المعهد الوطني للصحة العمومية: تنظيم دورات تكوينية حول الوقاية والتكفل بالأمراض المرتبطة بالتغذية    رئيس الجمهورية: "الجزائر انطلقت في حركة تنموية رائدة وآن الأوان لأن تكون الثقافة تاجا لهذه الحيوية"    رياضة مدرسية: تأسيس عشر رابطات ولائية بالجنوب    محروقات: تراجع فاتورة استيراد زيوت المحركات بفضل ارتفاع الإنتاج المحلي    قوات الاحتلال الصهيوني تعتقل عدة فلسطينيين من الضفة الغربية    رئيس الجمهورية يشرف على افتتاح الجلسات الوطنية للسينما    الطبعة ال3 للدورة الوطنية للكرات الحديدية: تتويج ثلاثي تلمسان بولاية الوادي    العدوان الصهيوني: 9 شهداء ومصابون إثر قصف الاحتلال لمناطق متفرقة في قطاع غزة    الجزائر تتحرّك من أجل أطفال غزّة    نشاط قوي للدبلوماسية الجزائرية    حماس: نقترب من التحرير    صورة تنصيب ترامب تثير الجدل!    90 مؤسسة في برنامج دزاير لدعم المصدّرين    نحو 23 ألف سائح أجنبي زاروا الجنوب    أين الإشكال يا سيال ؟    حزب العمال يسجل نقاطا إيجابية    شايب: نهدف إلى تحسين خدمة المواطن    الأمم المتحدة تكثف جهودها الإنسانية في غزة مع بدء تنفيذ وقف إطلاق النار    تجارة: عدم التساهل مع كل أشكال المضاربة والاحتكار للحفاظ على استقرار السوق    جيدو/البطولة الوطنية فردي- أكابر: تتويج مولودية الجزائر باللقب الوطني    نسيج وجلود: تنظيم المتعاملين في تجمعات وتكتلات لتلبية احتياجات السوق الوطنية    خدمات الحالة المدنية لوازرة الخارجية كل يوم سبت.. تخفيف الضغط وتحسين الخدمة الموجهة للمواطن    الذكرى ال70 لاستشهاد ديدوش مراد: ندوة تاريخية تستذكر مسار البطل الرمز    تمديد أجل اكتتاب التصريح النهائي للضريبة الجزافية الوحيدة    فتح تحقيقات محايدة لمساءلة الاحتلال الصهيوني على جرائمه    التقلبات الجوية عبر ولايات الوطن..تقديم يد المساعدة لأزيد من 200 شخص وإخراج 70 مركبة عالقة    اليوم الوطني للبلدية: سنة 2025 ستشهد إرساء نظام جديد لتسيير الجماعات المحلية تجسيدا للديمقراطية الحقيقية    بلومي يباشر عملية التأهيل ويقترب من العودة إلى الملاعب    رحلة بحث عن أوانٍ جديدة لشهر رمضان    ربات البيوت ينعشن حرفة صناعة المربى    ريان قلي يجدد عقده مع كوينز بارك رانجرز الإنجليزي    الجزائر رائدة في الطاقة والفلاحة والأشغال العمومية    35 % نسبة امتلاء السدود على المستوى الوطني    حزب العمال يسجل العديد من النقاط الايجابية في مشروعي قانوني البلدية والولاية    أمطار وثلوج في 26 ولاية    المولودية على بُعد نقطة من ربع النهائي    مرموش في السيتي    الرئيس يستقبل ثلاثة سفراء جدد    بلمهدي: هذا موعد أولى رحلات الحج    سكيكدة: تأكيد على أهمية الحفاظ على الذاكرة الوطنية تخليدا لبطولات رموز الثورة التحريرية المظفرة    مجلس الأمن الدولي : الدبلوماسية الجزائرية تنجح في حماية الأصول الليبية المجمدة    الأونروا: 4 آلاف شاحنة مساعدات جاهزة لدخول غزة    اقرار تدابير جبائية للصناعة السينماتوغرافية في الجزائر    وزير الاتصال يعزّي في وفاة محمد حاج حمو    رقمنة 90 % من ملفات المرضى    قتيل وستة جرحى في حادثي مرور خلال يومين    تعيين حكم موزمبيقي لإدارة اللقاء    بلمهدي يزور المجاهدين وأرامل وأبناء الشهداء بالبقاع المقدّسة    جائزة لجنة التحكيم ل''فرانز فانون" زحزاح    فكر وفنون وعرفان بمن سبقوا، وحضور قارٌّ لغزة    المتحور XEC سريع الانتشار والإجراءات الوقائية ضرورة    بلمهدي يوقع على اتفاقية الحج    تسليط الضوء على عمق التراث الجزائري وثراء مكوناته    كيف تستعد لرمضان من رجب؟    ثلاث أسباب تكتب لك التوفيق والنجاح في عملك    الأوزاعي.. فقيه أهل الشام    نحو طبع كتاب الأربعين النووية بلغة البرايل    انطلاق قراءة كتاب صحيح البخاري وموطأ الإمام مالك عبر مساجد الوطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شاي جزائري.. بالنعناع.. هل كان حلماً.. ما رأيتْ؟!
