من مقتضيات الانتماء الإفريقي للجزائر تبني قضايا القارة على مختلف الأصعدة، وبالنظر إلى المكانة الجيواستراتيجية والإمكانات التي تتوفر عليها الجزائر، فإن ذلك كله يفرض على الدبلوماسية الجزائرية بذل جهود مضاعفة في سبيل تأكيد الحضور الفعال والأداء الدبلوماسي المتميز، من أجل تحقيق مكاسب تعكس القدرات التي تمتلكها الجزائر وتخدم مصالحها وقضاياها، وتأكيد الدور الإيجابي لها على المستوى القاري. تشهد الدبلوماسية الجزائرية منذ سنة 2003 (تاريخ بدأ أول عملية إرهابية في منطقة الساحل)، حراكا موسعا في ظل التطورات الأمنية التي تعيشها منطقة شمال مالي، بعد سيطرة حركة “التوحيد والجهاد" ومايعرف بتنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" على عدة مناطق كانت تحت سلطة حركة الأزواد. ويرى كثير من المحللين أن الجزائر تتعامل وفق استراتيجية محكمة لإيجاد حل لأزمة شمال مالي بعيدا عن طبول الحرب التي تدقها دول “الإكواس" بإيعاز من أطراف دولية معينة وعلى رأسها فرنسا، حيث يرى الكثير من المتتبعين أن الدبلوماسية الجزائرية تسعى إلى إيجاد حل للأزمة المالية من خلال ثلاثة محاور أساسية يتقدمها الحل السلمي الداخلي دون أي تدخل أجنبي، حيث ترى الجزائر أن أي تدخل أجنبي تهديد لأمن واستقرار الجزائر، وهو ما جاء عل لسان رئيس الوزراء سابقا أحمد أويحيى، في حوار مع جريدة “لوماند" الفرنسية عندما قال “أي تدخل أجنبي في مالي، سيمثل تهديدا أمنيا مباشرا للجزائر"، وهو الكلام نفسه، الذي ذهب إليه عبد القادر مساهل الوزير المنتدب المكلف بالشؤون المغاربية والإفريقية، الذي قال بشكل واضح “الوحدة الترابية لمالي غير قابلة للتفاوض". وركز على مبدأ التفاوض لحل أزمة الشمال “الحل السياسي التفاوضي ممكن لمعالجة الأزمة في مالي، فلطالما فضلنا الحل السياسي فنحن نؤمن بفوائد الحوار وفي الملف الخاص بالوضع في مالي كل المؤشرات تبعث على الاعتقاد بأن الحل السياسي التفاوضي ممكن ونحن نعمل في هذا الإتجاه"، حيث تركز الدبلوماسية الجزائرية على الحوار المباشر مع جميع الأطراف الفاعلة في الأزمة، وهو ما تجسده الزيارة الرسمية لرئيس الحكومة المالية خلال الأسبوع المنصرم، وزيارة وزير خارجيته هذا الأسبوع، والاستقبال غير المعلن لوفد من حركة أنصار الدين إحدى الجماعات المسلحة في شمال مالي، إضافة إلى مجموعة من وفود رسمية إفريقية لدول الجوار، وهو ما جسد قوة وفاعلية الجزائر في حل أزمة مالي. يرى الكثير من الاستراتيجيين أن أهم محور ستركز عليه الدبلوماسية الجزائرية هو استبعاد أي تدخل أجنبي في شمال مالي خاصة أن منطقة الساحل تعرف أنها ساحة للتنافس الإستراتيجي العالمي خصوصا الأمريكي والفرنسي، فالجزائر رفضت من قبل إيواء القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم" بل وسعت لإقناع دول إفريقية بعدم إيوائها، ومن هنا تأتي أهمية التنسيق الأمني المحلي، بين الدول المعنية فقط دون غيرها وهو ما تحاول الجزائر القيام به لتجنب أي وجود أجنبي مهما كانت طبيعته في منطقة جد حساسة للجزائر، التي ترى أن التدخل الأجنبي سيوسع رقعة التهديدات الأمنية وسيضاعف من الأزمة. حيث تتخذه الجماعات الجهادية المتشددة غطاء لإضفاء الشرعية على أعمالها وجلب الجهاديين للمنطقة من كل أنحاء العالم، وبالتالي فإن خصوصية الجزائر تكمن في اضطلاعها بمهام مكافحة الإرهاب في الداخل، ويقينها أن التدخل الأجنبي إنما يغذي الأزمات ولايجد لها حلا، لذلك فإن التحرك الجزائري يبدو محكوما بإحترام سيادة الدول ووحدتها الترابية، وقد حرصت الجزائر منذ سنوات على أن تكون وساطتها الدبلوماسية محكومة بمبدأ احترام الوحدة الترابية للجوار والحل عن طريق الحوار المباشر مع جميع الأطراف، وهو الحل الذي تركز عليه دبلوماسيتها لوقف الخطر القادم من شمال مالي. فالإرهاب يمكن أن يكون عبر حدودي كما هو الحال في الساحل الإفريقي الذي بدأت فيه أول عملية إرهابية في 2003، التي كانت منذ البداية في مركز اهتمام الغرب من خلال مبادرات أمريكية (أفريكوم) كآلية أساسية في إدارة المناورات الدورية والمنتظمة بين قوات من دول الساحل وقوات أمريكية، وهي مناورات تجري عادة في البلدان المطلة على الصحراء الكبرى حيث مسرح عمليات “القاعدة"، ويمكن اعتبار هذ التقليد، إحدى ثمار أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، التي قررت الإدارة الأمريكية في أعقابها شن حرب وقائية على الإرهاب، “فأحداث 11 سبتمبر" أفضت إلى تسليط الأنظار على طبيعة التهديدات الحقيقية التي تواجهها أمريكا، حيث تقول كوندوليزا رايس، في هذا الصدد، “إن تهديدات اليوم لا تتأتى من الجيوش الجرارة بمقدار ما تنبع من عصابات صغيرة ضبابية من الإرهابيين ولا تصدر عن دول قوية بمقدار ما تأتي من دول مفلسة حيث أنه لاشك بأن أمريكا بعد 11 سبتمبر تواجه تهديدا وجوديا لأمنها لايقل عن الحرب الأهلية أو الحرب الباردة. وفي سياق آخر، قالت إن الولاياتالمتحدة بوصفها الدولة الأقوى في العالم تقع على عاتقها مسؤولية العمل على جعل العالم أكثر أمنا حيث أنه ليس ثمة أي شرط أخلاقي أو حقوقي يلزم بلدا معينا بانتظار التعرض للهجوم قبل أن يصبح قادرا على التعامل مع تهديدات وجودية". وكذلك نجد مبادرات فرنسية ثنائية مع كل دول المنطقة وصولا مع تنامي الظاهرة في 2007 مع بروز القاعدة في المغرب الإسلامي إلى إنشاء تصور مشترك بريادة جزائرية في الوقت الذي كانت فيه دول منطقة الساحل والصحراء الإفريقية قطعت خطوة نوعية جديدة باتجاه توحيد جهودها لمواجهة الظاهرة “الإرهابية" وذلك بتنصيب قيادة عسكرية مشتركة تتولى التنسيق الأمني والاستخباراتي والعسكري بين الأجهزة المكلفة بمقاومة “الإرهاب" وملاحقة عناصر “القاعدة" في المنطقة والذين حوّلوا نشاطهم بشكل لافت نحو الصحاري الشاسعة مقتربين من السواحل الغربية لإفريقيا للتزود بالأسلحة عبر المحيط ودمج أنشطتهم بأنشطة مهربي المخدرات لتوفير الأموال، فضلا عن عمليات خطف الرهائن والحصول على الفدية، ويتمثل الهيكل الجديد في غرفة قيادة مصغرة للعمليات العسكرية تشترك فيها كل من الجزائر ومالي والنيجر وموريتانيا وتحمل اسم “لجنة الأركان العملياتية المشتركة"، وقد تمخضت عنها “خطة تمنراست"، التي تم الاتفاق عليها خلال اجتماع قادة جيوش الدول الأربع في 14 أوت 2009 والتي تضمنت قرارا مشتركا بإنشاء مركز قيادة للتنسيق الأمني والعسكري المشترك يكون مقره مدينة تمنراست الصحراوية الجزائرية، الذي ابتداء من 2010 تطور إلى تعاون عملياتي والذي تدعم بوحدة الاتصال والتواصل على المستوى الإستعلامي وأصبح يسمى بدول الميدان في 2011 (الجزائر، مالي، النيجر وموريتانيا) مع اعتراف دولي بإنشاء منطقة إقليمية للأمن. وخصوصا بعد تأكيد فرنسا على ضرورة التدخل العسكري في مالي وجعل الجزائر كقاعدة خلفية للهجوم، في حين أن الجزائر ترفض بتاتا استعمال أراضيها للهجوم على دولة حدودية ودولة عضو في الاتحاد الإفريقي خصوصا وأن الجزائر تتبنى شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وترفض رفضا قاطعا تدخل الجيش الجزائري في أي دولة في العالم. حيث أعلن مسؤولون جزائريون رفض الجزائر الكامل للمشاركة في عمليات عسكرية في مالي، بمواجهة المليشيات المتشددة التي سيطرت على الأجزاء الشمالية من البلاد، داعين إلى حل سياسي للوضع في الدولة المجاورة يقوم على “احترام حدودها". وقال وزير الداخلية والجماعات المحلية، دحو ولد قابلية، إن الجزائر “لن تشارك في أي تدخل عسكري وبأي شكل من الأشكال فوق التراب المالي"، وفقا لما نقلته عنه وكالة الأنباء الجزائرية. أما وزير الشؤون الخارجية، مراد مدلسي، فقال إن الوضع في مالي “يستدعي توحيد صفوف كل الماليين واحترام حدود هذا البلد وكذلك إيجاد حل سياسي لهذه الأزمة بدلا من الحل العسكري". ودعا مدلسي إلى ضرورة “تقديم الإعانات والوسائل العسكرية الرامية إلى إعادة هيكلة القوات المسلحة المالية"، واعتبر أن الحل العسكري الذي يعني دول المنطقة “يكمن في التجند لمكافحة ظاهرة الإرهاب مع احترام كل طرف للطرف الآخر"، على حد تعبيره. وكان قادة دول المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، “إيكواس" قد أقروا بإرسال قوة عسكرية إلى مالي بمهمة لمدة زمنية محدودة بهدف مساعدة القوات المحلية على استرجاع المناطق الشمالية الخاضعة لسيطرة جماعات مسلحة بعضها على صلة بتنظيمات متشددة، بعد اجتماع حضرته الجزائر. تظهر منطقة الساحل الإفريقي من بين أكثر المناطق في العالم التي تشهد حالة من الانهيار والانفلات الأمني أو حالة اللاأمن وما يخلفه من آثار سلبية على سكان المنطقة، حيث أصبحت المنطقة المصدر الأساسي لكثير من المشاكل التي ترتبط في الغالب بعدم توفر أدنى مستويات الحياة للأفراد، بالإضافة إلى غياب مفهوم الدولة وحالة الهشاشة والانكشاف الأمني والاقتصادي وخصوصا الاجتماعي الذي غالبا ما ينتج عنه أزمة هوية التي ينتج عنها تفكك المجتمع وبالتالي الدولة، مما يؤدي إلى ظهور الدولة الفاشلة أمنيا ومجتمعيا، وتعتبر الجزائر الامتداد الإفريقي لحدودها محورا استراتيجيا نظرا لثقل انعكاساته السلبية في حال عدم الاستقرار أو التهديد على الجناح الجنوبي لأمنها القومي الذي أصبح مهددا بقوة على خلفية حالة الانفلات الأمني في منطقة الساحل التي تهدد بطريقة مباشرة استقرار الأمن القومي الجزائري بمستوياته السبعة (الأمن المجتمعي، الاقتصادي، الثقافي، السياسي، العسكري، البيئي والصحي). *جامعي بن عائشة محمد الأمين* الأراء الواردة في هذه الصفحة لا تعبر بالضرورة عن رأي الجريدة