الجزائر تحتضن الدورة ال12 للندوة رفيعة المستوى    الجيش يواصل محاربة الإرهاب والإجرام    الجزائر تُعيد جرائم الاستعمار إلى الواجهة    الجزائر دخلت مرحلة إرساء أسس اقتصاد قوي ومتنوّع    بداري يشرف على تدشين المؤسسة الفرعية    توقيع اتّفاقات ومذكّرات تفاهم وبرامج تعاون    الاحتلال الصهيوني يبيد نساء فلسطين    تنصيب لجنة البحث العلمي والتطوير التكنولوجي    رسمياً.. الجزائر في المستوى الثالث    حملة شتاء دافىء تنطلق    250 مصنعاً للأدوية في الجزائر    بسبب مازا..هجوم إنجليزي حاد على ريان آيت نوري    برنامج مكثف ومباريات قوية تنتظر مولودية الجزائر    مولودية وهران تعلن عن تعيين مدرب مساعد جديد    تونس : سعيّد يدعو سفير الاتحاد الأوروبي إلى الالتزام بضوابط الدبلوماسية    ضمن قائمة التراث الإنساني لدى اليونيسكو : اجتماع تنسيقي لإعداد ملف عربي مشترك لتصنيف الألعاب التقليدية    ملتقى الصناعات الإبداعية وحقوق المؤلف : تسليط الضوء على ميكانيزمات النهوض بالصناعات الإبداعية في الجزائر    إحياء للذكرى ال193 للمبايعة الأولى : الدولة والأخلاق عند الأمير عبد القادر موضوع ملتقى وطني    ما أهمية تربية الأطفال على القرآن؟    فضائل قول سبحان الله والحمد لله    فتاوى    عملية عسكرية واسعة في طوباس..الاحتلال زاد تعذيب الأسرى الفلسطينيين خلال حرب غزة    الدوبارة .. أكلة شعبية تحافظ على بريقها    سوق الملابس بين تقلبات المناخ وقلّة الإقبال    فواكه الخريف والشتاء حلٌّ طبيعي لتقوية المناعة    الجزائر ملتزمة بالدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني    تناولنا الفرص الاستثمارية الواعدة التي تتيحها الجزائر    يوم الأحد المقبل عبر كامل التراب الوطني    زروقي يعقد اجتماعا مع المؤسسة المطورة للعبة PUBG MOBILE    جامعة التكوين المتواصل تخضع حاليا لأحكام انتقالية    جامعاتنا شعارها..العلم للجميع..؟!    البرهان يناشد ترامب التدخل لإنهاء الحرب في السودان    الجزائر ستطالب "ايكات" بتعويضات عن خسائرها في 2028    امتلاء السدود يقارب 32%.. وارتفاع قدرات التخزين ل9 مليار م3    هكذا يتم تقريب الإدارة من المواطن وتحسين الخدمة بالولايات الجديدة    الجزائر باقية على العهد داعمة للأشقاء في فلسطين المحتلّة    دعوة إلى تمكين الشعب الصحراوي من حقّه في تقرير المصير    الشراكة الثنائية إطار واعد للمزيد من التكامل    الجزائر تدعو لمقاربة متكاملة تقضي على أسباب آفة    المؤتمر الإفريقي للأدوية فرصة لولوج الأسواق القارية    مفاجأة كبيرة في ملف عودة قندوسي إلى مصر    الفوز أو مواصلة الانكسار    شجرة الزيتون.. رمز فخر على مر الأجيال    صرامة كبيرة وعقوبات قاسية ضد مخالفي قانون المرور    دعوة للتحقيق في وضعية مستشفى عين طاية    مشاريع حيوية يُنتظر تسليمها قريبا بدلس    عوار يتحدث عن تجربته في السعودية وعلاقته مع بن زيمة    الشروع في إعداد قوائم المستفيدين من منحة رمضان    إفريقيا تواجه تحدّيات غير مسبوقة    وزارة التربية تعتمد رقما أخضر    افتتاح المهرجان الوطني للمسرح الأمازيغي    الفنانة القديرة باية بوزار"بيونة"في ذمة الله    النادي الرياضي" أنوار باتنة"يحصل على 4 ميداليات    بوعمامة حاضر في منتدى داكار    بوعمامة يشارك في المنتدى الإفريقي للبث الإذاعي والتلفزي    انطلاق الحملة الوطنية للتلقيح ضد شلل الأطفال ابتداء من الأحد المقبل    هذه أضعف صور الإيمان..    يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفكر الجزائري في مرحلة ما بعد الأحادية: المسألة الإيديولوجية والسياسية (1)
