''هذا الرجل لم يمت·· إنه في قلوبنا·· معنا في كل لحظة وفي كل مكان·· لا نمل من التعلق به·· لن يأتي علينا يوم ونحن بعيدين عنه·· إنه كالأكسجين الذي يبعث الحياة فينا·· في هويتنا·· في لغتنا الأمازيغية··''، هكذا وأكثر تحدثوا عنه، بحب وصفاء، بشوق لا ينتهي·· وبحنين لا يطفئ جذوته إلا صوته المرافق لهم دائما·· إنه الفنان الراحل معطوب الوناس، وهم عشاقه في منطقة القبائل· لا أدري لماذا تنتابني حالات ارتباك قوية·· قلق وحزن كبيرين، في كل مرة أكتب فيها عن الفنان القبائلي الراحل معطوب الوناس، أحيانا أرجع الأمر إلى هاجسه الفني والنضالي الذي ظل يسكنني، وأحيانا أخرى أفسر الأمر بأبسط ما يكون، حبي وتقديري الكبيرين لهذا الرجل، أو ربما السبب هو الاغتيال الغادر الذي حرم عشاقه ومحبيه ومنطقة القبائل منه في وقت مبكر وغير منتظر·· هو الذي كان دائما ألمع شخصية فنية تدافع عن الهوية الأمازيغية بشجاعة وتحدٍ، لذا فتفسيري لذلك الارتباك يكون أسهل عندما أجده إحساسا جماعيا، لا يسكنني لوحدي بل يسكن الملايين من الأمازيغيين·· أولئك الذين يحجون إلى بيته ويقفون على ضريحه بقريته ثوريرث موسى ببني دوالة ويمرون بمرارة على مكان اغتياله بثالة بونان، في عيد مولده ويتقاسمون معه شموع الحياة وكأنه معهم، بينهم، قريب إليهم· معطوب الوناس تلك الهوية القبائلية يصادف اليوم 24 جانفي الذكرى ال 56 لعيد ميلاد الفنان معطوب الوناس الذي ولد في 24 جانفي سنة 1956 بثوريرث موسى، ومع اقتراب هذه المناسبة بدأ عشاقه يحضرون للاحتفال بعيد ميلاده وكل واحد بطريقته الخاصة، التي تبدعها النوستالجيا التي تربطه بهذا الفنان الذي يسكن كل الأجيال· الزائر لولاية تيزي وزو، بمناطقها الحضرية أو الريفية، لابد أن يلمس مباشرة التعلق الكبير للسكان بهذا الفنان، فصوت أغانيه يصدح من كل مكان، من السيارات، من المركبات وحافلات نقل المسافرين، من المنازل والمحلات التجارية، يسكن الفضاء كالروح الحالم التي تتقاسم مع أهل المدينة أفراحهم وأحزانهم·· ونحن نتواجد في شارع السلم، سمعنا معطوب مدوٍ في أغنيته ''ذاغورو''، التي تعني ''الخيانة''، تنبعث من محل لبيع الألبسة النسائية· ولجنا المكان متعقبين الصوت، أزياء نسائية مصففة بمختلف أرجائه، اقتربنا من البائع، وحال سؤالنا عن هذا الخيار الفني انطلق الرجل قائلا: ''معطوب الوناس هو فناننا، الفنان الذي دافع عن منطقة القبائل وناضل من أجل لغتها وهويتها·· لقد ضحى بحياته من أجل الحرية والديمقراطية، وغنى وجاهر بمواقفه السياسية المعارضة للدولة الإسلامية والدكتاتورية، في أحلك الأيام وأكثرها صعوبة، لذلك لا يجب الاحتفال بذكرى رحيله، بل علينا الاحتفال بعيد ميلاده في كل سنة، وكأنه معنا، تخليدا لروحه''، ويقول أحد أصدقاء البائع الذي كان جالسا قبالتنا ''معطوب·· شرف وهوية منطقة القبائل·· لا أحد يمكن أن ينساه أبدا، لأنه حي في قلوبنا''، فيما أضافت سيدة مارة بالمحل ''بصوته المتواجد في كل وقت بيننا يتأكد من قتلوه أنه لا يزال حيا وأنهم فشلوا فيما كانوا يخططون له''، الغريب أن ملامح تلك السيدة تغيرت فجأة ولاحت في عينها دمعة ''معطوب يعني لي