في مثل هذا اليوم من السنة الماضية، كان هناك شاب عشريني في مدينة هامشية اسمها سيدي بوزيدبتونس صاحب عربة للخضر والفواكه تعرض لإهانة عندما صفعته شرطية على خده· إنه محمد البوعزيزي الذي أسس من حيث لا يعلم للظاهرة التي غيّرت وجه العالم· كان يمكن أن يمر الأمر بسلام، لكن ذلك الشاب لم يجد ما يرد به إلا إضرام النار في جسده، وكان يمكن أن يمر حادث الحرق مرور الكرام لولا أن النفوس كانت مشحونة بحدث تحول إلى انتفاضة ثم إلى ثورة امتدت إلى بقة الأحياء الأخرى من تونس ''المنسية'' بالغرب والجنوب، ثم امتدت تلك النار إلى مناطق تونس الأخرى ووصلت أخيرا إلى العاصمة، وقبل أن تصل إلى منتهاها كان نظام الجنرال بن علي يحاول إطفاءها بشتى الوسائل والرئيس ''شخصيا'' يتكفل بعلاج الضحية الذي يزوره في المستشفى، لكنه لم يتمكن من الحديث معه فقد كانت الحروق بليغة ولفظ أنفاسه الأخيرة يوم الرابع من شهر جانفي، وخرجت الأوضاع عن السيطرة الكلية ووصلت النار إلى قصر قرطاج ويضطر الجنرال الذي حكم البلاد بالقبضة البوليسية وكتم على أنفاس التوانسة ثلاثة وعشرين سنة للهرب، بعد أن فشل سلاح القناصة في إيقاف زحف الثورة· لقد تحققت المعجزة وسقط نظام بن علي البوليسي القمعي بداية من يوم 14 جانفي 2011, وتحول الشاب المضطهد الذي تسبب في إشعال الثورة إلى رمز لها وأيقونتها، ومن سخرية الأقدار أن يتحول اسم الشاب المضطهد إلى ماركة ثورية مسجلة ويطلق على أكبر شوارع العاصمة التونسية مكان تاريخ السابع من نوفمبر الذي سقط مع صاحبه وأصبح محمد البوعزيزي الشاب البوزيدي المغبون جنبا إلى جنب مع الحبيب بورقيبة مؤسس تونس الحديثة الذي ما زال يحتفظ باسمه في أكبر شوارع العاصمة التونسية ويلتقي الشارعان عند ذلك المفترق الشهير· ولم تتوقف تلك النار التي اشتعلت في جسد الفتى المهمش المغبون عند قصر قرطاج بل امتدت إلى مصر، حيث قضت على عرش مبارك في أقل من عشرين يوما، وفي اليمن، حيث أدت أخيرا إلى إجبار علي عبد الله صالح على الانسحاب من الحكم بعد أكثر من ثلاثين سنة وقضى على مشروع التوريث، وإلى سوريا حيث يواجه نظام البعث الذي سيطر على أنفاس الناس قرابة الخمسين سنة ثورة شعبية يقمعها بكل الوسائل الأخلاقية واللاأخلاقية، بل وتحول العالم العربي من خلال الظاهرة البوعزيزية إلى نموذج قابل للتصدير، وقد تحول شعار ''ارحل'' و''الشعب يريد إسقاط النظام'' الذي بدأ من تونس إلى موضة اجتاحت العالم ووصلت إلى إسرائيل عندما اندلعت مظاهرات فيها تحمل شعارات ''ارحل'' وباللغة العربية إلى جانب العبرية· وحتى البلدان التي لم تندلع فيها أحداث عنف واحتجاجات مباشرة فقد مستها رياح التغيير مثلما حدث في المغرب مع إقرار الدستور الجديد الذي بموجبه صعد الإسلاميون إلى الحكم· لكن البوعزيزي الرمز، سرعان ما بدأ يتآكل في بلده في ظل شيوع ثقافة قتل الرموز، والشاب الذي لفظ أنفاسه ولا يعلم ماذا حدث بعده، ورثت عنه عائلته الصغيرة الممثلة في والدته وأخواته إرثا ثقيلا، فقد طاردتهم الإشاعة طويلا واتهموا باستغلال الاسم الذي ''صنعه أهل سيدي بوزيد لولدهم'' كما قيل من أجل أغراض شخصية ووصل الاتهام إلى حد تلقي أموال من الحكومة ومن الخارج وأنهم أصبحوا يقيمون في برج عاجي في العاصمة، لكن العائلة تنفي ذلك جملة وتفصيلا وتؤكد أنها تقيم في بيت متواضع مستأجر ولم تتلق إلا المبلغ البسيط الذي صرف على كل شهداء الثورة·لقد مرت سنة إذن على حالة الحرق، ومازال لهيب الثورة مستمرا في المنطقة العربية وفي العالم·