نشر في الجزائر نيوز يوم 16 - 01 - 2012

في إطار الأفق الديمقراطي الذي كان قد أصبح موضوع الساعة في تلك المرحلة، كانت إشكالية العلاقة بين الدين والدولة المسألة المركزية في مجال الفكر السياسي الذي أفرزته انتفاضة أكتوبر 1988· وكان المثقفون المنتسبون إلى ما يعرف بالتيار الحدائي واللائكي أهم من ساهموا في هذه المسألة تأليفا وكتابة·
في الثمانينيات من القرن الماضي الذي شهد سقوط الأنظمة الإشتراكية، وعلى رأسها الإتحاد السوفياتي وأحداث أكتوبر 1988 في الجزائر، حدث التخلي عما يمكن تسميته بالأحادية الفكرية من خلال الاعتراف بحرية التعبير وحرية إنشاء الأحزاب والصحف. ولأن هذه الأحادية الفكرية كانت سارية سابقا بالأساس في المجال السياسي والإيديولوجي، كما سبق أن ذكرنا، فقد انعكست هذه الحرية التي جاءت بها انتفاضة أكتوبر 1988 بالدرجة الأولى في هذين المجالين. وهكذا ظهر إلى العلن اتجاهان كبيران، كان غير مسموح لهما بالتعبير من قبل. رفع أولهما شعار ''الحداثة'' و''الديمقراطية'' و''اللائكية'' وثانيهما شعار ''الإسلام''. وكانت الصحف المنبر المفضّل لهذا الحراك الفكري السياسي الجديد. وجل ما كان ينشر فيها بهذا الصدد كان يحمل الطابع الدعائي والنضالي والصدامي، يعني ينقصه مطلب الموضوعية والحياد العلميين لكي يكون فكرا سياسيا بالمعنى الجاد للكلمة. فقد كانت هذه الخطابات نتاج أفراد غير محايدين لا سياسيا ولا إيديولوجيا ولا حتى لغويا. لقد خلت الساحة الفكرية الجزائرية في هذا المجال من مراقبين ودارسين محايدين ولا يزال الأمر كذلك ربما إلى اليوم.
ويمكن أن نصف هذا الفكر السياسي الذي أفرزته انتفاضة أكتوبر 1988 بالنضالي والحزبي. وكان الصحفيون الفرنكفونيون من أبرز منتجيه فيما يخص التوجه السياسي اللائكي. وكما هو معروف فإن هذا الجدل الإيديولوجي والسياسي بين اللائكيين والإسلامويين الذي كان منحصرا في البداية في أعمدة الصحف بالخصوص، قد تحوّل فيما بعد إلى صراع دموي ذهب ضحيته العديد من الصحفيين والمثقفين والمفكرين. وبصورة عامة كانت الحدود اللغوية أيضا حدودا إيديولوجية، إذ كانت الصحف المعربة أقل تقبلا للنزاعات اللائكية. وهكذا يمكن الحديث عموما عن جبهة لائكية فرنكفونية وأخرى معربة تقبل بمبدأ الإسلام كدين للدولة ولا تعارض إشراك أحزاب ذات إيديولوجية إسلاموية في الحياة السياسية، مما يعني أن الخلافات الإيديولوجية السياسية كانت ذات خلفية حضارية مرتبطة بهذه الدرجة أو تلك بمسألة الهوية الوطنية أيضا، ومن ثم بتعريف الذات والآخر. وكانت هذه المسألة مطروحة في الحقيقة، كما سبق أن ذكرنا، منذ أيام عبد الحميد بن باديس الذي عرف الهوية الوطنية على أساس لغوي وديني (العروبة والإسلام) وظلت المسألة محل جدال سواء في مرحلة الاستعمار أو بعد الاستعمار لدى النخب الثقافية الأمازيغية والفرنكفونية واليسارية عموما، وأيضا لدى فئة معينة من المعربين لا سيما المتشبعة منها بالنزعة اليسارية. وقد أدى هذا الجدال الطويل الذي كان في بعض مراحله دمويا إلى الاعتراف رسميا بالبعد الأمازيغي للهوية الجزائرية في دستور .1989
لكن رغم أن المسألة السياسية، بعد أحداث أكتوبر ,1988 قد أصبحت الشغل الشاغل وظهر موضوع الحكم والإستبداد كإشكالية مركزية إلى جانب مسألة العلاقة بين الدين والدولة، إلا أن الطرح الصحفي طغى في هذا المجال كما سبق القول، ولم تصدر مؤلفات كثيرة حول الموضوع رغم ظهور دور نشر خاصة غير تابعة للقطاع العام، على خلاف ما كان الأمر في الستينيات والسبعينيات.
