تقرأون اليوم آخر جزء من الدراسة الفكرية التي أعدها الدكتور ابراهيم سعدي حول مراحل تطور الفكر الجزائري وتفاصيله تحت عنوان ''الفكر الجزائري المسار والمآل''، التي قدمها لكم ''الأثر'' عبر حلقات·· ونغتنم الفرصة لتقديم شكرنا للدكتور سعدي على هذا الجهد الفكري القيم على أمل أن نقرأه مجددا على صفحاتنا· على نفس النهج الذي سار عليه رضا مالك في كتابه ''Tradition et Révolution''، مضى الهاشمي شريف، في كتابه x''''Modernite, jeu et enjeu الذي صدر في نفس السياق التاريخي الذي أعقب أحداث أكتوبر 1988 التي تمخضت عن بروز قوي لتيار الإسلام السياسي، فرجع بدوره إلى عقلانية الفلاسفة المسلمين والمعتزلة لينتهي هو كذلك إلى الدعوة إلى حداثة تقوم في جانبها السياسي على الفصل بين الدين والدولة، وبالتالي إلى نبذ أي تعبير سياسي عن الإسلام في إطار مرحلة ما بعد سقوط الإشتراكية التي كان من المتوقع أن تحل محلها الديمقراطية· نفس الدعوة ونفس الاتجاه نجدهما في مؤلف مشترك يحمل عنوان ''السياسة والدين'' يضم مداخلات نخبة من المثقفين الجامعيين اليساريين ألقيت في إطار ملتقى انعقد في شهر ماي .1993 وهكذا كان التراث، أو الدين، في كلتا المرحلتين، ''الإشتراكية'' و''الديمقراطية''، الإشكال المطروح في كل مرة، وإن لم يكن الوحيد بالطبع· كانت إذن مسألة العلاقة بين الدين والدولة التي لا يمكن القول مع ذلك أنها كانت مجرد جدل بين العلمانيين والإسلاميين، هي المسألة المحورية في الفكر السياسي والإيديولوجي الذي تمخضت عنه مظاهرات أكتوبر .1988 وكانت هذه الإشكالية هي النقطة المركزية التي تمحور حولها خطاب الحداثة في الجزائر، حتى أن العلمانية المنحصرة من حيث مدلولها السياسي في الفصل بين الدين والدولة طغى على خطاب الحداثة بمعناها الواسع والمتشعب والثري، فتغلب هذا الجزء على الكل· ربما ذلك كان بسبب ضغط اللحظة التاريخية والسياسية التي أفرزت هذه الرؤية الضيقة للحداثة وأيضا بسبب طبيعة تكوين الكتاب الذين تناولوها، فقد كان رضا مالك والهاشمي شريف وغيرهما، مثل سعيد سعدي، من رجال السياسة أو جامعيين يساريين مناضلين· كانت حداثة استعجالية، إن جاز التعبير· وربما سياسوية أيضا· لذلك نجد أن بختي بن عودة الذي لم يكن من ناحيته من رجال السياسة، وإنما فيلسوفا، يتناول الحداثة من ناحيته من منظور أوسع، لا يهيمن عليه ضغط الراهن السياسي ولا طابعه الاستعجالي، مثلما لا تطغى عليه المسألة السياسية المتمحورة حول العلاقة بين الدين والدولة، التي فرضتها التطورات السياسية التي كانت جارية على أرض الواقع· فالحداثة عند بختي ليست مجرد موقف من الدين في علاقته بالدولة، بل تصورا عاما للمجتمع والفرد والفكر والفن· صحيح أنه حتى عند رضا مالك أو الهاشمي شريف لا تختزل الحداثة إلى مجرد موقف من التراث ومن ممثليه ومستخدميه وعلاقته بالسياسة والدولة، إلا أن هذه الإشكالية تمثل المحور الأساس في خطاب الحداثيين الجزائريين ذوي الخلفية السياسية· ولعل هذا التصور من بختي بن عودة للحداثة مرتبط بإعطائه الأولوية للثقافي على السياسي في صنع الحضارة، مستشهدا بقول عبد الوهاب المؤدب الذي يقول: ''إن الإصلاحات التي تغير المجتمعات لا تصدر عن الحركات السياسية حتى لو كانت متحالفة مع الرعب (···) فالعمل الذهني المثابر والصبور والمتمهل هو الذي يجدد المجتمعات· وتراكم الإبداعات والعلامات هو الذي يحافظ على الشعوب ويجدد قواها''· ومن اللافت للنظر أننا لا نجد في كتاب ''رنين الحداثة'' لبختي بن عودة، ذكرا لابن رشد أو للمعتزلة وغيرهم ممن يشكلون حلقة بارزة في المسار نحو الحداثة، حسب كتاب ''من التراث إلى الثورة'' لرضا مالك، وعند أركون أيضا وإن كانت القائمة عند هذا الأخير أطول وأكثر تنوعا وتعقيدا أيضا· فحداثة بختي تحيل إلى هيغل وكانط وفوكو