..ظل هاجس اللااستقرار ينهش الطاهر جاووت من الداخل إلى ما آلت إليها الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الجزائر إبان سنوات التسعينيات التي لم يعش منها جاووت سوى سنتين افتتحتهما أيادي الإرهاب الملطخة بالدم والدموع وطلقات الرصاص العمياء ضد كل ما يرمز إلى الحياة والأمل.. ماذا لو كان طاهر جاووت مازال حيا بيننا، في معترك الواقع وزخم التغيرات المحيطة بنا، فطالما كان يتوق لوطن آمن ينعم بالهدوء والاستقرار لكي يؤدي رسالته في شساعة موهبته التي قادته إلى كتابة روايات من طينة ''العسس'' و''الباحثون عن العظام'' وقصص وأشعار أثثت للمشهد الأدبي الجزائري إبان سنوات الثمانينيات بإبداع رجل كان يكتب بهواية وموهبة وأصبحت قامته الطويلة تتماهى أدبيا مع قامة الطاهر وطار وتستمد روحها من كتابات مولود معمري وتشكل في مزيجها أدبا متفردا ومتميزا جعل لجنة القراءة ترفض مخطوطة روايته الأولى لأنها ببساطة لم تكن تعبّر عن روح الجزائر الاشتراكية .ورغم ذلك وجدت طريقها إلى النشر، لكنها مرت في سكون مميت جعلتها تنآى عن عيون العسس وتتجنب استيقاظ الشياطين القديمة للرقابة. ظل هاجس اللااستقرار ينهش الطاهر جاووت من الداخل إلى ما آلت إليها الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الجزائر إبان سنوات التسعينيات التي لم يعش منها جاووت سوى سنتين افتتحتهما أيادي الإرهاب الملطخة بالدم والدموع وطلقات الرصاص العمياء ضد كل ما يرمز إلى الحياة والأمل، سقط ضحايا من كل الفئات دون تمييز وفرض الخوف سلطانه كذلك عملت آلة الموت ليل نهار وكان وقودها أرواح بشرية رفضت منطق القتل الأعمى .كان صيف سنة 1993 بالنسبة للروائي الطاهر جاووت آخر صيف للعقل في صحراء اخترعتها أيادي الإرهاب لتسكت زقزقات عصافير معدنية أرقّتها الحياة المضطربة فاختارت الأبدية لتعتق جسدها من حديد كبلها ..تاقت إلى علم الأرواح بعيدا عن العسس، فكان لها ما أرادت ثم ما لبثت أن أخذت مكانها على سياج جدار شائك لتنقلب على عقيدة القتلة كتب الطاهر جاووت في آخر مقال نشره :ثمة تهديد جسيم ينيخ بوطأته علينا، وينبغي أن ندرأه بأسرع وقت ممكن - ولم يكن هذا التهديد شيئا آخر عدا التعصب- وسرعان ما سوف يكون ضحية له بعد أسبوع من ذلك. إبان اندلاع الأزمة الأمنية في الجزائر، آثر أغلب المثقفين الصمت والنأي بعيدا عن طلقات الرصاص التي طالت بعض الأصوات الأدبية والمثقفة بعشوائية وبرودة دم وأحيانا سقط آخرون دون سبب أو تفسير لموتهم جعلت الطاهر جاووت يطلق مقولته المشهورة :''الصمت موت، فإن التزمت الصمت ستموت، وإن تكلمت ستموت، إذن تكلم ومت''. تكلم الطاهر جاووت بملء فيه، كتب روايات وقصص وأشعار، وعبر عن موقفه مما كان يحدث في أكثر من مرة ولم يترك مناسبة إلا وأدان فيها القتل ورافع من أجل السلام والأمن وناهض الإرهاب والإرهابيين بكل شجاعة كأنه كان يدرك مصيره في النهاية، كان رجلا شجاعا حرا ومناضلا شرسا ضد الرجعية والظلامية والخوف في زمن صودرت فيه الآراء والأفكار وعمت الفوضى وخفتت الأصوات ونأت بعيدا عن الموت الذي طال الطاهر جاووت في الأخير يوم 26 ماي 1993 بباينام مقر سكناه على يد بائع حلويات متجول وأمي وشكّل الاعتداء صدمة للكاتب باعتبار الصداقة القوية والطويلة التي جمعت بينهما، وشكلت في الآن نفسه رسالة إنذار واضحة لعموم المثقفين والكتاب الجزائريين المناهضين للإرهاب. توفي الطاهر جاووت بعد أسبوع من عملية الاعتداء يوم 02 / /1993 06متأثرا برصاصتين استقرتا في رأسه. في الذكرى السنوية الأولى لرحيله، كتب الروائي، رشيد ميموني، نصا معبرا احتفاء بذكرى صديقه ورسالة قوية في التسامح جاء فيه على وجه الخصوص :''هل يلزمنا أن نخلي الساحة لكل هؤلاء الذين يلوذون بالعنف؟ وبتعبير آخر، ألا يبدو ضروريا ضبط الحدود بين التسامح والتعصب، أعني الخط الذي ينبغي فيه للمتسامحين أن يتحولوا إلى متعصبين؟ ندرك حين يتعلق الأمر بتحديد مفهوم التسامح أن المعاجم ذاتها تنوء تحت وطأة الخلط والالتباس، فهي تتحدث عن الوضعية التي تتمثل في الإقرار عند الآخر بوجود طريقة في الفعل والتفكير لا نقبل بها .يتضمن هذا القبول إحساسا بالتسامح المتعجرف ويدرج نوعا من اللامساواة بين الذي يقبل فعليا بالتسامح وذاك الذي أتيحت له فرصة أن ينعم بالتسامح. أعتقد أن التسامح وفق المعنى الحديث ينبغي أن يفهم باعتباره احتراما مطلقا للآخر بصرف النظر عن كل مظاهر اختلافه، وهو الشرط الذي يتيح لنا أن نتعايش بطريقة منسجمة أو متكافلة فوق هذه الأرض التي يعمها الاضطراب غالبا''. وُلد الطاهر جاووت في 11 / 01 / 1954 بقرية آيت شافع الساحلية الكائنة بولاية تيزي وزو القبائل الكبرى، حاز على شهادة ليسانس في الرياضيات، وهو في العشرين من عمره، تاريخ تعرفه على الشاعر حميد تيبوشي، دخل عالم الصحافة عام 1976 وأشرف على إعداد ملحق ثقافي بجريدة ''المجاهد'' اليومية، واشتهر لاحقا بكتاباته في أسبوعية ''الجزائر الأخبار'' على مدار سنوات طويلة .للمغدور عدد من المجموعات الشعرية والقصصية وأعمال روائية، أهمها ''البحث عن العظام''، ''الطائر المعدني''، ''العسس''، ''المطرود''، ''الشبكة وصائد العصافير''، إضافة إلى رواية ''آخر صيف للعقل'' التي نشرت ست سنوات بعد اغتياله .مرت 19 سنة على اليوم الذي أطلق فيه بائع حلوى رصاصتين على رأس الكاتب الطاهر جاووت وتعرض عدد آخر من الأبرياء للقتل رميا بالرصاص أو بالسلاح الأبيض ..أيحق لنا في النهاية أن نحصي موتانا من المثقفين بعد مرور خمسين سنة على الاستقلال :طاهر جاووت، يوسف سبتي، بختي بن عودة، إسماعيل يفصح، سعيد مقدم، عمر أورتيلان ..أليس كل هؤلاء وغيرهم كثير في النهاية شهداء حقبة الاستقلال. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته