يتحدث الأفراد عن السياسيين العظام، الذين أحدثوا تحولات بارزة في مجتمعاتهم، لكن ما فعلته مارغريت ثاتشر من هدم للنظام الطبقي البريطاني مليء بالدروس في كيفية حدوثه، فقد تطلب ذلك رؤية إصلاحية وإرادة حديدية لشخص يمقت الوضع القائم. هدمت ثاتشر ركيزتين للمجتمع البريطاني المحافظ هما: النقابات العمالية التي استعبدت حزب العمال في البرلمان وقادة المحافظين من الأثرياء الأشبه بشخوص مسلسل “داون تاون آبي". وكان من الصعب تحديد الجانب الأكثر جمودا ومقاومة للتغيير؛ أهي النقابات أم الأرستقراطيون؟!. لكنهم كانوا شركاء في الجمود غير المقصود الذي أصاب بريطانيا. وبتحطيمها قوة النقابات ونخبة المحافظين القديمة، فتحت ثاتشر الطريق أمام الطبقة الوسطى البريطانية القوية سياسيا. كانت عالمية الطبقة الوسطى أسطورة وطنية أمريكية قوية، ولذا فمن الصعب بالنسبة لنا الحالة التي كانت عليها هذه الطبقة في بريطانيا. فعندما تقرأ عن الطموحات الكارثية لارتقاء السلم الاجتماعي للمصرفي ليونارد باست في رواية إي إم فوستر “هواردز إند"، يخامرك شعور بالأفق الكئيب والمحدود لحياة الطبقة الوسطى قبل وصول مارغريت ثاتشر إلى الحكم. كانت لدي فرصة استثنائية لأتابع ثورة ثاتشر في السياسة البريطانية عن قرب، فقد تخرجت في جامعة كمبردج عام 1974 وكان عام 1975 الفترة التي انحصرت فيها السياسة البريطانية على طبقة بعينها، ولم يتمكن أحد من كسر هذا الحصار. عاد حزب العمال إلى السلطة في نهاية إضراب الفحم عام 1974. ممارسة تنظمها النقابة في انتحار وطني. كانت ثاتشر على رأس حزب المحافظين وأصابها الذهول من الهزيمة. كانت حدود الحياة البريطانية واضحة بالنسبة لرفاقي في الدراسة، في هذا الوقت كان لا يزال الكثير من طلاب كمبردج يشعرون بالحرج لخوض غمار إدارة الأعمال. ربما يكون من المقبول أن تكون أستاذا جامعيا أو موظفا عاما أو قد يحالفك الحظ لتحصل على عمل مالي في مدينة لندن، لكن دخول مجال إدارة الأعمال لا يزال يعتبر بالنسبة للكثير من أصدقائي الإنجليز مجرد عمل، وإذا لم تتمكن من شراء قصر ريفي فمن الأفضل العيش كبوهيمي. فرضت الاتحادات حدودا صارمة للحياة أيضا. فعندما بدأ إضراب الفحم عام 1974، قمت برحلة إلى ويغان ولانكشاير، مدينة التعدين حيث كتب جورج أورويل كتابه عن الطبقية والمجتمع عام 1937. نزلت إلى أحد المناجم، على بعد ميل تحت الأرض، ورأيت أخوة حميمة لأعضاء الاتحاد الوطني لعمال المناجم، الذي لم يرغب في التوصل إلى اتفاق بشأن الإضراب. ولم أصب باندهاش أكبر من أهالي ويغان ذاتها. لم تكن هناك طبقة وسطى للحديث عنها، وبدت الفكرة أشبه بخيانة لعمال المناجم. كتبت كصحافي حر لقسم “أوت لوك" في صحيفة “واشنطن بوست" بشأن ما رأيته. (كان ذلك أول مقال لي في الصحيفة). وكان محور الموضوع حينئذ محدودية التغيير، الذي شهدته بريطانيا منذ كتاب أورويل “الطريق إلى ويغان بيير"، فلم يفهم أحد النظام الطبقي أفضل من أورويل الذي قال في كتابه أنه ولد لما سماه “عائلة من الطبقة المتوسطة الدنيا". وفي أحد المقاطع التي لا تنسى قال:«إن الأطفال في مجتمعه تعلموا رائحة الطبقات الدنيا". عدت إلى لندن في عام 1980 كصحافي شاب. وكانت ثاتشر قد انتخبت رئيسة للوزراء قبل عام، وبالفعل كنتم قد بدأتم بالفعل تسمعون اعتراضات مبكرة لما بات يعرف باسم “الانفجار العظيم"، الذي أفسح المجال للقطاع المالي للمنافسة. أصبح جمع الثروة (وليس أن تؤول ملكيتها إلى الأبناء كميراث) هو الاتجاه السائد. وانهارت قوة النقابات التجارية ببطء وبات من السهل الصعود إلى طبقة الأثرياء؛ فبفضل الأموال الجديدة، أصبح بإمكان الناس شراء منازل ساحرة في بلغرافيا وعزب ريفية؛ وسرعان ما توقف الناس عن سؤالك عن هوية والديك. تلخصت الحياة في إعلان ل “رالف لورين". كان الشخص الذي صقل ثورة ثاتشر هو توني بلير. فقد وجه ما سماه “حزب العمال الجديد" للخروج من معارضة التغيير من قبل الاتحاد، الذي ينتمون إليه. وبعد أن أصبح رئيسا للحزب في عام 1994، أجبر الحرس القديم على إسقاط المادة الرابعة من دستور الحزب، والتي كانت قد جعلت الحزب ملتزما بالهدف الشيوعي، الذي روج له لينين والممثل في “الملكية العامة" لعناصر الاقتصاد، رغم جهود الإصلاح التي تمتد لأجيال. وكانت تلك هي باكورة تجديد حزب العمال، لكن ثاتشر كانت من فتحت الباب أمام قيام دولة بريطانية حديثة، فقد استخدمت الكرة المدمرة، التي أطاحت بالأفكار والحواجز القديمة، على جانبي تيار اليمين وتيار اليسار. حينما يتحدث الناس عن باراك أوباما أو أي شخص آخر بوصفه قائدا سياسيا لتحول محتمل، أسأل نفسي: هل يملك هذا الشخص الصلابة والتعطش للتغيير الخالصين اللذين توفرا لدى ماغي ثاتشر؟ وتكون الإجابة في الأغلب بالنفي. خدمة «واشنطن بوست»