كاتب ياسين، من مواليد أوت 1929، لم يكن فقط صاحب رائعة “نجمة" التي كانت بمثابة فتح جديد في الرواية المغاربية المكتوبة باللغة الفرنسية، ولم يكن فقط، صاحب الكتابات المسرحية الرائدة في الخمسينيات التي جعلته في مصاف الكتاب العالميين مثل “الجثة المطوقة" و«الأجداد يزدادون ضراوة"، بل كان أيضا ذلك الكاتب الرحالة الذي جاب العالم من فيتنام، إلى مكة إلى بلد القوقاز.. كان مسكونا هو الآخر بابن بطولة.. من 6 إلى 10 جوان 1965، يكتب “ريسي" نصا متألقا عن ابن بطولة ورحلته ويصفه بالمغاربي التائه... ابن بطوطة؟! هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن ابراهيم اللواتي ثم الطنجي المعروف بابن بطوطة.. تمر الآن أكثر من سبعة قرون على رحلته التي كان ينوي فيها زيارة مكة والبقاع المقدسة.. كان ذلك في 14 جوان 1325، غادر مسقط رأسه طنجة، اتخذ طريقه عبر السواحل الجزائرية، ليحط الرحال بصفاقس بتونس حيث يتزوج هناك، ثم يطلق زوجته بليبيا بعد أن دب خلاف بينه وبين صهره، ويواصل طريقه باتجاه مصر وسوريا.. يروي ابن بطوطة “كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر الله رجب الفرد عام خمسة وعشرين وسبعمائة، معتمدا حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، منفردا عن رفيق آنس بصبحته، وراكب أكون في جملته لباعث على النفس شديد العزائم وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة. فحزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور. وكان والدي بقيد الحياة، فتحملت لبعدهما وصبا (المرض والفتور في البدن) ولقيت كما لقيا من الفراق نصبا وسني يومئذ اثنتان وعشرون سنة". ابن بطوطة؟! هذا الرحالة الذي حاصرني في يم الحلم المشدود إلى السماء وبين أمواج التذكر السحيق، يظهر من جديد يا الله.. كان قد مر علي أسبوع يكاد يكون كاملا في الرياض، ثم اتجهت رفقة زملائي من الإعلاميين الجزائريين إلى مدينة الدمام الجميلة بالمنطقة الشرقية مرتع الشيعة والأجانب الغربيين.. أجل ظهر كاللحظة المتدفقة والمفاجئة من أعماق رماد الزمن التائه لما قادنا مرافقينا من قسم الإعلام الخارجي، منصور وماجد محمد سعود البابطين مدير عام فرع وزارة الإعلام والثقافة بالمنطقة الشرقية إلى مركز الأمير سلمان العلمي سايتك.. مركز ثقافي علمي متعدد علامة على انفتاح كبير على الحداثة.. داخل القبة السماوية، جلست وسط جمهور من الشباب.. وكان الفيلم المقدم عبر أحدث التكنولوجيا المرئية إيماكس، تدور أحداثه حول حياة ومغامرات الرحالة ابن بطوطة، تسقط المسافة بينك وبين ما يجري، يسقط الجدار.. تغزوك المشاهد لتكون جزءا منها.. لتكون في قلبها.. تتعدد المقاربات والرؤى.. أنت هناك، رفقة ابن بطوطة عبر أحدث الوسائل التقنية في رحلته، يداعبك في لحظة من اللحظات دوار خفي، تفقد انتماءك إلى المكان الثابت حيث تجلس أنت داخل الشاشة، داخل هذا الفضاء المخترق للأمكنة والأزمنة.. يتحول جسمك إلى لحظة طائفة.. تصعد إلى السماء، وابن بطوطة أمام مرأى العين ينظر إليك، تنظر إليه بينما الصحراء تمتد إلى ما لا نهاية.. يتماوج الرمل الأصفر.. تنبعث الشمس الحارقة من الأفق البعيد.. ها أنت وسط القافلة المتوجهة عبر الكثبان تارة، وعبر الجبال الصخرية تارة أخرى، يتناهى إليك صوت ابن بطوطة وهو يقول “تركت بيتي وأهلي، لا أعلم إن كنت سأراهم مرة أخرى..." ثم يتجدد الصوت المبلل بالحزن والكآبة والأسى والمتدثر بلوعة الوحدة والغربة المفتوحة على كل المخاطر “المضي وحدي... نجوم تقودني.. شموس النهار ليلي..." يتهاوى الفاصل بينك وبين ابن بطوطة المكتسح جسد الصحراء الممتدة