بدأ الحلم قبل عدة سنوات، حلم مزيج من الخيوط المرئية وغير المرئية، خيوط بلون الفضة الذائبة، السائلة، المترسبة كخيوط الرمل الصافي من بين أصابع اليد، ذو رائحة بنية المذاق، ذلك المذاق الذي يسكنك حتى النخاع، حتى العظم، يسري في شرايينك كالدم المجنون، في ديمومته ونبضه العامر بحرارة الحياة التواقة إلى لحظة الخلود السرمدي، الحلم كالمضغة في أحشاء والدتك ذات الوشم الأخضر الناضر على الجبين، يضج بالرنين الخفي، المزركش كموزاييك الطفولة التائهة في اخضرار الأيام الراكضة كالأحصنة الطيفية.. وأنت؟! تريد تذكر الحلم؟! يركبك أم تركبه وكأنك تركب صهوة جواد أبيض، أملس، أرعن، أهوج، ذي عيون حالكة، ولون أبيض، وصهيل غائر في الأعماق، أعماق الكلمات والمعاني وكل الدلالات التي رسمتك، ترسمك على محيا الزمن الرملي الموشوم بالمخاوف، والأفراح والأقراح.. أنت هناك.. سنوات غارقة في بئرك عميق الأغوار، المتدثر بالدجى والظلال الراقصة على وجه الأمواج شبه المتحركة وشبه الراكدة.. تصاعد من سراديب روحك وتلافيف ذاكرتك الأصداء، أصداء الألوان، والأصوات والموسيقى المنكسرة الضالة في براري وبيد أزمانك الصامتة الصاخبة بالأصحاب والصاحبات... كان الحلم العتيق، المتململ في أحضان ذاكرتك الغضة، حلم رحلة إلى بلد بعيد.. بلد يفوح منه شذى النبي، وروائح صحابته الأسطوريين.. أبو بكر الصاحب الأمين، ذو الملامح الهادئة، والصوت العميق، والقلب الطيب والوفاء الخارق للعادة... يأتيه محمد يبوح بما فيه، من خوف وقلق وتجربة كادت تهز كيانه وتقتلعه مما كان فيه وتربى عليه، هل تصدقني؟! كان هناك في الغار، صوت مجلجل ينزل من السماء، يدوي “إقرأ"، “ما أنا بقارئ.." يجيب ابن عبد الله.. من أين يأتي هذا الصوت المجلجل؟! ترتعد فرائسه، يتصبب عرقا حارا وكأنه الحمم، يتراقص أمام عينيه المرتعبتين وجه زوجته يفر إليها، بينما الحمى تسري في كل جسده الملتهب.. يتعاظم الصوت “اقرأ"، ويرد محمد “ما أنا بقارىء.." ثم ينثال الصوت الهادر.. هو صوت جبرائيل... «إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم كلا أن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية كلا لا تطعه واسجد واقترب.." زلزال؟! كادت قريش تفقد عقلها.. صرخوا في وجهه.. “أنت شاعر.. أنت ساحر.. أنت مجنون" نبي الله؟! هذا جنون.. هذا إفك، ردد سادة قريش.. كان العالم في لحظة تحول.. لحظة قطيعة رهيبة، موت عالم قديم، وميلاد عالم جديد.. رائحة الثورة، تجوب في كل البراري.. رمى بنفسه في أحضان خديجة.. لم يكن علي سوى فتى، غض العود.. هرع أقوام قريش إلى عمه، الرجل الحكيم، لكن محمد الأمين.. كان مصرا على رفع التحدي.. نظر إليه عمه وهو يدري ما كان ينتظره من محن... ما العمل؟! إنها الرسالة الربانية التي ستقلب كل الأشياء، ظل أبو بكر إلى جانب صديقه، محمد رسول الله.. التحق علي، التحقت عائشة، التحق بلال ذو البشرة السوداء، التحق عمار بن ياسر ووالديه، التحق عثمان، التحق عمه حمزة، التحق عمر بن الخطاب، وراحت الحلقة تتسع.. انقسمت قريش، دب صراع رهيب في أوساط القبيلة الأم.. كان على محمد أن يرحل، أن يترك خلفه مسقط الرأس، ورائحة تراب مكة.. أن يتخذ قرارا تاريخيا وحاسما.. وكانت الهجرة إلى الحبشة، حيث ملك لا يظلم عنده أحد.. وكانت أسماء ذات النطاقين، بنت صديقه أبي بكر الصديق تخرج تحت جنح الظلام متخفية، تحمل الطعام إلى حيث رسول الله وصديقه أبو بكر