ذلك الذي تشعر في صحبته بسكرة الفلسفة ونشوتها، ذلك الذي يكتب في مفاتن الفلسفة وملاهيها فتنتشي وتسكر، ذلك الذي يكتب نص الفلسفة المستعصي فيجعله صفيحة، أو سبيكة أو قطعة برونزية.. ذلك الذي، هو شوقي الزين، فيلسوف شاب شبّ على المحاورة والمناظرة واللهو المنطقي، شبّ على الجهد والمصابرة والرصانة العقلية، على الاستقلالية والنفس الأكاديمي وعشق الشرح، في المعاني والملفوظات، في الإجراءات والتدابير، في الطرائق والمناهج، وكذلك في أحلى وأروع من كل ذلك، اللغة، لغة شوقي الزين الفائقة الرهافة، يكتب في الفلسفة العسيرة فكأنها البلاغة والترياق والعبق، وبينه وبين علي حرب زمالة وتناسب ومصاهرة جيلية وتواصل، وبينه وبين ميشال دوسارتو التفاصيل والوقائع اليومية واللذائذ، بينه وبين محي الدين ابن عربي عشق صوفي بيني لا يبينه قياسا إلى سنّه جزما أعتبره شوقي نابغة جزائرية وعربية نادرة المثال. بدأ عهدي بشوقي الزين أول الألفينات عهد الصحافة الوطنية الحية التي استمرت على النقاش والسؤال والأطروحة، عهد الخوف على الهوية والعمى بالعقيدة والتعمية على المشروعيات والتوترات التاريخية في المجتمع الجزائري، كان لحظتئذ بقايا نقاش ينبغي أن يستكمل وشذرات برامج متهافتة وحزبويات مهترئة وأكاديميات فلكلورية لكنها الفترة ملزمة، محكومة بالأمل مثلنا نحن المحكومون بالآمال الواعدات والخواطر الفردوسية، رغم شح المنبر وشح الحال وشح المجلة والدورية والكتاب والكراس ما وجد أحدنا بدّ من الدخول والمساهمة والبقاء على قيد الثقة بزوال الإحتزاب الأهلي والسياسات الخاطئة والشعبويات المسرفة في استهلاك الماضي وبناه وبناته. جيل أغلبه ثلاثيني وأربعيني زكته الكتابة الجديدة المتمردة على الحقول والتأطيرات، فالتة من عقال الإنتماء، متخلقة بمبدأ الأخلقة للفضاء العمومي، حصرا وابتداء، خرج شوقي الزين مع هؤلاء الذين خرجوا من عطف اليتيم بختي بن عودة ومن رحمه الرؤوم، إنها صبغة وبصمة وشرف كي تبقى البختوية تتوالد وتنهض وتناطح من بعد سنوات الموت والجنون والإغتيال المنظم، بالطبع لم يكن شوقي لوحده، محمد بن زيان أيضا كان بعصاميته الجادة، بسعة قراءاته وذهابه نحو البعد تأويلا وحفرا ومراقبة للنصوص، وبودومة الذي كان يذهب مع ريح الفلسفة فلا يعود، ومفتي وعمارة كحلي وخيرة مكاوي ومعاشو قرور ومحمد خطاب والزين نور الدين، جمع قليل، سمح غفور، مضياف نحوا كلهم نحو البختوية، تنفسوها في اللغة والتعابير في الرنين والقصاصات، في الأشباح وبياضاتها وفي متروكات بختي الورقية، المنشورة وغير المنشورة، أين هم وماذا يفعلون وماذا يكتبون!! يطل بعضهم للتوّ من دورية ''كتابات معاصرة'' وعلى العهد باقون، المعرفة والسّتيل والكتابة والدفق الشعري ووثبة الرومانطقية الفلسفية، لكن من بينهم شوقي مواظب جسور، خالص في نفسه ومنبعه ومتمادي في أكاديمية مشاغبة، عندها نبرة وصروف أحوال، تتبدّى في المكاشفات وهي هبل وجنون والتياع ورغبة، بدأ شوقي الزين يطاول الصخر وجلموده لما اختار اكس بروفانس وهي ليست مجرد متقنة علوم وإدارة شؤون فكر بل ''إكس إن بروفانس'' مكشوفة الطموح والنية في المجال الإنساني وخطاب الإنسانيات، إجترح شوقي موضوعه عن محي الدين بن عربي فقط لتكون رسالة دكتوراه: مستحقة المنال ريثما هو التقليد الغربي المؤسسي المعرفي في التعاطي مع الفكر العربي الإستثنائي والثوري والسجالي، فهناك في الإكس إن بروفانس والسربون وكامبردج وجورج تاون ومتشيعان وهارفرد وكولومبيا وأكسفورد وكلية الشرق بنابولي يبدون أكثر اكتراثا بأسئلتنا وأوجاعنا وآفاتنا -شعبيا ونخبويا- فلقد إبتدؤونا من إبن خلدون، وإبن رشد وإبن سينا والمعتزلة وثورات الزنج والقرامطة، كما الخوارزمي والصقلي وإبن بطوطة وألف ليلة وليلة كما ابن عربي وفصوص شوقي الزين ومثابراته، كتب شوقي ''إزاحات فكرية'' وهو كتاب صغير في تحريك أرضية العمل الفكري في الجزائر، عمل أولي كان يمهد لجسارة شخص متفلسف، عال الشأن، بالغ الجرأة، إزاحات حفرية مهمة في تمامية الموضوعات وأصوليتها وبعدها عن النقد والتفكيك بل خوفها على نفسها من البلل، أشياء متفرقات هكذا بدأها بختي بحذاقة معرفية ويتماس معها الزين بشفيف من