ارتأيت هذا الأسبوع، بمناسبة العطلة الجامعية، القيام برحلة من الغرب إلى الشرق علني أكتشف أشياء جديدة في هذا الوطن العظيم الذي في حجم قارة وقفص في آن واحد. ليست المدن الجزائرية، بالنسبة إلي، سوى علامات محدودة وأسماء أصدقاء، شعراء وكتَاب في أغلب الأحيان، أما الباقي فيشبه الحظ. كانت الانطلاقة من مدينة مستغانم (موطن الشاعر والولي الصالح سيدي لخضر بن خلوف) باتجاه عنابة (مدينة القديس أغسطين الذي أخذت رفاته إلى مدينة بافيا، قرب ميلانو الإيطالية عبر ميناء سردينيا) بتاريخ 1 أفريل 2013. الطقس جميل إلى حدَ ما. طقس الجزائر رائع، مهما كان. إنه أفضل من السياسة والثقافة. يجب المرور بعدة ولايات، على غرار ما فعله الرحالة الألماني “هانريتش فون مالتسان" في مغامرته من وهران نحو تيفست، أو تبسة كما تسمى الآن. لكنه قام بالرحلة كمستكشف، على ظهور البغال، وبصحبة دليل عربي. ولم تكن الممهلات بهذه العظمة المخيفة في ذلك الوقت البعيد. تزودت ببعض المال، بالنظر إلى الميزانية الخرافية التي تتطلبها السياحة في البلد. وقد يلزمك نصف كيس من الأوراق النقدية لتكتشف بعض بلدك. نصف كيس من فئة ألف دينار أو ألفين، عدا نقدا، لأن الصكوك لا معنى لها في جغرافيتنا وممارساتنا المتخلفة، تخلف بخمس نجوم وهلال وشمس. ثم يجب عليك أن تتوكل على الله وتقرأ ما تعرفه من آيات قرآنية ومن تعاويذ علك تصل بخير، أو بنصف خير، بالنظر إلى المفاجآت التي لا يتوقعها إبليس وذريته. أن تسلك الطريق السيار شرق غرب معناه أن عليك أن تتوقع أي شيء. بداية بمتاعب السياقة، إلى جنون أصحاب السيارات والشاحنات وغرورهم وقلة أدبهم. يجب التأكيد على “قلة الأدب" لنعرف حقيقتنا، بعيدا عن الشعارات التي تركتنا نعيش منتفخين كالديكة. السياقة في الجمهورية الجزائرية لا ضوابط لها. الحوت الكبير يأكل الحوت الصغير، والناس مرضى وخطيرون. ينضاف إلى ذلك انعدام فرصة إصلاح أي عطب، ولو كان بسيطا. ثم غياب المطاعم والمقاهي والبنزين، وقلة الأمن ( تعرضت من قبل لاعتداءين، وكان أحدهما شبيها بأفلام الوسترن، لكنه في مدخل عين الدفلى، وليس في هوليوود الأمريكية، ولا أدري كيف نجوت). مررت بغليزان، حيث ينام بعض تاريخنا المنسي، هناك يقيم الكاتب محمد مفلاح، وتلك علامة من علامات الخير. لي هناك مرجع ودلالة. وقبلها عبرت المحمدية بولاية معسكر. أصبحت هذه القرية تجارية، لكنها غير منظمة، كأنها إسمنت وحجارة ركبت على مضض، وبسرعة البرق. ثم الشلف، الأصنام قبل الزلزال الذي يذكر بأغنية المرحوم أحمد وهبي: “لصنام بايته جنة صبحت جبانه نارها لحقت لجبال وخميس مليانه"، يا لذلك الزمن الجميل. لا جديد في مدينة الشلف، صورة عن عدم التمايز، عن التشابه الذي يطبع العمران الجزائري. من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه. لا شيء يستهويك، ما عدا المناظر الطبيعية والفلاحين المنشغلين بالأرض، أولئك الذين ما زالوا يعيلون المدنية المتوحشة. لم تعد البليدة كما كانت من قبل. البناء الفوضوي هو السمة البارزة، حتى منشآت الدولة، الشركات والمدارس والثانويات والمؤسسات تبدو غاية في الفوضى، كأنها خرائب أو آثار حرب مدمرة. مدينة الورود؟ لا يوجد ورد في البليدة، ثمة ازدحام وإسمنت وحديد وحفر وقمامات كثيرة. لقد أصبحت مدينة الورود مجرد فكرة من عالم المثل، من تلك البقايا التي تبدو وهما، أو أسطورة تلوكها الذاكرة. لا أدري كيف انقلبت الأيام على فنانها رابح درياسة. السلام عليك يا سهل متيجة الذي كان يطعم الدنيا قبل مجيء هذا العقل، عقلنا نحن، هذا الشيء الفظيع الذي أشار إليه العلامة ابن خلدون في مقدمته الجليلة. وقريبا جدا سوف يستولي على ما تبقى من الأرض والجمال أولئك وهؤلاء. لم يخطئ ابن خلدون. بيد أنه قصر في الوصف، لأن المشكلة أعمق من ذلك. لم يعرف العلامة منطق أصحاب الشكارة، القضية ليست في الأعراب فحسب، بل في الجوع الذي يسكن العقل والروح، في الريع والتسيب، في التخريب المبرمج للبلد وخيراته. وها نحن نستورد اليوسفي والبرتقال من المغرب وتركيا. ما الذي يحدث؟ زلابية بوفاريك. تم اختصار المدينة في أكلة، وليس لبوفاريك أي معنى آخر، وهذا وجه من وجوه المحنة الثقافية السائدة التي كرسها منطق البطن. ثم الوجه الآخر للطريق السيار الذي لا يصلح لبغال ابن بطوطة وهاينريتش فون مالتسان. كان يجب العودة إلى أزمنة الحمير. الدخول إلى عاصمة بني مزغنة مرورا بالبليدة وبوفاريك عقوبة، وإذا شارفت أبواب العاصمة يلزمك قوة الشيطان للوصول إلى البريد المركزي، أو إلى أي مكان آخر. لا تحدد مواعيد لأن الوصول في الوقت من علامات الساعة. كانت الجزائر العاصمة في هذا اليوم عبارة عن قمامة كبيرة. لا يمكن قضاء العطلة في قمامة بهذا الحجم، وفي هذا الازدحام، وفي هذه الروائح الكريهة. الممهلات والحفر أفضل. خلف در. هذه عاصمة للأوبئة والقلق، ثم سعر الفنادق المصنفة في خانة ناقص نجمتين؟ يجب الخروج من العاصمة باتجاه الشرق، مرورا ببومرداس، وتيزي وزو يسارا، ثم البويرة حيث الطريق السيار عبارة عن أثلام وصدوع. من هذا الأخرق الذي يسميه طريقا سريعا؟ لا يمكن أن يكون هذا الشيء العجيب سوى صحراء مغشوشة، خلاء مخيف من الزفت. ثم البيبان أخيرا. هنا كان سيدنا المقراني، الرجل الحقيقي الذي حارب الباطل قبل أن يأتي الباطل الآخر، باطلنا نحن. كيف استطاع أن يواجه في هذه الوديان المكشوفة جيشا مزودا بكل الأسلحة المدمرة؟ لا توجد، بطبيعة الحال، أية علامة دالة على مروره من هذه الجهة. ليس لدينا متسع من الوقت لكي نمنح للمكان ذاكرة وتاريخا. ثم المنصورة، ومحطة قطارها. في هذه الجهة ولد الروائي عبد الحميد بن هدوقة، وفي هذا المكان تحديدا جرت وقائع رواية غدا يوم جديد. لا شيء يدل على ذلك. وفي الأعلى، في قمة جبل السبعة، يقع المسجد والصفصافتان والمصلى والوادي. هناك تدور حكاية الجازية والدراويش، وهناك آثار بيت الكاتب. توقفت في الياشير. الناس مضيافون والمدينة كالنمل. لا توجد في الياشير سوى المقاهي والمطاعم النظيفة. التجارة مزدهرة والطبخ له أصوله وطقوسه. إنها من أفضل المدن الجزائرية من حيث الاستقبال، ومع أنها مدينة صغيرة ملتصقة بولاية برج بوعريريج (حوالي 11 كلم)، فقد خلقت حياتها الخاصة التي تركز على حركة المسافرين، وهي مفتوحة حتى في الساعات المتأخرة. إنها ليست كالعاصمة والمدن الأخرى التي تخاف الظلام فتغلق في الثامنة وتنام، كما الدجاج. تحية للياشير على الخدمات، رغم غلاء الأسعار. مررت بالبرج في اتجاه سطيف، ثم العلمة وشارع دبي. الفندق في هذه الجهة بخمسة آلاف دينار لليلة الواحدة، وكنت أحجز في فنادق اسطنبول بثلاثة آلاف دينار جزائري، قرب