نشر في الجزائر نيوز يوم 19 - 11 - 2012

لكني رأيتُ مدينةً بيضاءَ، كَحَّلَََت نوافذَهَا بالزُرقة، تنحني بها جبالُهَا نَحوَ شواطئ اللازرود.. لترفعها بأجنحةِ النوارسِ نحو الأعالي.
ورأيتُ امرأةً.. لها شعرٌ أسودَ، وبعينينِ سوداوين، ثٌمَّ رنَّت ضحكاتُهًا الفاتنةُ في أُذًنَيّ.
أن ترى مدينةً قبل أن تراها، وتعرفَ امرأةً قبل أن تلقاها، ثُمَّ تُغمضَ عينيكَ مُسترخياً على مقعدِ الطائرة، لتفتحَ أجفانك في المطار.. فتظنُّ الحلمَ قد صارَ بين يديك:
أهلاً بكم في الجزائر.
قالها شرطيُّ المطار وهو يتأمَّلُ جَوَازَ سفري.
كم شرطياً.. سيتفحصه، لِيُطابق وجهي مع ظلّهِ في الصورة؟! وكُنَّا نَحمِلُ في أيدينا أقنعةً لنستحضِرَ بها أرواحَ أشخاصٍ ونتقمَّصَ أجسادَهَا في أجسادِنَا.
ما أن عَبَرتُ أولَ حاجزٍ وفي يدي جوازُ سفري، ومن خلفي أفرادُ الفرقة المسرحيّة، حتى رأيتُ، ما كنتُ قد رأيت.
كانت واقفةً قُربَ باب الصالةِ، تُلََوِّحُ بورقةٍ مطبوعةٍ بين أصابعها، ترفعها فوق الرؤوس.. لنراها:
(المهرجان الوطني للمسرح الجزائري)
وفي السطر الثاني:
(الوفد المسرحي السوري)
تركتُ حقائبي تركض ورائي.. ومضيتُ نحو الصَبِيَةِ، أُطَابِقُ صورتَها مع ما تبقَّى من ملامحها في ذاكَ الحلمِ البرتقالي.
خطوتان.. فحسبُ حتى صرتُ قِبَالتها؛ كفّتْ عن التلويح بورقتها، انسدلتْ بها يداها وهي تتأمل ذاك الوجه القادم إليها مُتخفياً وراءَ قناعٍ مسرحيّ.
بقيتْ تُداري دهشتها حتى أسدلتُ القناعَ عن وجهي، سألتني:
أين بقية الوفد؟
أنا الوفد كلُّه!
ابتسمت: سافا.. ورئيس الوفد؟
أنا رئيسُهُ، وأنا أفراده، وكما أنتِ في انتظارنا، نحن أيضاً في انتظارك.
لماذا لم أقل: أنا أيضاً في انتظاركِ.. لا أدري؟!
لكنَّها تفادت أيَّ تعليقٍ وهي تنظر في جدولٍ بأسمائنا حتى كادت تختبئ وراءه، ثُمَّ وضعتْ إصبعها قرب أول اسمٍ في الجدول:
هذا اسمك.. صحيح؟
تحلق أعضاء الفرقة المسرحية حولي، قَدَّمتُهَا لهم:
هاجر.. من المسرح الوطني الجزائري.
