لا ديمقراطي متوجه لحالة ديمقراطية فإنه لا يوجد نظام ديمراطي واحد يمكن أن نقيس عليه مدى اقترابنا منه أو مدى ابتعادنا عنه، علما بأن النظام الديمقراطي له جوانب تطبيقة مختلفة تستند إلى جوانب عامة ومنظومة قيم ليبرالية ومجموعة مؤسسات ومجموعة من القيم المتعلقة بالمحاسبات وبدور القانون وبالتعددية وبالانتقال السلمي للسلطة وهي تتجسد في تجارب مختلفة ما بين برلمانية ذات غرفة واحدة أو ذات غرفتين أو بين نظام رئاسي أو برلماني ورئاسي في نفس الوقت، وهذه المرحلة الانتقالية تتطلب تجاوز مظالم معينة منها إنهاء حالة اللاحريات، إيجاد دستور مقبول الدعوة لعقد اجتماعي جديد تشارك في صياغته القوى السياسية المختلفة بحيث يكون مقبولا من جميع أطراف المجتمع المدني، أما فيما يتعلق بالفيدرالية التي تطالب بها بعض الفئات الشعبية في بعض البلدان العربية فإن السلطة المركزية تكون قائمة لكنها تفوض كثيرا من صلاحياتها إلى الأقاليم أو المحافظات أو الولايات على حسب كل دولة، والتحول في حد ذاته تصاحبه حالة من هدم القديم وبناء الجديد مما يثير الجدل في كثير من الأحيان، لكن الأهم هو البناء الاجتماعي الذي يصاحب عملية التحول الديمقراطي لأن التبلور الطبقي في المجتمع له دور مهم جدا خاصة أننا نرى مجتمعات سقطت بها الطبقة الوسطى التي تمثل حالة التوازن الحقيقي بين الحاكم والمحكوم، فالتحول الديمقراطي يشترط إعادة هيكلة الدولة وهذه الهيكلة ترتبط بعوامل رئيسية أهمها حجم المظالم الذي كان يقترفه النظام اللاديمقراطي السابق والتي تقود إما لتحول سلمي إصلاحي ديمقراطي والسلطة هي التي ترعاه ويتم بالتدريج ربما تكون الجزائر ومصر واليمن والبحرين والأردن والمغرب من أبرز الأمثلة في هذا السياق أو لتحول القطيعة الكاملة للنظام السابق مثل النموذج الجاري في العراق أي أنه كلما توافر العامل العرقي والجغرافي والضغط الخارجي وقوة المظالم مجتمعة نشهد محاولة كبيرة تستهدف إعادة هيكلة الدولة، وإذا أخذنا التجربة العراقية مثلا فعندما استولى صدام حسين على الحكم في العراق أوائل الثمانينيات توج النظام الفردي الديكتاتوري قرابة نصف قرن، كان النظام يعتمد على الانقلابات العسكرية دون إرادة الشعب، اختلطت السلطة التنفيذية والتشريعية ولم يكن هناك فصل بينهما، إفتقدت الدولة الضمانات القانونية وكفالة الحريات وحقوق المواطنين· كان هيكل الدولة العراقية مفتقدا للمؤسسات القانونية والدستورية، وقائما على الأجهزة الأمنية القمعية، فقبل هيمنة حزب البعث كانت التنظيمات الشعبية في خدمة حزب البعث والأجهزة الأمنية، ولم تكن ترعى مشاكل الطلبة والمرأة، كما كان مفترض وأنفقت مبالغ كبيرة من الدول لبناء الأجهزة الأمنية، ثم جاء الغزو الأمريكي فلم تستطع أجهزة الدولة الاستمرار في عملها منذ 3002، إلا أن العراق بدأ حاليا مرحلة التحول الديمقراطي وإن كان يحتاج لفترة زمنية كبيرة لبناء الدولة خاصة في الظروف الأمنية الصعبة التي تشهدها البلاد، كما أن أهم الإشكاليات التي تواجه التجربة العراقية تكمن في مشكلة الهوية وبناء الدولة واكتساب الشرعية، فالعراق كنموذج يستحق أن يدرس خاصة أن عملية التغيير فيه فتحت الأبواب على مصراعيها للتغيير في المنطقة العربية، فما يحدث في تونس ومصر وليبيا والبحرين والعالم العربي من تغييرات حاليا هو انعكاس لما يحدث في العراق، هذا من جهة ومن جهة ثانية قد تكون هناك دول عربية فاشلة حيث لا تستطيع بسط يدها على كل ترابها وهذا ينطبق على السودان الذي خضع منذ زمن طويل لنظرية التجربة والخطأ حيث فشل في تكوين دولة وطنية موحدة يشعر داخلها الناس بمختلف فئاتهم بأنهم سودانيو الهوية، فلقد أصبحت مسألة الانتماء للدولة مثارا للشك فبعد حكم محمد علي انتقل السودان لحكم الثورة المهدية التي تتوقت لحكم العالم كله ونشر الإسلام دون أن تعتني ببناء دولة سودانية لها هوية مستقلة وظلت الدولة تمر من حكم مدني إلى آخر عسكري، ومن المركزية إلى اللامركزية مما جعلها خاضعة للتجربة والخطأ، ومنذ إبرام اتفاقية بين جون غرانغ والحكومة أعطت الأولوية للسلام وليس للتحول الديمقراطي، كما أن الاتفاقية ضمت الحكومة والمتحاربين القادرين على حمل السلاح دون أن تأخذ في الاعتبار باقي الفصائل المعارضة، وهذا ما أكد أن السودانيين يصنعون أزماتهم بأيديهم مما أدى إلى انفصال الجنوب والآن عليهم أن يبحثوا عن عقد اجتماعي جديد يوحد صفوفهم في شمال السودان·