إلى نقطة تكاد تكون غارقة في لحظة المطلق والسرمدية... تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار يقول ابن بطوطة ذاك الذي كان يحب إلى درجة الوله الحياة الجميلة والنساء “... ثم خرجنا من مدينة قابس قاصدين طرابلس، وصحبنا في بعض المراحل إليها نحو مائة فارس أو يزيد، وكان بالركب قوم رماة فهابتهم العرب، وتحامت مكانهم، وعصمنا الله منهم، وأظلنا عيد الأضحى في بعض تلك المراحل، وفي الرابع بعده وصلنا إلى مدينة طرابلس، فأقمنا بها مدة وكنت عقدت بصفاقس على بنت لبعض أمناء تونس.. فبنيت عليها بطرابلس، ثم خرجت من طرابلس، ومعي أهلي وفي صحبتي جماعة من المصامدة.. وأقام الركب في طرابلس خوفا من البرد والمطر، وتجاوزنا مسلاتة ومصراتة وقصور سرت.. وهناك أرادت طوائف العرب الإيقاع بنا ثم صرفتهم القدرة، وحالت دون ما راموه من أذيتنا ثم توسطنا الغابة، وتجاوزناها إلى قصر برصيصا العابد إلى قبة سلام، وأدركنا هنالك الركب الذين تخلفوا بطرابلس، ووقعت بيني وبين صهري مشاجرة أوجبت فراق ابنته وتزوجت بنتا لبعض طلبة فاس وبنيت بها بقصر الزعافية، وأولمت وليمة حبست لها الركب يوما وأطعمتهم ثم وصلنا إلى الإسكندرية..". مشهد رهيب، تفقد القاعة هويتها وملامحها.. غارقون نحن في ظلام دامس، تحاصرنا العواصف الهائجة والثائرة من كل مكان.. تكاد القافلة تعصف بها الرياح الهوجاء... وجه ابن بطوطة يكاد يقلع من جسمه... الإبل والأحصنة ضائعة في قلب هذه الثورة الرملية المتعالية والمنتشرة كالقدر القادر... شعرت بالدوار للحظات، أغمضت عيني، ثم فتحتهما.. السماء غارقة في دكانة صماء... اختفت الشمس، واختفت العلامات الدالة على الطريق... صهيل الجياد ورغاء النوق والجمال... فقدت توازني، أهذا الذي يلفني ويرمي بي إلى الوهاد والوديان والدروب الوعرة ينبعث من تيه الزمان الكامن في أعماقي، أم من تلك القدرة السحرية لسلطة التقانة العجيبة المدمرة والخلاقة في الوقت نفسه... نصل إلى الإسكندرية.. تهدأ العاصفة ويندثر الهلع وتختفي لحظات الخوف والفزع.. تحفة النظار... «... ولمدينة الإسكندرية أربع أبواب باب السدرة وإليه يشرع طريق المغرب، وباب رشيد، وباب البحر، والباب الأخضر وليس يفتح إلا يوم الجمعة، فيخرج الناس منه إلى زيارة القبور، ولها المرسى العظيم الشأن، ولم أر في مراسي الدنيا مثله، إلا ما كان من مرسى كوالم وقاليقوط ببلاد الهند، ومرسى الكفار بسرادق ببلاد الترك، ومرسى الزيتون ببلاد الصين.." ثم ها هو وحيدا.. في الصحراء، تحت عيون النجوم السيارة وحيدا.. يتذكر، مسقط الرأس.. يتذكر الأهل... يتذكر الزوجة يتذكر الأصحاب والخلان... يقود الشوق العارم إلى معانقة روح إبراهيم هناك.. إلى التذلل تحت أقدام رب الكعبة، رب الحجر الأسود... من السماء تتهاطل نسائم تسري في مفاصل الجسد، كما تسري ريح الإيمان في شرايين القلب والروح... يلتفت يسرة.. يلتفت يمنة وإذا به، محاصر... يطرح أرضا... إنهم الأعراب... إنهم قطاع الطرق... يجد نفسه وحيدا، مرمى في قلب الصحراء.. أخذوا منه كل ما كان يملك... سلبوه، كل شيء... لم يقنط من رحمة الله... ذلك الشخص العارف بأهوال الصحراء نزل عليه كما ليلة القدر.. كان رفيق الدرب الذي بعث به إليه الله حتى يرى... ها هو، هنا، بعد سير طويل... بعد مشقة عتيدة، يصل إلى المدينة... يصل إلى مكة.. يصل إلى حيث انبلج حامل النور الرباني، محمد (ص)... تحفة النظار... “مكةالمكرمة... مدينة كبيرة متصلة البنيان مستطيلة، في بطن واد تحف به الجبال، فلا يراها قاصدها حتى يصل إليها.." يتراءى لي في الحلم، وجه جدتي مباركة بنت براشد من جديد وهي لا تتوقف