ودريدا··· وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين الغربيين· حداثة تحيل إلى الغرب، تقوم على قراءة أفقية، وليست عمودية، أعني أنها لا تستند إلى قراءة تاريخية، كما عند مالك أو أركون اللذين يقيمان الصلة بين الحداثة التي يدعوان إليها وبين تجليات الفكر العقلاني في التاريخ العربي الإسلامي· فالغرب هو مصدر الحداثة بالنسبة إلى بختي وليس هناك مصدرا ولا نموذج آخر لمن يسعى وراءها، فالغرب ''موجود في مسامات الجلد وطيات اللاوعي، يمينا وشمالا، بالرضى وبغيره، في اللمس كما في الحس، الغرب إذن شمولي وليس بجزئي·'' هذه الحداثة هي التي ينتقدها رابح لونيسي في كتابه ''البديل الحضاري''· في هذا المؤلف، يحاول هذا الأستاذ الجامعي المختص في تاريخ الفكر، أن يبلور منظورا إيديولوجيا لا يصب في الإتجاه السائد اليوم القائل بأن الرأسمالية، بعد سقوط الأنظمة الاشتراكية، هي قدر البشرية جمعاء، أو نهاية التاريخ، على حد قول فوكوياما· فبالنسبة لهذا الكتاب يوجد حل آخر يتمثل في الإسلام الذي بإمكانه ''إنقاذ الإنسانية من هذا الغول الرأسمالي المدمر''· فرغم أن المؤلف، الذي يبدو متأثرا بفكر مالك بن نبي، لا ينكر وجود عوامل داخلية للتخلف في العالم الإسلامي متمثلة في ''الدكتاتوريات والفساد الأخلاقي ونمط استهلاك مريع وعدم فعالية المسلم المعاصر ونهب الطبقات الحاكمة للفائض الإقتصادي···'' إلا أنه يرى بأن المشاكل التي يواجهها العالم، اليوم، ناتجة عن النظام الرأسمالي العالمي المستغل ''لثروات وقدرات وإمكانيات ثلاثة أرباع سكان العالم''· ولهذا جاء الكتاب نقدا للنظام الرأسمالي، ذلك النقد الذي اضطلعت به الإيديولوجية الاشتراكية قبل انهيار الأنظمة التي قامت عليها، فتعهد من بعده الخطاب الإسلامي، على غرار ''البديل الحضاري'' بهذه المهمة· ولكي يتحقق المشروع الإسلامي كبديل عالمي للرأسمالية يقترح لونيسي تجاوز ثنائية الحداثة والتراث للدخول في ما يسميه ''مرحلة الإبداع الفكري'' لكن دون الانفصال عن القيم ''الإسلامية ما دام القرآن الكريم هو الشعلة التي تنير (···) الطريق··'' كتاب ''البديل الحضاري'' ينتمي إذن إلى الفكر الجزائري الذي يتخذ العالم العربي والإسلامي موضوعا له، على غرار مالك بن نبي ومحمد أركون· وهو من المؤلفات الجزائرية النادرة التي يمكن إدراجها ضمن الفكر الإسلامي الذي ظهر في سياق التحولات التي حدثت في العالم وفي الجزائر بعد مظاهرات أكتوبر .1988 فالتيار الإسلامي لم يبلور في الحقيقة نشاطا فكريا يمكن مقارنته بحجمه السياسي· لقد برز التيار الإسلامي كحركة سياسية أكثر منه كحركة فكرية لها خصوصيتها واجتهاداتها ورؤاها وقراءاتها للعصر، كما في تونس أو مصر أو تركيا· وهذا الرأي يمكن تعميمه في الحقيقة على مجمل تاريخ هذه الحركة في الجزائر· لقد كان هذا التيار ذا طابع أمبريقي -إن جاز التعبير- يرى في القرآن مصدرا يغنيه عن أي اجتهاد أو تنظير أو إضافة· ولعل غياب التنظير والاجتهاد يمثل السبب الذي حدا به في النهاية إلى الفشل السياسي وإلى السقوط في دوامة العنف الذي عاشته الجزائر في التسعينيات من القرن الماضي· لقد أنتج المد الإسلامي في الجزائر سياسيين، لكنه لم ينتج لا مفكرين ولا منظرين· لم يظهر في أحضانه أي مفكر من طراز مالك بن نبي· وهكذا لم يأخذ بعين الاعتبار في ممارسته السياسية سياق العصر الذي يعيش فيه ولا حاول فهمه أو الاستفادة منه وإنما اكتفى فقط بإدانته ورفضه· والنتيجة أن التيار الإسلامي في الجزائر صار اليوم أبعد أي تيار إسلامي في العالم العربي عن الوصول إلى الحكم· فبينما أصبح هذا التيار، في ظل الربيع العربي، يمثل في البلدان العربية الأخرى البديل السياسي للاستبداد، لم يعد يوجد الآن في الجزائر بديل للنظام الحاكم· ولعل الفقر الفكري والنظري كان السمة المميزة للفعل السياسي تاريخيا في الجزائر ككل·· فالثورة الجزائرية، وإن كانت عظيمة في تضحياتها، إلا أنها لم تفرز فكرا في مستوى عظمتها· ومما له دلالة بهذا الصدد أن أبرز مفكر اشتغل في الثورة الجزائرية هو فرانز فانون، أعني شخصا ليس جزائريا بالمعنى الدقيق للكلمة· فهل الأمر يحيل إلى طبيعة الثورة الجزائرية أم إلى طبيعة المثقفين الجزائريين؟ والملاحظ أن القطيعة أصبحت، اليوم، تامة بين المسؤولين في الحكم والإنتاج الفكري· فإذا كان العديد من الوزراء في السبعينيات مثقفين يمارسون الكتابة، فإن هذه الظاهرة قد اختفت اليوم، إذ لم نعد نجد مسؤولا في الدولة يمارس التأليف في ميدان من الميادين، هل يعكس ذلك ما أصبحت تتميز به المرحلة من ضبابية في الأفق وغياب الهدف والقناعات وروح الخلاص الجماعي؟ أم أن الأمر له صلة بالتصور السائد لنوعية المسؤول الجزائري الجديد؟ يجدر الإشارة بهذا الصدد إلى كون التحولات التي جاءت بها أحداث أكتوبر 1988 لم تقتصر على دفع فكرة الحداثة إلى السطح كرد فعل لتحول المقدس إلى أساس تقوم عليه مطالب سياسية رافقت صعود وبروز الإسلام الراديكالي، بل إن حرية التعبير التي كانت إحدى نتائج هذه التحولات قد سمحت أيضا بكسر المحظور السياسي المتمثل في منع نقد وتشريح النظام ومؤسساته، وهو الجانب الذي سكت عنه مفكرو ومثقفو العهد السابق (مصطفى لشرف، مولود قاسم، عبد المجيد مزيان··) فظهرت هكذا عدة مؤلفات تضطلع بهذه المهمة، يبرز معظمها الطابع العسكري للنظام السياسي ودوره في الدراما التي عصفت بالمجتمع الجزائري· ونكتفي بهذا الصدد بالإشارة إلى كتاب محفوظ بنون المعنون en Algérie Education, Culture et Dévelpoopement الذي يركز على أهمية القيادة في نهضة أي مجتمع، فيقول بهذا الشأن: ''إن سلوك وأعمال القائد هي نموذج يؤثر على سلوكات وأعمال ناخبيه، ومناصريه والواقعين تحت مسؤوليته· وإلى جانب آخر فإن ذهنية القائد تعبير عن السلوك الأخلاقي للقيادة· فالمعايير التي يلتزم بها تصبح معايير يتقيد بها الجميع· الأشخاص الذين يؤثرهم على غيرهم يصبحون رافعي لوائه· ففي جميع الحالات، يكون القائد موضع اهتمام وتقليد''· ويرى بنون في إطار هذا المنظور الفلسفي السياسي للقيادة أنه: ''سواء أحببنا أم كرهنا، فإن القائد يعطي المثل· فإذا كان القائد يثمن الكفاءة في عمله، فإن شعبه، ومعاونيه والواقعين تحت مسؤوليته سيثمنون الكفاءة متبنين نظرة وأفعال القائد· فأفعال القائد هي كالريح بينما أفعال الواقعين تحت مسؤوليته هم كالعشب· والعشب يميل دائما في نفس اتجاه الريح·'' والحال أن قيادة تتوافر فيها هذه الشروط هو بالضبط ما كان مفقودا في الجزائر، قائلا بهذا الشأن: ''المأساة التي يعيشها الشعب اليوم راجعة في قسم منها إلى انعدام كفاءة قادته ورداءتهم على مختلف المستويات·'' هذه الرداءة يعاد إنتاجها، حسب بنون، في المؤسسة الجامعية، مؤكدا بأن ''ما يهمها (الجامعة) قبل أي شيء هو تكوين نوع من المواطن يتميز بالرداءة والتماثلية والطاعة وحتى بالخنوع، بدل مواطن يتحلى بالدقة، والعقلانية وروح الخلق''· خلاصة القول، أنه إذا كان الفكر الجزائري، في بعد من أبعاده الأساسية، حاول بعد الاستقلال أن يجيب على السؤالين التاليين: لماذا وقعت الجزائر تحت الاستعمار؟ وكيف يمكن الخروج من التخلف؟ فإن الفكر السياسي الجديد الذي ظهر بعد انتفاضة أكتوبر 1988 حاول أن يجيب عما يلي: لماذا لم تخرج الجزائر من التخلف ومن الاستبداد؟ وما الحل الآن؟ لقد كان هذا الفكر إذن كسابقه فكرا نقديا، عمليا، يسعى إلى التأثير على الواقع· ولئن ظل دائما صورة عن هذا الواقع الجزائري في مختلف مراحله وتقلباته وانكساراته وخيباته ووعوده وأماله أيضا، إلا أن هذا الواقع من ناحيته لم يكن في يوم من الأيام تجسيدا وتعبيرا عن هذا الفكر· فالواقع الجزائري ظلت تحكمه قوى أخرى، لا علاقة لها من ناحيتها بالعقل، تحتكم إلى منطق آخر، هو منطق القوة·