اتسعتْ حدقتاها وهي تُسَلِّم على مجموعتنا المسرحيَّة، وحين صعدنا إلى الحافلة جلست بجانبي لتسألني:
كيف عرفت اسمي؟!
رأيتكُ في حلمٍ خاطفٍ قبل مجيئي.
وأنا رأيتُ حلماً هذا الصباح!
ماذا رأيتِ؟
بل.. ماذا رأيتَ؟!
كان عليَّ أن أروي لها حلمي خلال طريقنا من المطار إلى مركز العاصمة، فلمَّا انتهيتُ.. نهضتْ فجأةً لِتُوَزِّعَ علينا بطاقاتِ التعريف، عَلَّقناها حول رقابنا، بدأت ملامحُ الجزائرِ العاصمة تتبدَّى لي من نافذة الحافلة.. مدينةً بيضاءَ كَحلت نوافذها بزرقة البحر؛ ومن حولها.. الجبالُ الراسياتُ الشامخات.
أشارت هاجر بإصبعها:
هناك على القِمَّة.. نُصبُ الشهيد.
دخلنا بلد المليون شهيد.. آمنين.
وحين نزلنا من الحافلة لم يتسنَّ لي أن أسألَ هاجرَ عن حلمها، أو يُتَاحَ لها وقتٌ.. لترويه.
دخلنا صالةَ المسرح.. كان الحفلُ الافتتاحي قد بدأ قبل ربع ساعة، وجدنا أماكننا التي حجزتها لنا، أجلستنا ثم جلست معنا في آخرِ كرسي، بيني وبينها خمسة عشر قناعاً يسترخي بين أحضاننا، رحَّبت بنا مُذيعةُ الحفل، رفعنا أقنعتنا مُلَوِّحينَ بها وسط التصفيق.
* ما قبل حلم هاجر
جواز سفري بين يدي، أو.. في جيب قميصي.
يُوقفنا حَاجِزٌ أمنيٌّ فأنسله لأعطيه / يبتسم الشرطي، أو رجل الأمن:
إنت من سوريا.. أهلاً وسهلاً.
يقولها من قلبه، وأيضاً.. ليتأكَّد من لهجتي بغريزته الأمنيَّة، أُجيبه بلهجةٍ شاميّةٍ مَحْضة:
يا أهلين ويا سهلين.
مررنا بذات العاصفة الإرهابية قبل عقدين من الزمان، وكُنَّا نجزع من نسيانِ بطاقة هُوِيَّتنا في البيت إذا كُنَّا خارجه، حتى في وضح النهار.
قبل أسبوعين من مجيئنا إلى الجزائر، استهدفت سيارةٌ مُفَخَخَةٌ دارَ الحكومة.. في عِزِّ احتفالِ المدينة بكونها عاصمةً للثقافة العربية.
الثقافة العربية هي أيضاً.. في مواجهة ثقافة العُنف والتعصُّب والارتداد الجاهليِّ نحو الإثنيَّة والقبليَّة والطائفيَّة.
مدّتْ صحفيةٌ جزائريةٌ يدها نحوي:
فلانة بنت فلان.. أمازيغية.
قلت لها:
الجزائر بالنسبة لنا في برِّ الشام هي عبد القادر الجزائري، والمليون شهيد.. أمازيغي وعربي وطوارقي وقبايلي.. الذين تابعوا مسيرته.
وحين جلسنا قبل موعد العرض في الكافتيريا المجاورة للمسرح، تابعتُ مُدَاعِباً إياَّها:
جمالكِ يَمَنِيٌّ، شَعركِ جدائلُ سبأ، عيناكِ حضرموتيتان.
شكون؟.
رشفتُ من كأس الشاي بالنعناع؛ ثم تابعتُ وأنا أقفُ لألحقَ بالعرض المسرحيّ الفلسطينيّ:
أنتِ جزائريةٌ بالمواطنة، أمازيغيةُ الهوى، حضرموتيةٌ لِجِهَةِ اللغةِ الأمّ.
عند مدخل المسرح التقتني هاجر:
تأخرت!.
في رَنَّةِ صوتها.. عتابٌ رقيق.
كأنما يبدأ الحبُّ عند النساء... بالعَتَب!