الكثير، لقد عشت يتيمة ووحيدة، وأغاني معطوب كانت تؤنس وحدتي وقهري، لقد غنى هذا الرجل الرائع لليتامى، للمحرومين والمظلومين''، ولم تجد محدثة ''الأثر'' طريقة أفضل لتنهي حديثها معنا غير مقطع من أغنية ''إيغوجيلان'' التي تعني ''اليتامى''· في هذه المدينة، لا يختلف إثنان عن القيمة المعنوية الكبيرة لهذا الفنان في نفوس القبائليين، إنه ''المتمرد'' كما يصفونه، هو الذي دافع عن قضيتهم منذ نعومة أظافره، ففي أول ألبوم فني له، قبل أن يتجاوز 22 سنة، طالب بالاعتراف باللغة والهوية الأمازيغية، وظل يقول ''أفتخر بكوني أمازيغيا''، وواصل ذلك النضال طوال مساره الفني وإلى آخر نفس فيه· في اللقاءات التي جمعتنا مع محبي معطوب، كنا نشعر بعجزهم عن التعبير عن المشاعر التي يكنونها له، لدرجة أن البعض اكتفى بالقول: ''خدعونا وقتلوه!''، فيما وجد البعض الآخر العزاء في والدة معطوب: ''الله يطول عمر ناعلجية التي ولدت رجلا مثل معطوب''، فيما وصف محمد أمزيان بشطارزي، الأمين العام السابق لمؤسسة معطوب والرئيس الحالي لجمعية محبي معطوب، هذا الفنان بكونه موهبة فنية ونضالية خارقة، مؤكدا أن يوم 24 جانفي 1956 الذي ولد فيه معطوب، هو ميلاد أمل الأمازيغيين ومنطقة القبائل ويوم 25 جوان 1998 ''يوم اغتياله'' هو اغتيال لذلك الأمل· إسم منقوش في ذاكرة المكان الحب الكبير الذي يكنه القبائليون للفنان معطوب الوناس لا يتطلب دليل، فبمجرد أن يدخل زائر منطقة القبائل ''حتى يجد صور معطوب معلقة في كل مكان، المقاهي، المحلات التجارية، الحانات، المكتبات··· وحتى في مرايا مركبات النقل والسيارات الخاصة، ربما من خلال هذا السلوك يعبّر الناس هنا عن قيمة معطوب الوناس في قلوب القبائليين، وربما يحاولون بذلك تحدي النسيان، فصورته وصوته أصبحا جزء مقدس في يوميات هؤلاء الناس· والأجمل صوره معلقة على جدران الكثير من المنازل وكأنه فرد من العائلة، كما أنه في الساحات العمومية بالبلديات والقرى المنتشرة عبر هذه المناطق الجبلية لابد أن تجد نصبا تذكاريا يخلد اسمه· والأجمل من كل هذا، ذلك الوفاء الذي دفع محبيه لنقش اسمه على بعض الصخور·· أتذكر يوم زيارتنا لجبال ''ياما فورايا''، ببجاية، أكتوبر المنصرم، حينها وقفنا على مشاهد فنية فريدة من نوعها، حيث وجدنا اسم معطوب الوناس منقوش على الصخور، الأمر نفسه على صخور ''كاب كربون''، وكذا بقرب رزم الأمازيغ، وفي جبال جرجرة، وبالضبط في أعالي ثيزي نكويلال، قام أحد المولعين بهذا الفنان برسم صورته على صخرة كبيرة وكتب تحتها ''لم تمت أبدا، أنت في القلب والروح''· وفي غابات إيعكوران أقدم مجموعة من تلاميذ المدرسة الجهوية للفنون الجميلة باعزازقة بنقش اسم معطوب على الأشجار تعبيرا عن حبهم للفنان·· في مثل هذه المواقف تشعر أن عشاق معطوب مروا من هنا ولم ينسوه، تذكروه في تلك الطبيعة الساحرة وتركوا توقيعا باسمه، وكأنما مرّ هو من هنا، وهي ربما طريقة للتعبير عن الحب بعفوية، لكنها في الحقيقة تحمل بين طياتها تحدٍ لذاكرة المكان· وفي الإطار نفسه، لم تسلم طاولات المؤسسات التربوية، التي تحوّلت إلى فضاء لكتابة اسم معطوب الوناس ورسم صوره وكتابة شعاراته وأغانيه· وفي هذا الصدد، يقول أحد أساتذة ثانوية علي ملاح، بذراع الميزان ''التلاميذ متعلقون بمعطوب، فلا تجد أي قسم خالٍ من طاولات تشبه الجدارية، يعبّر فيها عن المكنونات لمعطوب''· عشاق الوناس وحكاياتهم خلال جولتنا الاستطلاعية اكتشفنا أسرار وحكايات لدى عشاق معطوب الوناس، فمراد صاحب العقود الثلاثة يروي لنا واحدة من هذه الحكايات ''كنت جالسا في مقهى ببوغني وكنا نستمع إلى أغنية معطوب، دخل شخص طلب من العامل تغيير الأغنية أو إطفائها، لكن العامل رفض ذلك، وبدأ الشخص ينتقد معطوب، لدرجة وصفه بالكافر''، يضيف مراد ''لم أستطع التحكم في نفسي، واندلع شجار كنت أحد أطرافه''، يتوقف مراد ليلتقط أنفاسه المتقطعة وهو يستعيد تلك اللحظة بكل تفاصيلها وبنفس الانفعال، ثم يعود للكلام ''لن أقبل بمثل هذه السلوكات والتجاوزات، لأن معطوب موروث فني أمازيغي، وهو جزء هام من هويتنا وطبعا هو فناني المفضّل''· وإذا كانت حكاية مراد انتهت بالمقهى، فحكاية أحمد صاحب ال 42 ربيعا كان لها مصير آخر، يروي أحمد: ''تشاجرت ذات يوم مع شخص حاول التقليل من قيمة الوناس، وراح يشتمه، وفي تلك اللحظة جن جنوني وتصوّرت لو أن تلك الشتيمة كانت موجهة لي لما آلمتني بتلك الطريقة، وفي لحظة بين الوعي والجنون اعتديت عليه جسديا، وانتهى بي الأمر في أروقة المحاكم، والحمد لله أن المسألة سويت بغرامة مالية''، ورغم هذا يؤكد أحمد ''لا يمكنني أن أسكت عن محاولة المساس بمعطوب، لأنه رجل نظيف وصريح وفنان شجاع''·· الشجارات والمشاحنات التي يدخلها عشاق معطوب الوناس لأجله كثيرة، وتبدو خيالية أحيانا، كحكاية عمر الذي قام بضرب أحد موزعي الجرائد بقارورة خمر داخل حانة، بعدما حاول الأخير التقليل من قيمة معطوب، ووصل كل من الطرفين إلى المحكمة، ويقول عمر: ''معطوب يسكن في دمي، في روحي ولن أقبل بأن يحط من قيمته أحد''· الوناس والفايسبوك رغم مرور زمن طويل على رحيل الفنان معطوب الوناس، إلا أن الدهشة مازالت تسكن عقول محبيه، الذين ظلوا متمسكين بوجوده في يومياتهم، فعبر موقع التواصل الاجتماعي ''الفايسبوك'' هناك آلاف الصفحات باسم ''معطوب الوناس''، كما قام بعض آخر من محبي معطوب بفتح صفحات على شكل مجموعات من الأعضاء، يسجل فيها الآلاف من المحبين، يدور حديثهم عن يوميات معطوب واغتياله ونشر صوره وأغانيه، والمتصفح للتعليقات يلمس تكرار عبارة ''معطوب الوناس لا يزال حيا''، فيما يضع الكثير من محبيه صوره على صفحاتهم الشخصية، ولا يغفلون أي مناسبة تخصه، حتى أن أحدهم تساءل ''هل يعلم معطوب بقصته مع الفايسبوك؟''، إشارة منه إلى أن هذا الموقع استطاع أن يجمع بين محبيه من مختلف الأماكن· معطوب يعود هذا الأسبوع في مبادرة إنسانية مميزة، قام مجموعة من محبي الوناس، هذا الأسبوع بمناسبة عيد ميلاد معطوب، بتقديم هدايا وهبات باسم معطوب إلى الأطفال المتواجدين بمركز الطفولة ببوخالفة، وهذا تلبية لتوصيات معطوب قبل وفاته، الذي دعا فيها محبيه إلى الاهتمام باليتامى والمحرومين·· كما برمجت مؤسسة معطوب، اليوم، برنامجا ثريا للاحتفال بالذكرى ال 56 لميلاده، وذلك بمنزله بقرية ثوريرث موسى·