وفي إطار الأفق الديمقراطي الذي كان قد أصبح موضوع الساعة في تلك المرحلة، كانت إشكالية العلاقة بين الدين والدولة المسألة المركزية في مجال الفكر السياسي الذي أفرزته انتفاضة أكتوبر .1988 وكان المثقفون المنتسبون إلى ما يعرف بالتيار الحدائي واللائكي أهم من ساهموا في هذه المسألة تأليفا وكتابة. وكان هؤلاء يتكوّنون من الحركة الأمازيغية ذات التوجه الفرنكفوني أو من اليساريين السابقين الذين كان خطابهم منصبا على نقد الفيودالية والبرجوازية في حقبة ما يسميه البعض بمرحلة رأسمالية الدولة وآخرون بالإشتراكية، حتى إذا ما فشلت التجربة، عالميا ومحليا، فتخلت الدولة المحلية عن ملكية وسائل الإنتاج وأصبحت الديمقراطية موضوع الساعة، تحوّل اهتمام هؤلاء المثقفين نحو نقد الإيديولوجية الدينية التي كان دعاتها على قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى الحكم والتي كان قادتها ونخبها المثقفة يركزون على الخطاب الجماهيري والعاطفي أكثر منه على الكتابة.
ويعد كتاب ''Tradition et révolution'' لرضا مالك، الصادر عام ,1991 من أهم ما كتب في مجال الفكر المعبر عن الاتجاه الحداثي واللائكي الذي ظهر في هذه المرحلة. وكان الدافع إلى تأليفه السعي، في المرحلة الجديدة، مرحلة ''الديمقراطية''، إلى تفادي الوقوع في الأخطاء نفسها التي أدت إلى الإخفاق في المرحلة الماضية، فكتب مالك يقول: ''إذا كانت الإشتراكية قد فشلت، من يضمن لنا بأن الديمقراطية سوف تنجح؟'' من هنا محاولته تبيان العوامل التي أدت إلى فشل التجربة الماضية مرجعا ذلك إلى عدم قيامها على إيديولوجية الحداثة، ذلك أنه سواء تعلق الأمر بالإشتراكية أو بالديمقراطية ففي ''كلتا الحالتين، على أية حال، للحداثة كلمة تقولها''. فنحن أمام مفهومين ''نابعين من نفس الإشعاعات النظرية، وكلاهما يتطلب تصورا معينا للحداثة.'' وفي هذا الإطار، يأخذ مالك على تجربة التحديث التي تمت في مرحلة ما بعد الاستقلال طابعها الأمبريقي، أي افتقارها إلى مرجعية نظرية واضحة. وهي مرجعية لا يمكن أن تكون من وجهة نظره غير الحداثة. وهي ذات النتيجة التي كان قد توصل إليها قبله محمد أركون الذي تحدث عن القطيعة القائمة بين التحديث والحداثة في التجارب التنموية العربية. يقول رضا مالك بهذا الصدد: ''كنا نعتقد بأن التنمية الاقتصادية ستخلق بصورة ميكانيكية عقلية اقتصادية. وبأن الملكية الاجتاعية لوسائل الإنتاج socialisation des moyens de production ستفرز آليا عقلية إشتراكية''· وحسب رضا مالك، فإن عدم طرح مسألة الحداثة كإطار إيديولوجي مرجعي كان هدفه ''تفادي المواجهة مع التراث (...) الشيء الذي أفضى إلى إسلام يخدم أغراضا ذات صبغة تكتيتكية. الجماهير لا تفهم غير الإسلام: لنستعمل إذن لغتها!'' وهذا يعني أنه إذا ما أردنا للديمقراطية التي جاءت من وجهة نظره لتخلف الإشتراكية، ألا تؤول إلى المصير نفسه، فيتعين علينا عدم الفصل بينها وبين الحداثة، الشيء الذي يقتضي ''إعادة النظر في التراث''. فدون حسم العلاقة مع التراث سيكون مصير الديمقراطية هو الفشل مثلما فشلت التجارب السابقة التي حاولت القفز على الإشكالية. فليس هناك مجال للتوفيق ههنا بين المجالين بالنسبة لرضا مالك الذي يتحدث عن ''التناقض القائم بين الحداثة والتراث''، مما يكشف عن تناقضه مع مالك بن نبي الذي يرى استحالة تحديث المجتمعات الإسلامية دون الإنطلاق من الفكرة الدينية المتصلة بروح الشعب.