إلى غار ثور... يصبح رأس محمد أكثر المطلوبين لدى حكام قريش.. يفيض قلب أبي بكر بحزن وكآبة عميقين.. فينزل الوحي،.. “لا تحزن، إنا الله معنا..". كنت تتغذى من كل تلك الحكايات ذات القداسة المغمسة في حلمك النابض الغض الطري كلحمة.. كم مر على ذلك؟! فخمسون سنة بأكملها.. لم يكن عمرك يتجاوز الأربع سنوات.. كنت تجلس على الحصير حيث أخذك والدك لأول مرة إلى الجامع وأنت دامع العينين.. حاد الصوت.. كان الجامع يبعد عن منزلكم ببضعة أمتار فقط.. بيتكم كان يحمل رقم 22 شارع كريدر المسدود.. كان بيتكم مؤلفا من ست حجر يعلوها قرميد أحمر وأخضر باهت يميل إلى لون الحيرة.. وكان بيتكم يطل على شارعين متفرقين، شارع الطريق الفوقاني وشارع الطريق التحتاني، وكلا الشارعين كانا متربين وعامرين ببيوت حجرية متلاصقة ومتراصة.. حكايات عديدة لا تزال تسكنك بأشباحها وألوانها وأجسادها وروائحها العطرة العتيقة.. كان الجامع يقع على الطريق الفوقاني قرب حانوت الجزار عمو الشرقي ذو الجسم الممتلئ الفارع، والعينين البنيتين واللون الفاتح القمحي والفم المذهب والوجه الأملس.. وغير بعيد عن الجامع كان حانوت العم جيلالي والخالة عيشة، اللذين قدما منذ سنوات من مدينة تيطوان المغربية البربرية.. أما الزرقة، وقد سميت كذلك لعينيها الزرقاوين زوج عمو الشرقي، كانت غالبا ما تسألك وأنت مبعوث من طرف والدتك لابتياع اللحم عن السور التي حفظتها في الجامع على يد أخيها سي قدور الذي أخذ العلم على أيدي علماء وفقهاء جامع القرويين بالمغرب خلال عشرية الخمسينيات.. الزرقة.. كانت ساطعة الجمال، لم تكن ترتدي سوى حايكا ناصع البياض عندما كانت تغادر محل قصابتها.. عيناها الزرقاوان لامعتان.. بشرتها بيضاء ذات إغراء مثير لكل أولئك الرجال الذين كانوا يترددون عليها أمام مرأى زوجها الشرقي الذي كان خاليا من كل أثر الغيرة الزوجية... كانت الأصوات تتعالى وتتشابك وتزين في انسجام غريب وعجيب ورائع داخل الجامع الصغير ذي الجدران الزرقاء الفاتحة والنوافذ ذات القضبان الحديدية المطلة على شارع شاركو الكبير.. وكان سيدي قدور يجلس قبالتنا على صندوق أخضر مغطى بأقمشة صارخة الألوان.. يضع عمامة بيضاء على رأسه، ويرتدي عباءة صفراء، يحمل بيده اليمنى مشحاط طويل، وبالأخرى مسبحة خشبية بنية اللون... قصير القامة، ممتلئ الجسم، ذو سحنة تميل إلى السمرة الناضرة المشرقة، وصاحب لحية سوداء كثيفة وصوت جهوري يمنح للجامع جلاله وقداسته وروحه الخلابة.. كنا في الصباح نتجه إلى المغسل، حيث نقوم بمحو الآيات المخطوطة بالصلصال، لتتلوها آيات أخرى نكتبها بالقلم القصبي الذي نغمسه في المدواة.. وتلك الرائحة؟ ألا زالت تسكنك؟! أجل لازالت تسكنني وهي نائمة في أعماق أعماقي.. تصاعد إلى رأسي، إلى لحظاتي الراهنة، كلما هبت ريح ما، تشرعت لها أبواب ونوافذ روحي وذاكرتي.. وها أنا أجدني اللحظة أمامها عاريا، أراها وتراني، ألامسها وتلامسني، تأخذني وآخذها.. أرمي بها وترمي بي عبر كل هذه الأمواج من الأحاسيس والمشاعر والتذكرات المنسابة كاليعبوب الخافت والهادر في الوقت ذاته من قلب الصخور الراقدة في البراري الممتدة إلى عنق السماء.. منذ ثلاثة أشهر التقيت بالدكتور سامي بن عبد الله الصالح، سفير المملكة العربية السعودية بالجزائر بفندق الشيراطون على مائدة غداء وأخبرني بدعوته لي لزيارة المملكة رفقة إعلاميين جزائريين، وافقت على الدعوة في حينها.. وفي واقع