أحسستُ وأنا أعبر معها الممرَّ إلى مقاعدنا.. أنًّي مُمتلئ بقصيدةٍ ، وأريدُ أن أخطفَ هاجر بها إلى غابةٍ قرب البحر، لأُنشدها.. لها وحدها.. دونَ النساءِ جميعِهِنّ.
النساء شِعرٌ، ونحن الرجالُ.. قصائدَهُنّ.
كلَّما خرجنا من عرضٍ مسرحيٍّ ، وجدنا الجزائرَ العاصمة غارقةً في النوم، الشوارعُ شِبهُ خاليةٍ، ينقطع ضجيجُ اليومِ كُلِّهِ عند الثامنة مساءً، المحلات تُغلَقُ ويلوذ المارَّةُ ببيوتهم، لتبدأ الحواجز الأمنيَّةُ المُتنقلةُ بالظهور.
ماذا أفعل.. يبدأ ليلي عادةً بعد منتصف الليل، هاجر ستذهب إلى بيتها؛ وسأكون وحيداً وسط من حولي في مطعم الفندق على طاولات العشاء الأخير.
لكلِّ مدينةٍ ليلُهَا.. حتى لو كانت تلهثُ بالحواجز وتَكُحّ.
مدينةٌ بلا ليلٍ.. كامرأةٍ بلا رجلٍ ينتظر أن تفكَّ ضفائرها السود فوق مَخَدَّةِ نهاره.
حسناً.. في جيبي جواز سفري، أنسربُ من الفندق وحدي، أتجاوز حاجزه الأمني، أقف طويلاً عند مدخله لأُوقِفَ سيارة (طاكسي) كما يلفظها الجزائريون، يسألني السائق:
كيف نهبط؟!
أسترخي في المقعد الخلفي:
خذني إلى ليل العاصمة.
نهاري كلُّهُ.. هاجر، حتى أًُكابِدَ في الليل وحدتي.
لم تروِ لي حُلمها.. بعد.
وأنا لا أكاد أنامُ ساعتين ما بين ليلي ونهارها حتى تكونَ في بهوِ الفندق.. بكُحلٍ جديدٍ تحت رموشها وبظلٍّ أزرقَ يوماً، ورديٍّ، أو.. أخضرَ فوق الجفنين.
تكتحلُ المرأةُ لنفسها تارةً، أو.. لأحدٍ يعنيها وتعنيه.
نذهب جماعةً نحو الفطور، يُطالبني أعضاء الفرقة بالخروج من هذا الروتين اليوميّ: تَسَوَّقنا تمراً ونبيذاً بما فيه الكفاية، عرفنا الأسواق كلَّها.
التفتُّ نحو عبد الله سائق حافلتنا، أهمس له:
لديكم شاطئٌ رمليٌّ تلتقي فيه الغابات بالبحر؟
وي.
خُذنا إليه.
حين عانقت أقدامُنَا الرملَ، تخفَّفنا جميعاً من أوزاننا، ومن ثيابنا، ركضنا، انسربنا في البحر.. أسماكاً ودلافين.
حاجزٌ ما.. يمنع هاجر من ارتداء ثياب البحر ومشاركتنا لهونا في البحر وسباحتنا فيه.. تظلُّ على الشاطئ ترمقنا بعينين حزينتين.
ما أكثرَ الحواجزَ.. في كلِّ بلادنا!
أعود نحوها مغتسلاً بحنينٍ أبديٍّ، أمدُّ يدي لأخطفها من حواجزها، نمشي.. فيمشي ظِلُّنا أمامنا، ونمشي.. لنتركَ ما نتوهمُ أنَّ آثارَ أقدامنا لن يمحوها مدُّ الأمواج.. ولو بعدَ حِين.
ما بيننا.. خَفْقُ أجنحةِ النوارس، هَمْهمةُ الموج، يندسُّ هواءُ الغابات بيننا، كما لو أنَّه يلوذ بنا، كما لو أنَّنا نلوذ به.
لا نَنبِسُ بأيَّة كلمةٍ، كأننا لا نريد لهذه الموسيقا أن تلتاثَ بالحروف.
الصمتُ أيضاً.. حرفٌ؛ نسيت الأبجديات أن تُدَوِّنَه.