عن الكلام، واصفة مكة التي رأت، وضجيج البيت الحرام التي رأت، والمدينة، المدينةالمنورة التي رأت... بينما النساء من حولها يصغين إليها وأيديهن مشدودة إلى شباك النبي.. «وتلك الجبال المطلة عليها ليست بمفرطة الشموخ، والأخشبان من جبالها هما أبي قبيس، وهو في جهة الجنوب والشرق منها، وجبل قعيقعان، وهو في جهة الغرب منها، وفي الشمال منها الجبل الأحمر، ومن جهة أبي قبيس أجياد الأكبر وأجياد الأصغر، وهما شعبان والخذرمة"، ثم تراءى لي وجه أبي محمد ووجه والدتي مهدية وهما عائدين من البقاع المقدسة، كان ذلك بعد سنوات طويلة على طيران جدتي إلى مكة.. لم أعد صبيا.. كنت في أوج الكهولة.. رافقت والدي إلى مسقط رأسي سيدي بلعباس.. وراحت الصور تتداخل بين زمن جدتي التي فارقت الحياة، حاملة معها تلك الفرحة النبوية وصور والدي وهما يتحدثان إلى الأقارب عن لحظاتهما هناك... اختفت السعودية كبلد، كأمة لتختزل في مخيالنا الجماعي في بلد الطواف ومدينة قبر النبي.. تحفة النظار: “والمسجد الحرام في وسط البلد، وهو متسع الساحة.. والكعبة العظمى في وسطه.. ومنظره بديع، ومرآه جميل، لا يتعاطى اللسان وصف بدائعه، ولا يحيط الواصف بحسن كماله، وارتفاع حيطانه نحو عشرين ذراعا، وسقفه على أعمدة طوال مصطفة ثلاثة صفوف، بأتقن صناعة وأجملها، وقد انتظمت بلاطاته الثلاثة انتظاما عجيبا كأنها بلاط واحد وعدد سواريه الرخامية أربعمائة وإحدى وتسعون سارية ما عدا الجصية التي في دار الندوة المزيدة في الحرم..". أتقلب في فراشي، أفتح عيني المتثاقلتين، أتفقد الساعة، تشير إلى الثالثة والنصف صباحا.. استسلم من جديد إلى غفوة عميقة لكنها مثقلة بالصور المتهاطلة والكثيفة... الجزائر تقفز من جديد، بفيض يعبوبها المجلجل الصاخب عشية غزو صدام حسين حاكم العراق البلد الصغير الكويت.. ينقلب صدام البعثي في أعين الجزائريين إلى بطل أسطوري، إلى صلاح الدين جديد، قائدا حربا مقدسة ضد الصليبيين الجدد... يومها كنت صحفيا ورئيس تحرير بأسبوعية المسار المغاربي.. الجزائر بإسلامييها ويسارييها وقومييها غارقة في شعبوية هادرة لا يعلو صوت على صوتها المتعاظم.. يركب الإسلاميون الراديكاليون من جبهة الإنقاذ موجة الشعبوية المجنونة، ينسون، يتناسون كراهيتهم للبعث، لصدام الذي كثيرا ما وصفوه في خطاباتهم أمام الجموع الهائجة المريدة “بالهدام" ويشكلونه من جديد، بطلا مجاهدا، أمير خلافة في أفق قريب.. يدوي صوت علي بن حاج من أعلى المنابر، وفي الساحات العمومية، من ساحة الشهداء إلى ساحة الفاتح من ماي، إلى الجهاد، إلى الجهاد..."، تجد السلطة القائمة نفسها في موقع دفاع... يهرول وزير خارجية الرئيس الشاذلي بن جديد آنذاك.. سيد أحمد غزالي إلى القاهرة، إلى بغداد، إلى المملكة العربية السعودية... تلعنه الأحزاب الهائجة.. يلعنه علي بن حاج، تلعنه التروتسكية لويزة حنون... يتعالى صوت، صوت الدعاة والساسة “إلى الجهاد، إلى الجهاد في العراق، يرتدي علي بن حاج، الرجل الثاني في الإنقاذ لباسا عسكريا، ويقود مظاهرة من الإسلاميين المشتعلين حماسا ورغبة في الاستشهاد على أرض بغداد إلى مقر وزارة الدفاع.. فيستقبله، وزير الدفاع آنذاك الجنرال خالد نزار وهو يرتدي زيا مدنيا.. ويا للمفارقة.. ويطلب علي بن حاج من وزير الدفاع الذي سيقوده بعد عامين إلى السجن العسكري أن تفتح مراكز التدريب للمتطوعين في صفوف الأمير الجديد صدام حسين... تسقط تلك القداسة التي طالما وضعها الجزائريون على المملكة العربية السعودية فيتحول في رمشة عين حكامها إلى موالين للكفار، لأمريكا وحلفائها “من الصليبيين الجدد ومن العرب الخونة..". يتبع