الأمر كانت هذه الدعوة الثانية التي وجهها إلي سعادة السفير... وكانت الأولى منذ أربع سنوات عندما توجهت إلى الرياض لأدرس عن كثب واقع الجماعات الإسلامية الراديكالية وتجربة المملكة في مكافحة ما يسمى بالإرهاب الأصولي.. مرت على اللقاء أسابيع، لأكتشف أن جواز سفري قد انقضت مدته القانونية... غرقت في يومياتي التي تكاد لا تنقضي، ولم أتمكن من إعادة استخراج جواز سفري إلا في اللحظات الأخيرة.. اتصل بي يومها مدير جريدة “ليبرتي" اليومية الصادرة باللغة الفرنسية منذ التسعينيات، ليسألني، إن كنت حقا قد وافقت على الذهاب إلى المملكة العربية السعودية، أجبته أن نعم، لكن ثمة قلق يساورني، وهو جواز السفر الذي لم ينجز بعد... قال لي.. “إن كنت فعلا ستذهب، فأنا سأذهب.." وتساءلت بيني وبين نفسي، لماذا زميلي وصديقي عبروس تودارت كان مترددا ويبحث عن رفيق في رحلة إلى السعودية.. هل هي تلك الصورة النمطية التي حملها المثقفون الليبراليون المنفتحون على الغرب، وهي أن السعودية رمزا للأصولية والرجعية؟! ظل السؤال معلقا.. سؤال آخر قفز إلى ذهني.. أتكون رغبة السفير إزاحة تلك الصور المسبقة وذلك من خلال تعبيد الطريق إلى التعرف على وجه السعودية الجديد للمثقفين وقادة الرأي في الجزائر؟! تحصلت على جواز سفر جديد يوم 27 ديسمبر من العام 2012 من دائرة سيدي امحمد.. وكان ذلك اليوم، هو يوم عيد ميلادي الذي حصدت فيه من عمري ثلاثة وخمسين سنة.. كنت رفقة يوسف على متن سيارته، الذي قادني في قلب تلك الزحمة العاصمية إلى مقر الدائرة.. كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساء، انتظرت من مسؤول قسم الجوازات الذي كان متعاونا بشكل رائع أن يسلمني الجواز، وفي آخر لحظة سألني عن الطابع.. قلت له، ليس بحوزتي، وفي الأصل أنني لم أكن أدري أن الطابع ضروري... غادرت الدائرة ورحت رفقة يوسف، نبحث في المكتبات عن طابع جواز السفر.. لكن دون جدوى.. بحثنا في مراكز البريد، لكنها كلها كانت مقفلة.. أصابني يأس واستسلام ورحت أجر أذيالي وأنا كلي خيبة إلى مقر الدائرة من جديد حيث كان مسؤول قسم الجوازات في انتظاري.. قلت له، وأنا شبه يائس.. “معليش الله غالب.. سأشتريه غدا.." لكن فاجأني بأنه وجد لي طابع جواز سفر... لحظة انفراج وفرح.. كان علي بعدها، أن ألتقي بأصدقاء آخرين كنت على موعد معهم في مطعم زيدي.. أهدرت ساعتين بكاملهما.. اتصلت بي زوجتي، وسألتني إن كنت نسيت الاحتفال بعيد ميلادي وسط أفراد أسرتي.. طمأنتها “بالطبع لم أنس.. سوف أشتري بعض الأغراض، والتحق بكم..."، غادرت مطعم زيدي الكائن بشارع بيردو المحاذي لشارع ديدوش مراد.. اتجهت نحو شارع حسيبة بن بوعلي وفي الطريق وجدت صديقا لي في شجار مع كهل جاف وبدين، كانا خارجين لتوهما من حانة الفنانين... حاولت فض الاشتباك بينهما.. كان الوضع سيئا ومثيرا للحزن والتقزز.. التفّ الناس حولنا.. وعاد الرجل البدين على أعقابه... كنت متوترا ومتعبا إلى درجة الإنهاك.. وجدتني صامتا وحزينا إلى درجة الغضب الساكن... كانت ليلة بائسة وكدرة.. وبعد أيام تم الإتصال من جديد بيني وبين الدكتور سامي بن عبد الله الصالح، أكدت له قبولي الدعوة، وسألته بدوري عن تفاصيل برنامج الرحلة.. ثم طلبت منه إمكانية وضع قائمة أسماء خاصة بي للقاء معها.. قال لي.. “أكيد بالطبع.. ثم إن الإخوة هناك، ينتظرونكم على أحر من الجمر...".. يتبع نص: احميدة عياشي ![if gt IE 6] ![endif]