نَجِدُ كومةَ حطبٍ ما بين الغابة وشاطئها، جثونا... قرّّبتُ نارَ الولاعة الشحيح، بدأنا.. أنا وهاجر ننفخ على شِبهِ لسانٍ من لهب، نفخنا حتى بدأت طقطقةٌ تسري في الخشب، ثم انداحت نارُنَا.. فيه، انجذبَ كلُّ أفرادِ فرقتنا من مائهم نحوها.. كأنَّهم فراشات الليل، فلما تجمَّعوا حولها تسامت فوق رؤوسهم أجمعين.. تذكَّرتُ أقنعتنا المسرحيّة المرصوصة في المقعد الأخير للحافلة، أذهبُ أنا والسائق لنعودَ بها، نرتديها أو.. ترتدينا ، قناعُ عناة.. لها، قناع بعل.. لي، نُغنِّي أغنيةً شاميّةً، تُغنِّي هاجر لنا.. ونَرُدُّ وراءها بلهجةٍ جزائريةٍ غيرِ مُتقنة، ، أخطفُ أصابعَ هاجرَ من أصابعها، أبدأُ معها الدورانَ، يُكمِلُ بقيَّتُنا أقواسَ الدائرة، نرقصُ حولَ النارِ مثلَ أقوامِ الأقدمين. نلهثُ بضحكاتنا، نتعرَّقُ مثل شقائق النعمان حين يلثمها الصباح من شفتيها،نكادُ نطيرُ كلما تسامت النارُ نحو أثيرها، تتطاير خُصُلاتُ شعرها، يسبح نهداها في هواء رئتينا، يتلوَّى خصرها، تتمايل أقواسُ أنوثتها.
أخيراً.. جلستْ النار في رمادها، جلسنا.
لم نكد نسترخي حتى صاحَ بنا صاحب الحطب/ أو حطَّابه:
شكون.. يا دين الرب؟!
ولا يهمَّك، سنعوضك بغاباتٍ من الحطب.
أدسُّ له الدنانيرَ في جيبه:
لديك شاي بالنعناع للعطاش السوريين.. اسقِ العطاش تَكرَُّما.
يأتينا بإبريقٍ يدسُّهُ في الجمر، وبكاساتٍ، وبربطةِ نعناعٍ طازجة.
نرشف الشاي.. يشدو الحطَّابُ بأغنيةٍ عن صيَّادٍ (حَوَّات) أتعبه البحر، ثُمَّ ألقاه في أبعدِ غابة، وحين استفاقَ.. وَجَدَ فأساً عتيقةً بجانبه، ليس لها أحدٌ.. سِوَاه.
تتكئ هاجرُ برأسها على كتفي خلالَ غنائِهِ، أسألها هامساً:
بماذا حلمتِ؟!
فلا .. تُجِيب!!
* القفز فوق الحواجز
كلَّما استفقتُ.. أفتحُ ستائرَ غرفتي في الطابقِ التاسعِ من فندق الأوراسي، أفتحُ بابَ الشُرفة لأستقبلَ المدينةَ وجبالها وبحرها..
أسحبُ مقعداً إلى الشرفة، يأتيني النادلُ بفنجانِ قهوتي الصباحيّ، فأتقاسمُ معه علبة بسكويتٍ سوريٍّ مُغطّسٍ بالشوكولا في كلَّ مرَّة.
هذه المرَّة.. لم أكد أضعُ المقعد حتى رنَّ جرسُ الباب، عبرتُ الغرفةَ وفي ظنِّي أنَّ النادلَ قد فاجأني بالقهوة قبل أن أطلبها.. فتحتُ الباب:
صباح الخير.
وقبل أن أُجيب.. اندفعتْ رائحةُ الخُزَامَى إلى غرفتي، عَبَرَ البابَ نيزكٌ فَمَسَّني ضوءُهُ، بللتْ قدميَّ الجداول.
مددتُ رأسي خارجَ الغرفةِ استطلعُ الممرَّ كُلَّه حتى المصاعد، أقفلتُ البابَ ورائي، استندتُ إليه.. رأيتُ هاجرَ في منتصف ِغرفتي.. حائرةً بعد اندفاعها.. لا تعرفُ أين تَقِفُ، لا تدري أين تستقرّ، سمعتُ قلبها.. يُتَكتِكُ؛ بدأ وجهها يتعرَّقُ بِحُبيَباتٍ من ماءٍ شفيف:
يا صباح الفلّ والياسمين.
كيف أَمكنها أن تعبرَ الحواجزَ كُلّها.. لتصعدَ إليّ.
طيلةَ خمسة عشر يوماً الماضيات، كانت تنتظرنا في بهوِ الفندق، أو.. في صالة الإفطار، وحين دعتها زميلاتنا في الفرقة إلى غرفتهنَّ.. اعتذرت:
ليس مسموحاً لنا الصعودُ نحو الغُرَف.
طلبتُ فنجانَيّ قهوة، حملتُ مقعداً آخرَ إلى الشُرفة، تبعتني.. لم تجلس، بقيت تتأمَّلُ المشهدَ البانوراميَّ لمدينتها وكأنها تراهُ.. لأولِ مرَّة.
دُقَّ جرسُ الغرفةِ، أسدلتُ ستائرَ الشرفةِ ورائي، فتحتُ البابَ للنادلِ، قلتُ له:
نفذ كلُّ مخزوني الإستراتيجيّ من البسكويت.
قال ضاحكاً وهو يَزلِقُ الصينيَّة على الطاولة ويسحب من تحتها شيئاً:
لا باس .. لا باس عليك.
ناولني صندوقاً من “الدقلة" التمر الجزائري:
أعرفُ أنكَ ستسافرُ غداً.
شَكَرتُهُ.. لولا أنها هنا, لما شربتُ قهوتي إلا معه.
وحين غادرني، أعدتُ فتحَ الستائر، مضيتُ بالقهوة والماء والتمر نحو الشُرفة.
ناولتها حبَّةَ تمرٍ لأراها كيف ستأخذها بإصبعينِ وبين شفتينِ، تأمَّلتُهَا وهي ترشفُ الماءَ من كأسها حتى آخره.. كأنها عبرتْ صحراءً إليّ:
صحَّة على قلبِك.
رشفتُ من قهوتي، نظرتُ في عينيها طويلاً فهربتا نحو البحر المُمتدِّ أمامنا:
- هاجر... بماذا حلمتِ؟
بدل أن تردَّ.. سألتني:
كيف نحكي عن حلمٍ قبل انتهاءِ منامه؟!
ثم سألتني:
لماذا جئتَ.. لماذا تُغادرني؟
التقطتُ أصابِعَهَا بين يديَ، ربَّما.. لأُُوقِفَ اندياحَ الأسئلة، ربَّما .كذريعةٍ.. لألمسَ رهافتها، وأُطِبْطِبَ على قلقها الداخليّ.. انخطفَ نورسٌ بيننا، تابعناه.. فارداً جناحيه، مُكمِلاً دورةَ طيرانِهِ نحو البحر.. والسماء ما بينَ صحوٍ وغيم، لا تكاد تعبرهُ الشمسُ حتى تختفي.
لم نكد نُكمِلُ قهوتنا حتى لامَسَ الغيمُ جبهةَ الجبال، وحين مَسَّتهُ الغاباتُ.. انهمر.
* ما بعد حلم هاجر
عادت بنا حقائبُنَا نحو.. المطار.
رافقتنا هاجر كما لو أنَّها تستقبلنا من جديد، وزَّعتْ على أفرادِ الفرقة عناوينها.. وتجاهلتني.
جلستُ أرشفُ شاياً بالنعناع في الكافتريا وأنا أتأمَّلُها .. تنتقلُ كفراشةٍ بيننا، سوى أنها لم تَدنُ منِّي، قالت لجميعنا من غيرِ أن تَخُصَّّني بنظرةٍ:
أكرهُ لحظات الوداع، أسمعوني كلَّ النكات الحمصيَّة.. دفعةً واحدة.
توالت النكاتُ من حولها، رنَّت ضحكاتها الفاتنةُ في أذنيّ.
وقبل أن يخطفني آخرُ حاجز:
هاجر.. بماذا حلمتِ؟!
كأنَّها همست بشيءٍ لم أسمعهُ وسطَ هذا الضجيج.
ابتلعتني إجراءات المغادرة قبل أن ألتفتَ نحوها لآخرِ مرَّةٍ.. لم ترفع يداً، لم تُلوِّح لي.
عادةً.. لا يفهمُ الرجلُ أحلامَ المرأةِ حتى يُغَادِرَهَا، أو.. تُغَادِرَه!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.