كانت الساعة تشير إلى التاسعة وعشر دقائق 10:9 سا في ذلك الصباح الممزوج بطعم الدفلى عندما تناهى صوت إبنة الكاتب إلى سماعة الهاتف، لململ الطبيب شجاعته الهاربة وفي الأخير بلسان متلعثم نقل إليها الخبر المشؤوم. في ليلة ال 26 من شهر فيفري سنة 1989، استقبلت مصلحة الاستعجالات بمستشفى عين الدفلى جثة رجل عجوز راح ضحية حادث مرور بعدما تم استخراجها بصعوبة من سيارة من نوع ''بيجو ''205 اصطدمت بشجرة عند مخرج مدينة عين الدفلى، وبرغم الإسعافات التي قدمت للضحية عقب الحادث (20 دقيقة حسب الطبيب المناوب) إلا أنه توفي بعد وصوله المستشفى بعد ساعة زمن، لم يكن بالمستشفى ليلتها طبيب جراح. ظلت جثة مجهولة، إلى أن تم تفحص وثائقه، كان من بينها جواز سفر يحمل آخر تأشيرة للمملكة المغربية قبل يومين فقط ورخصة السياقة كتب عليهما هويته :محمد معمري الساكن بشارع سفينجة (الأبيار) الجزائر .بعد أخذ ورد وسؤال بين الطاقم الطبي المسعف ثبت أن لقب معمري لا يمت بصلة لعائلات مدينة عين الدفلى، جاس صمت رهيب قاعة الإنعاش قبل أن يتقرر نقل الجثة لمصلحة حفظ الجثث، أحد الممرضين اقترح الاتصال بالشرطة ومدهم بالعنوان للقيام بالتحريات اللازمة، كان الوقت متأخرا وظلت جثة الرجل مسجاة على طاولة باردة برودة تلك الليلة المشؤومة .لم تكد شمس الشتاء المتباطئة تشرق إلا في حدود الساعة ,008 كان أول من التحق بالمستشفى رئيس مصلحة طب الأطفال الدكتور عمار خريص (وكان مهتما بالأدب والثقافة عموما) تم إخباره على الفور بجثة سائق السيارة وأعادوا على مسامعه الحكاية... قبل يومين من الحادثة، أجرت مجلة ''لوماتان دي صحرا'' أو صباح الصحراء المغربية، حوارا خصصته لموضوع ''الأدب المغاربي المكتوب باللغة الفرنسية وآفاق العولمة'' واختارت الكاتب الجزائري مولود معمري لمناقشة هذه الإشكالية الاستشرافية .بدا الدا المولود متفائلا في أجوبته وأبدى انفتاحا لكتابات الجيل الجديد وتوسم فيهم خير كثير بيد أنه قال عنهم :''..أولئك الشباب لهم نظرة جديدة في التفكير وتتوافق ووقتنا المعاصر وعليه لا بد أن يتجلى ذلك في كتاباتهم''. وفي سؤال عما إذا كان ما زال مواظبا على كتابة الرواية، أجاب مولود معمري حرفيا :''بالطبع، أشتغل حاليا على رواية وعمل مسرحي ثالث، وما أتمناه أن أواصل الكتابة إلى آخر رمق من حياتي''. ذكر الصحفي المغربي الذي أجرى الحوار حادثة طريفة، لكنها أثرت فيه لاحقا، أيما تأثير، يقول إنه طلب قلما من مولود معمري ليدوّن عنوانه في الجزائر بغية التواصل، فإذا بالقلم الجاف يتوقف عن الكتابة في وسط المسافة .فاستفسر الصحفي مبتسما :''لقد فرغ الحبر من قلمك؟!'' .فأجابه الدا المولود مازحا :''أظنه مات''. عندما كشف الدكتور عمار خريص عن وجه الجثة صاح مجلجلا كأنما رأى وجه أحد أقربائه :''إنه الكاتب مولود معمري'' ليصاب الحضور بذهول غريب. تسمّر كل من كان في قاعة حفظ الجثث في أماكنهم للحظة. بدا وجه الدكتور خريص مكفهرا وغاية في الأسى والتأثر، لكنه استجمع أفكاره المشتتة وأخذ يجري اتصالات لإبلاغ عائلته بالخبر. كانت الساعة تشير إلى التاسعة وعشر دقائق 10,9 سا في ذلك الصباح الممزوج بطعم الدفلى عندما تناهى صوت إبنة الكاتب إلى سماعة الهاتف، لململ شجاعته الهاربة وفي الأخير بلسان متلعثم نقل إليها الخبر المشؤوم. في حدود الساعة الثانية زوالا من يوم ال 27 فيفري 1989 وضعت جثة الفقيد في نعش مسجى على عتبة بيته بشارع سفينجة بالأبيار .وفي اليوم الموالي نقل نعشه في موكب مهيب إلى مسقط رأسه بقرية تاوريرت ميمون بالقبائل، حيث شيّع الدا المولود إلى مثواه الأخير في جو جنائزي حضره أكثر من 200 ألف شخص .جاء الجميع :شيبة وشباب نساء ورجال، أطفال، بطالون وكادحون، شيوخ، مثقفون، أميون، عجائز. ..الكل جاء لوداع آخر قلاع الالتزام في الجزائر، المحارب الأبدي الشرس، التروبادور المطارد، حامي الجذور والجذوة من الانطفاء ..توقف قلم الرجل لكن بقيت روحه سارية بين التلال المنسية لبلاد القبائل في عبور لا يمل حاملا عصاه وفي جيبه أفيونه المسكر (قلمه) قد يستسلم لإغفاءة العادل، لكنه أبدا يقض في زمن الخيانة ...حضر الجميع باستثناء الرسميين !وأي ''رسمي'' تسوّل له نفسه الولوج بين تلك الجماهير المشيّعة، المفجوعة في فقدان إبنها وشعارات التنديد بالسلطة ترددها حناجرهم الغاضبة.