هكذا يسعى رضا مالك إلى التأسيس للحداثة بوصفها مدخلا لا محيد عنه للديمقراطية التي كان يعتقد أن الجزائر مقبلة على الدخول إليها بعد انتفاضة أكتوبر 1988 والمهددة في آن واحد، من وجهة نظره، هو وغيره من الحداثيين واللائكيين، بصعود التيار الإسلامي الجارف. فما هي أسس هذه الحداثة التي لا يمكن القول بالطبع إنها من إبداع مؤلف révolution tradition et؟ إنها تقوم على المبادئ نفسها التي انبنت عليها في الغرب، أولها سلطة العقل، وهي تعني عنده ''الفكر المستقل'' كما عند أركون أو النور الطبيعي كما عند فلاسفة القرن الثامن عشر. واستقلالية العقل تعني أن العقل لا مرجعية له إلا نفسه ولا سلطة أخرى تفرض نفسها عليه إلا سلطته، مما يستتبع فك ارتباطه بالمقدس وتحرره منه وبالتالي من سلطة التراث والدين. على أن هذا العقل المستقل لا ينبع، عند رضا مالك، من موقف العداء للتراث أو رغبة في محاكاة الغرب، إذ هو ليس غير نتاج طبيعي لتطور المسار الفكري والعقلي الإسلامي عبر التاريخ الذي يتجه ويسير بالعقل نحو التحرر من اللاهوت، وبالتالي إلى تشكله كسلطة مستقلة لا تحتكم سوى لنفسها. وهنا أيضا يلتقي رضا مالك مع أركون الذي يرى بأنه ليس للإسلام المعاصر أن يستورد الحداثة، بل فقط أن يربط ''الصلة بماضيه المبدع وبتراثه الفكري الخلاق الذي ازدهر في الفترة الواقعة بين القرنين الثالث والرابع للهجرة.''
واستقلالية العقل عن المقدس، عند مالك، تعني أن الحداثة تتضمن معنى العلمانية، مثلما تعني أيضا فصل الدين عن الدولة، كما تجسد ذلك تاريخيا -من وجهة نظره- في إلغاء الخلافة العثمانية سنة .1924 كما أن الحداثة تقتضي عنده كذلك العالمية :UNIVERSALISME ''فبالخروج من أسر الخصوصية يمكن كسر إقليمية الفكر حيث العقل يغط في غياهب لا نهاية لها وحيث يمنع عنه أي اطلاع مستنير على نفسه وعلى العالم.'' فالحداثة، سواء عند أركون أو عند رضا مالك الذي يبدو شديد القرب في تفكيره من مؤلف ''الفكر الإسلامي'' ليست خاصية تحدد هوية شعب أو شعوب بعينها، بل إن الحداثة ظاهرة إنسانية. ولا تختلف بصورة جذرية محاولة رضا مالك توطين الحداثة في الجزائر بالسعي إلى إظهارها كإفراز طبيعي وداخلي للمسار الحضاري للإسلام، عن محاولات التوطين السابقة التي ظهرت في إطار السعي إلى تأصيل التحديث ذي الطابع الإشتراكي من خلال قراءة التراث بمنظار اشتراكي. وبالرغم من أن هذا الإجراء الفكري مختلف ومتقدم عن محاولات غيره من الحداثيين الذين يكتفون باستيراد الحداثة من الغرب، كما نستورد البضائع والمصانع الجاهزة، فإن مقومات الحداثة عند رضا هي نفسها التي نجدها عند الغرب في نهاية المطاف. وهذا يعني أن قراءته للتراث تقوم ضمنيا على الإعتقاد بأن تاريخ المجتمعات الإسلامية سيكرر بالضرورة تجربة المجتمعات الغربية وبأن نمط الحداثة الغربية هو النمط الذي ستتخذه الحداثة في الجزائر، وإلا فلا.
للموضوع هوامش


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.