الجامعة، وفي أكبر الشوارع النقية. العلمة إذن أفضل من المدن التركية التي تشبه الضوء والعبقرية والمتاحف والمساجد والملائكة. وذاك وجه من وجوه السياحة في الجزائر. إما أن تقيم مع الصراصير أو أن تحمل معك كيسا من الأموال، أن تكون من ذوي الجاه. المهم أن في العلمة واحدا من نوع الروائي والصحفي كمال قرور. قضيت الليلة هناك من أجل الراحة والنميمة، النميمة كما كان يراها المرحوم الطاهر وطار. من هنا مرَ جدنا الرائع المعز لدين الله الفاطمي الذي صنع مجد القاهرة ذات زمان. لم أكن مهتما بالهندسة المعمارية، هناك فوضى حقيقية جاءت مع رؤوس الأموال والربح السريع وتجارة الجملة. العلمة هي الطبيعة والزراعة والكرم والضيافة والتاريخ، وليست هذا الاعتداء على الفن والذوق، وعلى المستقبل. كان كمال قرور، المواطن الصالح، وصاحب جائزة المواطنة، وسلسلة الكتب الجديدة الموجهة للناشئة، يفكر بطريقة منطقية: العمل ثم الكتابة. لا يمكن أن تجعل الكتابة منَا مواطنين خارقين، ولا يمكن للكتابة أن تحدث تغييرا ذا أهمية ما لم ترفق بالفعل، بتقديم ما يجب تقديمه كمواطنين، قبل أن نكون كتَابا وصحفيين وأساتذة وإطارات نطالب ولا نقدم ما وجب تقديمه. كان الحديث مع كمال قرور بسيطا وعميقا، سطحيا وفلسفيا، من دون حضور أرسطو وجان بول سارتر وغرامشي وجاك ديريدا وكانط وإسخيلوس وغيرهم. هؤلاء لا يصلحون في العلمة. يجب التعامل مع الواقع، كما هو، لأن واحدا من نوع ماركس كان سيقول كلاما آخر لو زار المقام والذاكرة. عندما نرتبط بالسياق والذاكرة تفقد بعض النظريات العالمية قيمتها وبريقها. لا يمكن أن تحدث المقاول الجزائري عن البنية التحتية والبنية الفوقية والجدل والوعي الطبقي وفائض المال والماركسية اللينينية. هذا النوع من التفكير يحمل كل مواصفات الغباء في سياقات مخصوصة. سألت كمال قرور عن الطريق نحو جيجل، مرورا ببني عزيز. كان الطريق خطيرا في وقت سابق، لأنه جبلي ومعزول في عدة جهات، وكان السفر من هناك مغامرة وانتحارا. بقيت مائة كيلومتر للوصول إلى إيغيلغلي، كما كانت تسمى سابقا. أي قرابة ستين دقيقة. لكني سأقطع المسافة في ثلاث ساعات وسط ما يشبه الأدغال والشعاب وحفر الدنيا مجتمعة، وهذا نوع آخر من السياحة في بلد ينام على النفط المنهوب والخيرات المخبأة في البنوك الأجنبية. العمران المشوَه نفسه في القرى الصغيرة حيث المقاهي الكثيرة، وعلى حواف الطرق باعة الخضر والفواكه، وثمة ماعز وخرفان وبقر، وأطفال يبيعون النباتات. ذاك حظهم في تلك العزلة، وفي ذلك الفقر، وفي تلك الأكواخ التي يعود بعضها إلى الحقبة الاستعمارية، مع أن المنطقة قدمت مئات الشهداء. بعد بني عزيز آثار جميلة (ليست جيملة التابعة إداريا لولاية جيجل)، يجب الصعود يمينا قرابة 12 كلم، قبل الدخول مجددا في عالم من الحجارة والحفر والشعاب. ولولا الجبال البهية (التي تحمل آثار الحرائق الحديثة)، لاستحالت الرحلة كابوسا، وهي كذلك في حقيقة الأمر، لأن طرقات من ذلك النوع لا تصلح للحمير. كان باعة الشواء يؤثثون المناظر الطبيعية الجميلة. لا أدري كيف اهتدوا إلى استحداث مطاعم في الهواء الطلق، وسط الغابة، وبطريقة بدائية رائعة، شواء وشاي في قلب الغابة، وفي أجواء عائلية آمنة. الحمد لله، ها هي علامة من علامات السياحة التي كانت وراءها أفكار الشباب. يتبع