اللغة الوالعة وبحوافر حصان أصيل يصهل بلغة عربية متفوقة على الأدب الفلسفي الجزائري الذي دأب على المدرسية والتلقين والأبوية ''كتابات عبد المجيد مزيان، كتابات شريط، كتابات عبد الغني مغربي، كتابات نور الدين طوالبي، كتابات وادي بوزار، كتابات سامي ناير''، لقد جاءت الشوقية من أجواء فرنسية، منزلقة، متسللة، كما هو التفكيك في المطابقات والأوائل، في النصوص وصنميتها، في باتولوجيات الواقع الأليم، -الجزائري خصوصا- في الباروديا والمحاكاة الزائفة لقوى الغير- حداثات غربية وماضويات إسلامية. لا تسمن ولا تغني من جوع المحاكاة والمناصصة والإقتباسية الأيديولوجية والقناعات المؤسّسة للأساطير، العمل الفلسفي الذي يبدأه نموذج شوقي الزين جيّد في الوجهة ومحكم في النسق، العمل بالإزاحة والتخريم والحرق والمغايرة أمر لطيف ومستحدث بالنسية للسليقة الجزائرية وللنص الفلسفي الجزائري العربي، أقول فعلا إنه إمتداد في دواخل البختوية ورهاناتها، الإنسان حيوان يسأل، لا جدوى من البداهات والتقابلات واليقينيات، تقنية الإزاحة هذه التي تهوس بعقل شوقي فجرت فيه إمكانات لاحقة وعطاءات منتظمة لم يسبق إليها غيره، فشوقي الزين كتب باللغة الفرنسية ''هويات وغيريات'' لمح فيه وصرح عن الإمكان الفلسفي العظيم في مساءلة خطابنا القوموي وعقلنا السياسي وأكاذيبنا التاريخية ومثييولوجياتنا المعطوبة، وهو أيضا الذي سيكتب ''الإزاحة والإحتمال'' كتابة جميلة أثرى بها الفلسفة العربية وطعَّمها من لهيبه وقيظ سؤالاته وقبض محايثاته، كتاب شوقي هذا رجْراجْ، لهْوي لعْبي، بالمفاهيم يعج، وبالقصديات يعج وبالحفريات يعج، نتعلم من شوقي هنا أن التفلسف فن أرضي، جيولوجي يمكن أن يستعار من الظواهر الجغرافية رغم أنساقها الهندسية فإن لها التعاريج والمنحنيات، لها الزلازل والبراكين، لها التشكيل الجوفي والسطح والصفيحة، ''ماتحت الأرض'' هو المتواري والسماوي والمخبوء والممتنع عن التفكير''ما تحت الأرضي'' هو المحرم والسماوي والقدسي، يجري التحريم لا بسبب متعال سماوي هائل، شبحي، نيزكي، بل بسبب الأرض الترابي، العرفي، القَبلي والإستعارة هنا لجيل دولوز وقبل جهده في الصفائح النقدية شيد معمارا مفهوميا آخر وهو كتابه ''تأويلات وتفكيكات'' خطاطة أولية في التأويل والتسمية والإستراتيجية، أبان فيه عن احتمالية النَّص واختلافيته وتغايراته، الفهم عنده ليس التفكيك والتفكيك غير حاصل بالمنطق الإستراتيجي، الحواري، السقراطي بل التأويل عنده عتبة والعتبة طبقة والطبقة تضاريس وتلافيف ولذلك حاد الفيلسوف الشاب عن الأصل المدرسي في التلقي، ''الإزاحة والإحتمال'' مصنف هام أراه اليوم في الدرس الفلسفي القومي والعالمي مع اختيار مناهجي مثبت بلا جنوح أو شطط، تأويلات، أو شبكات الصفيحة تفكيكات أو شبحيات الصفحة، تكتيكات أشتات الحصافة وهكذا، كتابة منشدة إلى اللغة وجثماناتها إلى الجسد في تعرجه ونتوئه وإلى النص فصُّه وفصله، تتواعد الكتابة الشوقية على الزيارة والتّزاور وتحترف آداب الزيارة فلا تهن ولا تهون ولا تهان، إن شوقي الزين يذهب إلى الشذرة النيتْشية، كما إلى الفكر التأويلي لغادامير والنقد الثقافي لرورْتي ويذهب بلا قفّاز أسود إلى اعتراف بول ريكور وسماحاته، عندما يكتب الفيلسوف الجزائري شوقي الزين عن جاك دريدا نتلمس مخادعة جميلة وهوى جامح ومخاتلة باطنة وشبح غير مرئي، ليس يهم في دريدا مجازيته وتناقضاته وعبوراته وطيوفاته وأطيافه، إن شوقي إذ هو يعيد علينا التعويذه الدريَّديَّة يكثر عليك ويكثّر الشعور بأبيارية وجزائرية جاك، إنها العودة الأبدية لجرح الهوية ومدفوناتها ولذلك لا يكفي القول أن الهوية، رهان سماوي وأفق ما ورائي إنها أبعد وأعمق، وكل ما يقال في الأدب والفلسفة له وظيفة سياسية وليس هو فقط محض مفاهيم شكلية وسرديات أدبية لقد قربَت البختوية جاك دريدا إلى جبليا وقدمته معلما وحقيقة جزائريانية لكن لقاء بين شوقي ودريدا حدث واستحق التذكار فهو حنين و''نوست ألجي'' وعتاب وحب قديم ومودات وهدايا كما هو الشأن الذي سيكون حينما يلتقي شوقي وهرانه الموعودة في كتابات الأمس ومكاتيب الأولين... a_ هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته