هل هناك إرهاب عاقل وإرهاب مجنون؟ وهل يجوز أن تتحول محاكمة الإرهابي إلى محاكمة لديانته وأصوله العرقية والثقافية إذا كان مسلما، أما إذا كان مسيحيا أو يهوديا أو من عقيدة أخرى فيحاكم على أنه مجرد فرد ارتكب جريمة نكراء تبرر الغوص في دوافعه والبحث في أهليته العقلية؟ هذه الأسئلة وغيرها قفزت إلى الذهن مرارا خلال متابعة محاكمة الإرهابي النرويجي أندرس بيرينغ بريفيك، الذي قتل بدم بارد 77 شخصا معظمهم من الشباب في عملية مزدوجة بدأها بتفجير شحنة كبيرة من المتفجرات في منطقة المجمع الحكومي وسط أوسلو لتشتيت انتباه سلطات الأمن عن هدفه الرئيسي وهو مهاجمة المعسكر الصيفي لشباب حزب العمال النرويجي حيث ارتكب مذبحة بشعة راح ضحيتها العدد الأكبر من ضحاياه الذين أبادهم بالرصاص. الستار أسدل على المحاكمة يوم الجمعة الماضي بعد 13 شهرا من الجريمة التي روعت النرويج، وأثارت الكثير من الجدل والاهتمام حول العالم خصوصا في أوروبا التي تشهد الكثير من النقاش حول الإسلام والتطرف والإرهاب والعنصرية. فالإسلام أقحم مبكرا في القضية سواء من خلال التكهنات المبكرة المعتادة التي باتت تعقب كل عمل إرهابي بتوجيه أصابع الاتهام والشكوك نحو ما يسمى ب “الإرهاب الإسلامي"، أو من خلال الدوافع التي قدمها بريفيك بعد اعتقاله ثم محاكمته حيث شن هجوما عنيفا على الإسلام والمسلمين واعتبرهم خطرا زاحفا على أوروبا ومهددا للحضارة الغربية، ثم من خلال إعلان تأثره بأفكار اليمين المسيحي المتطرف أو العنصري من أمريكا إلى أوروبا وبالعديد من الكتابات المعادية للإسلام أو الناقدة للمهاجرين المسلمين في أوروبا باعتبارهم “ثقافة موازية" ترفض الاندماج في مجتمعاتها الجديدة وتحاول فرض أفكارها وتقاليدها. القضاة أرسلوا بريفيك إلى السجن لقضاء فترة عقوبة تصل إلى 21 عاما هي الحد الأقصى لعقوبة السجن في النرويج، لكنهم تركوا الباب مفتوحا أمام السلطات لكي تطلب بقاءه في السجن مدى الحياة بعد انتهاء محكوميته على أساس أنه يمثل خطرا على المجتمع لو أطلق سراحه. هذه العقوبة التي قد تبدو خفيفة بالنظر إلى بشاعة الجريمة وعدد الضحايا، لم تكن ممكنة أصلا لولا حسم الجدل حول أهلية بريفيك العقلية وما إذا كان إنسانا سويا أو مريضا نفسيا. فلو اعتبرته المحكمة مجنونا لكان عليها إرساله إلى مستشفى للأمراض العقلية لقضاء فترة عقوبته بدلا من إرساله إلى السجن، كما أن القرار كان سيترتب عليه اعتباره إما إرهابيا وقاتلا ارتكب جريمته عن سابق تصميم وترصد، أو مجرما غير مسؤول بالكامل عن جريمته لأنه مصاب بالجنون أو بانفصام الشخصية. الجدل كان قد احتدم بعدما توصل طبيبان نفسيان عينتهما المحكمة في نوفمبر الماضي إلى أن بريفيك مصاب بالانفصام وأنه يعيش في عالم خاص من الأوهام التي بررت له جريمته. القرار أثار كما هو متوقع موجة من الاحتجاجات والغضب في أوساط عديدة بالنرويج لأنه كان سيعني “تبرئة" القاتل الإرهابي من نتائج جريمته