''تبقى لحظة غياب الفلسفة، لحظة تاريخية عدمية، تجاوزها مقترن أساسا بلحظة الوعي بأهمية حضورها كلحظة محورية في تأسيس خطاب حقيقي حول الإنسان''· هذه هي نظرة محرز بويش، أستاذة الفلسفة بجامعة عبد الرحمان ميرة ببجاية حول ممارسة الفلسفة بالجزائر، مؤكدا أن الدولة لم تول أي اهتمام لها، وأن الجامعة الجزائرية تحوّلت إلى موزعات آلية للشهادات في شعبة الفلسفة· ما هو واقع ممارسة الفلسفة بالجزائر، من خلال تشخيص أولي لمكانتها وقيمتها في المنظومة التربوية والجامعية الجزائرية؟ إن التساؤل الفلسفي الكينوني الذي يطرح من تلقاء نفسه حول واقع الممارسة الفلسفية في الجزائر يخضع أساسا للعديد من الإبهامات الجوهرية، وذلك استنادا لاعتبارين رئيسيين: الاعتبار الأول يكمن في عدم وضوح رؤية الدولة والإيديولوجيا التي تقوم عليها، فيما يخص الفلسفة والأهداف المرجو تحقيقها من تعليمها، سواء كان ذلك في الطور الثانوي أو الجامعي· أما الاعتبار الثاني فيكمن في طبيعة الإشكاليات التي يتضمنها الخطاب الفلسفي في الجزائر، وهي إشكاليات سطحية متشرذمة بعيدة كل البعد عن ''البركسيس الفلسفي'' الفعلي· فالنخبة المهتمة بالمسائل الفلسفية في الجزائر بقيت حبيسة النزوات التأملية وبعيدة كل البعد عن متطلبات الواقع العام· التناقض غير الطبيعي، في اعتقادي، الذي يمكن تأمله في واقع ما يعيشه الخطاب الفلسفي في الجزائر، هو أنه على الرغم مما عرفه تاريخ الجزائر المعاصر من تحولات فكرية جوهرية مست جل القضايا الحساسة، أثرت بشكل فعال على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والتحولات التي مهدت لتأزم الوضع الاجتماعي والأمني، وساهمت في تجذر الفكر المتطرف الإقصائي القائم على رفض الآخر، وغياب الحوار والفكر النقدي، وتأصل ثقافة العنف واللاتسامح، وبروز أطر الاستبداد والحكم الشمولي··· إلا أن الفلسفة بقيت بعيدة عن أطوار التحولات التاريخية التي عرفتها الجزائر وحبيسة السطحية في تعليمها· الفلسفة في الجزائر تعيش لحظة تغييب مدروسة، وسياسة تهميش مقصودة، تهدف -أساسا- إلى إعادة إنتاج الأنساق الفكرية القديمة التي تؤسس لمصالح فئوية ضيقة· إن لحظة تغييب الفعل الفلسفي يمهد منطقيا لولوج لحظة اللاوعي· وأؤكد أن الجامعة الجزائرية تحوّلت إلى موزع آلي للشهادات الجامعية في شعبة الفلسفة· الفلسفة شعبة يتهرّب منها الطلبة ويفضّلون الشعب الأخرى، ما أسباب ذلك؟ العقل الجزائري اليوم لم يعد يستطيع التموقع في لحظة الحضور التاريخي للفلسفة، مثلما كان عليه في سنوات السبعينيات، حين كان الفكر الجزائري يعيش ديناميكية فكرية كرّست نوعا من التحرر الفكري والإنتاج المعرفي الذي يرقى في بعض من أشكاله إلى مرحلة التفلسف والتأسيس للتساؤل الفلسفي المفقود في الفكر الجزائري، على الرغم من سيطرة نظام الحزب الواحد القائمة على مركزية السياسة المشخصة· غياب الحرية الفكرية بمفهومها الواسع، وغياب لحظة الحضور الفعلي للفلسفة في المخيال الاجتماعي العام، جعل الفرد الجزائري بصفة عامة وفئة الطلبة بصفة خاصة تتذمر من مادة الفلسفة· فالإحصائيات اليوم تؤكد أن أكثر من 07 بالمائة من الطلبة الموجهين لدراسة الفلسفة في الطور الجامعي لم يكن طبقا لرغباتهم، وهذا الأمر يؤكد عدم قدرة الفلسفة - كما هي مُدرسة في الجزائر وفقا لمنظومة مفاهمية ضيقة - على استقطاب الطلبة لها وتعميم القضايا التي تهتم بها داخل المجتمع، خاصة وأن المجتمع الجزائري يعيش خارج أطر ما يسمى بمجتمعات المعرفة، وسجين منظور العولمة الاقتصادية المتوحشة التي تربط مسألة التحصيل المعرفي والتأهيل المهني بمتطلبات سوق العمل· لمسنا في السنوات الأخيرة تراجعا فادحا لنوعية التأطير في شعبة الفلسفة بالجامعة الجزائرية، إلى ماذا يرجع ذلك؟ إن الاستفهام اللماذائي حول الممارسة الفلسفية الأكاديمية لا يمكن طرحه بمعزل عن أسئلة أخرى متعلقة -أساسا- بطبيعة البرامج المعتمدة في الطور الثانوي والحجم الساعي للتدريس ولغة التدريس وأهداف التدريس والتخصصات المقترحة، وتأهيل وكفاءة المؤطرين والتوجه الإيديولوجي للدولة· لكن ما يمكن قوله حول هذه النقطة، إنه من غير الضروري في مسار تحليل مسألة ضعف التدريس والتأطير في مجال الفلسفة في الجامعة الجزائرية غض النظرئعن طبيعة التصور العام الذي تبنته المنظومة التربوية والجامعية الجزائرية في تحديد الأهداف المرجو تحقيقها منها، على اعتبار أن المدرسة والجامعة مؤسسات الدولة، ومنه فهاتان المؤسستان لا تخرجان عن منطق الدولة الذي يفرض نفسه· إن أسبقية منطق الدولة على حرية الفكر شكل وما يزال يشكل عائقا يحول دون تطور الفعل الفلسفي في الجزائر· تقديم المقاييس في شعبة الفلسفة بالجامعة الجزائرية يعتمد أساسا على المراجع والمؤلفات العامة ولا تهتم بشكل أساسي بنصوص الفلاسفة، لماذا برأيك؟ بالفعل، أعتبر أن سؤالك أكثر من ممتاز ويشخص الحالة الرهيبة التي تعيشها عملية تدريس الفلسفة في الجامعات الجزائرية· فبعدما تم تعريب تدريس الفلسفة في منتصف الستينيات من القرن الماضي، أفرز ذلك ولوجا لنخبة معرّبة متخصصة في مسائل الفلسفة، معظم عناصر هذه النخبة -إن لم أقل كلها- كانت ذات توجه إسلامي- تعريبي، الأمر الذي سهل لها توجيه مواضيع الفلسفة وتخصصاتها إلى كل ما يتعلق بالفلسفة الإسلامية والأنساق الفلسفية التي تتناسب وطبيعة النظام الحاكم آنذاك، والقرائن على هذا التوجيه عديدة، وأكتفي بذكر ثلاث قرائن هامة وهي: أولا: البرامج المعتمدة في عملية تدريس الفلسفة، ثانيا: ما عدا الكتب باللغة الأجنبية التي كسبتها جامعة الجزائر بقيت عملية تزويد المكتبات الجامعية بالكتب الفلسفية قائمة على معايير انتقائية محضة، ثالثا: تهميش تدريس اللغات في معاهد الفلسفة على غرار اللغة الألمانية والإنجليزية والفرنسية· لاحظنا، مؤخرا، التراجع الفادح للبحوث الفلسفية بالجزائر، وهناك إجماع الباحثين على تأخر الكتابات الفلسفية بالجزائر مقارنة بالمغرب وتونس، بماذا تفسر ذلك؟ مسألة البحوث الفلسفية في الجزائر ينطبق عليها المثل القائل ''الشجرة التي تغطي الغابة''، فالمتأمل في الإنتاج الفلسفي في الجزائر يخلص إلى نتائج جد مخيبة لطموحات الفلسفة نفسها· في اعتقادي، قلة هذه البحوث وتمركز غالبيتها في فلك المواضيع المقترنة بالفلسفتين الإسلامية والعربية المعاصرة يؤكد ثلاث نقاط رئيسية، وأعتقد أن مسألة ذكرها أكثر من ضروري، فأولها: هي قلة البحوث الفلسفية، وهذا يؤكد أن الجزائر لا تملك تقاليد فلسفية تاريخية راسخة، فالمنظور الديني الذي من خلاله تبلورت العديد من الأفكار واستعماله من قبل النظم الحاكمة كان يمثل العصب الحساس للممارسة الفكرية· ثانيتها: مقارنة بدول كالمغرب ولبنان ومصر وتونس، تعد الجزائر من الدول التي لم تستطع لحد الآن التأسيس الفعلي لمدرسة فلسفية قائمة بذاتها، على الرغم من محاولات كل من مالك بن نبي وقريبع النبهاني، وبالخصوص محمد أركون· أما ثالثتها: فهي الغياب الحاد للمؤطرين والمتخصصين في الفلسفة وتخصصاتها· كأستاذ متخصص في الفلسفة والعلوم الإنسانية، ما هي فائدة هذه الشعبة للمجتمع الجزائري لو أعطيت لها الأهمية اللازمة؟ تسعى الفلسفة في ماهية وجودها بلوغ الحقيقة التي يمكن أن تجعل الإنسان بمفهوميه الفيزيقي والميتافيزيقي في طريق تحقيق السعادة التي تبقى غايتها، منذ أن تمكن الإنسان الأول من طرح السؤال الفلسفي الأول، وتجسيد مفاهيم الحرية وعملية التحرر من جل القيود التي تجعل الإنسان رهين الفكر الدوغماتي المتمركز حول أحاديات المنظور والمنطلق· كان من الممكن للفلسفة أن تلعب دورا محوريا في إعادة قراءة الأنساق الفلسفية التي ما تزال تختزل الإنسان في مقدمات غيبية ميثولوجية أسست لخطابات مختلفة يتجوهرها المقدس كغاية للوجود الإنساني، إلا أن ذلك لم يتحقق ليس فقط في الجزائر بل في سائر أرجاء العالم، وواقع الإنسان اليوم لأكبر دليل· وكان بمقدور الفلسفة في المجتمع الجزائري -لو لم يتم تهميشها- بناء رؤى فكرية نقدية، وكانت ستساهم في معرفة جوانب القصور الفكري الذي عاشته وما تزال تعيشه الجزائر، ولكانت سبيلا لدحض الأنساق الفكرية النمطية من خلال بناء ''لغوس'' جزائري يقوم على النقد البنّاء والتفتح نحو الآخر الفكري والأيديولوجي، وتجسيد الحوار والجدل كأساس جوهري للممارسة الفكرية، وليس من خلال الفكر الدوغماتي المتمركز حول الذات والمنظور الفكري التكفيري الذي يقوم على العنف والأنساق الفكرية التي ما كانت أن توجد في الجزائر لو لم تهمّش الفلسفة· فقدت الساحة العربية والعالمية عموما والساحة الجزائرية خصوصا رمزا من رموز البحث الجامعي والأكاديمي في مجال الفلسفة، وهو محمد أركون، فما هي نظرتك لهذا المفكر المثير للجدل في الوسط العربي والإسلامي والعالمي؟ كثيرون هم المفكرون العرب الذين ينظرون بعين الريبة إلى فكر محمد أركون والعناصر النظرية التي يقوم عليها من جهة، نظرا للغموض الذي يكتنف الفكر الأركوني نتيجة لنقص الدراسات حولها، على الرغم من توفر ترجمات كتبه، خاصة ترجمات هاشم صالح· ومن جهة أخرى، نظرا لصفة الاختراق التي يتميز بها· لقد فتح محمد أركون مجالا معرفيا جديدا في الفكر الإنساني بصفة عامة والفكر العربي المعاصر بصفة خاصة، وأخرج هذا الأخير من بوتقة اللامفكر فيه، لأنه تيقن بأن الفكر العقلاني - العلماني جزء لا يتجزأ من الحداثة، لقد فتحت أسئلة محمد أركون المجال لظهور حقل معرفي جديد، وهو مجال الإسلاميات التطبيقية، حقل معرفي أصل للتفكير في مسائل الدين والتراث والمقدس··· بمنظور علمي وابستيمولوجي جديد مختلف عما كانت عليه طبيعة الدراسات السابقة، وهو ما يمثل في اعتقادي تقدما فلسفيا هاما في التأصيل الفلسفي في الفكر الإنساني ومساهمة فعالة إن استثمر هذا الفكر في التأسيس الحقيقي للسؤال الفلسفي في البلدان العربية، في ظل الأزمة متعددة الأبعاد والوضع الثوري الحالي الذي تعيشه· كيف تتصور مستقبل البحث الفلسفي في الجزائر؟ حينما نفتح مجال المساءلة حول مستقبل الفلسفة في الجزائر، فإننا نكون قد فتحنا مجال التفكير حول واقع الجامعة الجزائرية بصفة عامة، ووضعية معاهد الفلسفة القليلة الموجودة في الجزائر في ظل السياسة العدمية التي اعتمدتها الدولة في مجال تدريس الفلسفة بصفة خاصة· أعتقد أن مشروع تحرير الفلسفة من كليشيهات التحقير وتقليل الأهمية لم ير بعد النور في الجزائر، ومستقبل الفلسفة يبقى رهين هذه الكليشيهات وحبيس سلبية النخبة الفلسفية التي تفتقد للشجاعة في بناء أنساق فلسفية حقيقية قائمة على الفعل الفلسفي الحر والإختراقي· والمساءلة نفسها ليست في إعادة طرح سؤال: هل يمكن لنا غلق الجامعة؟ الذي سبق أن طرحه أحد المفكرين الجزائريين، بل في طرح السؤال التالي: كيف يمكن لنا التأسيس لجامعة جزائرية حقيقية يجد فيها كل من العلم والفلسفة مكانتهما الفعلية بعيدا عن التوجيه السياسي -الديني والتحنيط البيروقراطي؟