المروعة على أساس أن حالته الذهنية تجعله غير مسؤول بالكامل عن أفعاله وغير قادر على القرار المسؤول. لكن اللافت أن القرار أثار استياء بريفيك أيضا فأعلن احتجاجه عليه معتبرا أنه يضعه في خانة الجنون في حين أنه يرى نفسه عاقلا قام بعمله لإيقاظ النرويج وأوروبا “للخطر الإسلامي الزاحف". في ظل ذلك الجدل المحتدم الذي طغى على النقاش حول البحث في خطورة الأفكار والأجواء التي أنتجت بريفيك ويمكن أن تنتج آخرين مثله في ظل تنامي حركة اليمين العنصري المتطرف ومناخ العداء للمهاجرين وللإسلام، أمرت المحكمة بإعداد تقرير آخر عن حالته الذهنية، فجاءت النتيجة مغايرة، إذ توصل التقرير إلى أن بريفيك لم يكن في حالة جنون وقت ارتكاب الجريمة، وهو ليس كذلك في الوقت الراهن أيضا، وبذلك مهدت الأرضية للمحاكمة وللحكم الذي صدر لاحقا ضده. القرار لم يكن مصدر راحة فقط لأولئك الذين أرادوا محاكمة وعقابا للرجل الذي ارتكب أفظع جريمة في تاريخ النرويج، بل كان أيضا مصدر سعادة لبريفيك لأنه رفض أن ينظر إليه كمجنون أو كفاقد للقدرة على اتخاذ قرار سوي، وأراد أن تكون محاكمته سياسية يركز فيها الأنظار على دوافعه وأفكاره في كيفية إنقاذ النرويج وأوروبا بل والحضارة الغربية من “الخطر الإسلامي الزاحف" ومن “سرطان" المهاجرين المسلمين الذين يفتتون في القيم الأوروبية والحضارة الغربية. المشكلة في كل ذلك الجدل أنه استغرق وقتا طويلا من وقت المحكمة، ونقل النقاش أحيانا من التركيز على الدوافع وخطورة الأفكار التي تنتجها مناخات التطرف إلى مناقشة ما إذا كان هذا الإرهابي عاقلا ومسؤولا عن تصرفاته، أو مجنونا لا يتصرف بكامل أهليته العقلية وبالتالي فإن جريمته ناتجة عن عالمه الخاص وأوهامه وليست من إفرازات أجواء الكراهية المتنامية للمهاجرين والعداء للإسلام. ولا يفوت على المراقب خصوصا إذا كان من العالم الإسلامي أن يلاحظ أنه بعد كل عمل إرهابي يرتكبه مسلم في أي مكان في العالم تتحول القضية إلى محاكمة للإسلام، وترتفع الأصوات التي تطالب المسلمين باجتثاث ومعالجة كل الأسباب التي تؤدي إلى ظهور الإرهاب، وتسهم في مناخات التطرف. أما إذا كان الإرهابي متطرفا مسيحيا كما في حالة منفذ جريمة النرويج أو تفجير أوكلاهوما مثلا فينظر إليه على أنه فرد جانح وغير سوي، ولا يعبر عن ظاهرة تستدعي معالجة فكرية أو محاكمة لمعتقدات دينية حتى ولو بدا أنه متأثر بأفكار اليمين المتطرف أو يتدثر بشعارات ولافتات مسيحية. هذا الكلام لا يعني المطالبة بأن تتحول محاكمة الإرهابيين غير المسلمين إلى محاكمة لدياناتهم، قطعا ليس هذا هو الهدف، بل الهدف هو التحذير من سهولة الانزلاق إلى تحويل كل عمل إرهابي يرتكبه مسلم إلى محاكمة للإسلام وإدانة لكل المسلمين. فمثل هذه الأجواء والمناخات هي التي أسهمت في إنتاج بريفيك وأمثاله، وهي أجواء ينفخ فيها أحيانا سياسيون وكتاب وإعلاميون عن قصد أو عن جهل، وهذا هو الجنون بعينه، وهو موضوع حديث آخر.