وبعد هذه التطمينات التي أشاعها الشاذلي في نفوس المعارضين للتخلي عن جبهة التحرير وتطويقها بأحزاب جديدة، أدرك الشاذلي أنه بدأ في تعديل الكفة لصالحه، بحيث قام متدخلا ليعلن بصورة مسرحية "بالنسبة لرئيس الجبهة انتهى المشكل، ننتخب عليه، ولكن الباقي نعيد النظر فيه".. رافقت هذا التدخل بعض الفوضى وهذا ما دفع الشاذلي بن جديد يتدخل ليقول: "إذا كان من البداية تسود الفوضى، مارانيش عارف كيف نخرج بحلول موضوعية ومسؤولة، أنتم تعرفون إيماني الراسخ بالأعمال في إطار القاعدة النضالية ولهذا أقول إنه من بين اللجان التي ستكتمل فيما بعد، هناك لجنة الترشيحات التي تتكون من ممثلي القاعدة وعندما تقترح هذه اللجنة شيئا، فما على المؤتمر إلا أن يأخذ مسؤولياته كاملة، باعتباره صاحب القرار.. المطلوب منا جميعا أن نسهّل العمل لبعضنا البعض"، وبعد ماراتون صاخب من التدخلات والمواجهات وتلاوات لتقارير جهوية يعلن عبد الحميد مهري أن لجنة الترشيحات قد "قررت ترشيح الشاذلي بن جديد كأمين عام لجبهة التحرير ومرشحها للانتخابات الرئاسية المقبلة".. تضج القاعة بالتصفيق وينزل الشاذلي بن جديد من المنصة ليقول: "في الحقيقة، كلفتموني بمهمة شاقة وثقيلة، لأن المسؤولية عندما يتحملها الإنسان بكل قواه ومشاعره، تكون متعبة، ولكن استجابة لإرادة القاعدة النضالية ومن خلالها الشعب الجزائري في تجديد الثقة في شخصيا، فإنني مستعد لتحمل هذه المسؤولية"، تلى ذلك تهاليل وتصفيقات، وكان يبدو على محيا الشاذلي علامات المنتصر والعائد من بعيد إلى سدة المجد.. وتسرب الفرح والسرور كعلامة على الانتصار إلى نفوس زمرته الاصلاحية التي عملت على صياغة الدستور الجديد، خاصة المادة 40 التي تنص على التعددية السياسية والحزبية وفي تلك اللحظة كان قاصدي مرباح يشعر أن غريمه قد حقق عليه نصرا، لكن هذا النصر ليس بالنهائي.. وما كان يكوّن له بعض الغم هو انفراد الزمرة الإصلاحية بالرئيس، بحيث تحولت إلى ذراع واقٍ يحميه من الضربات التي بات يفكر مرباح في انضاج الأجواء المناسبة لتسديدها ضد بن جديد، وكان يدرك أن الزمرة الإصلاحية تحمل له في نفسها ليس الحقد والكراهية وحسب، بل الرغبة الجامحة في إلحاق الأذى بكرامته، فهو لم يتحصل بحكم منصبه كرئيس للحكومة حتى على نسخة من مسودة الدستور الجديد... وقع اختيار مرباح على طبيعة الضربة التي يوجهها لبن جديد، وتمثلت في تعرية الوجه القبيح لمجموعة الرئيس وذلك بنزع القناع الخادع عن سياستهم الاقتصادية، ومن هنا استدعى مرباح هيئة أركانه المكونة من مستشاريه الاقتصاديين والماليين والكوادر السامية في الخزينة العامة ليزودوه بالمعطيات الضرورية حول الحالة الاقتصادية، ليبلور على أساس تلك المشاورات والنصائح خطة في المحاور التالية، كما ذكر ذلك صاحب "سنوات الفوضى والجنون". «1 يجب أن يتغير موقفنا من المؤسسات المالية حتى لا تهتز مصداقيتنا. 2 إقامة جهاز لتسيير التوازنات المالية الخارجية قصد تخفيف الضغط على جهاز الانتاج".. أثار تحرك مرباح مخاوف رجل الشاذلي بن جديد العتيد الجنرال العربي بلخير، خاصة بعد أن قرر توسيع ضرباته ضد الشاذلي عبر الإطاحة برجال وزمر بن جديد خلف أسوار الرئاسة، حيث قال مرباح: "ليهتم هؤلاء بفتح وغلق أبواب الرئاسة لن تمضي الاتفاقيات مع صندوق النقد الدولي دون الرجوع إلى الحكومة، وحتى السفراء يجب أن يؤخذ رأي الحكومة فيهم، من الآن فصاعدا، لا بد من معرفة الحاكم الفعلي للبلاد"، لم يتوقف مرباح عند هذا الحد عندما فكر في الاعتماد على خطة حرب ذكية ودقيقة وقادرة على إرباك الخصوم وتشتيت قوتهم وشلّهم عن كل مناورة وذلك بتعريتهم عن طريق توظيفه للملفات التي هي بين يديه واستعمال المعلومة كسلاح جبار.. وكانت الخطوة الملموسة الأولى في تطبيق خطته هي الإطاحة برأس أحد المقربين من الشاذلي بن جديد، وهو الكولونيل حسين السنوسي، مدير مركب رياض الفتح أحد الرموز المدافعة عن اللبيرالية وسياسة الانفتاح، بحيث كشف مرباح عن فساد مالي تورط فيه هذا الرجل الذي يعد من رجال الدائرة المقربة من بن جديد، وتمثل هذا الفساد المالي في ثقب مالي قدره 40 مليار سنتيم، وهو الشخص ذاته الذي لاحقته الإشاعات قبل انتفاضة أكتوبر بتورطه في قضية فساد أخرى متعلقة بسرقة بنك الجزائر الخارجي رفقة ابن الشاذلي توفيق بن جديد... رفض الجنرال العربي بلخير وهو رجل الرئاسة القوي أن يبقى مكتوف الأيدي أمام الضربات التي بدأ مرباح يسددها إلى الرئيس ورجالاته، فقرر أن يباشر الرئيس الشاذلي بن جديد بالحديث قائلا: "سيدي الرئيس، هذا الرجل سوف يدمر البيت على رؤوسنا إذا ما تركناه يلعب لوحده في الميدان" فنظر الشاذلي إلى وجه العربي بلخير المروع، وسأله بهدوء "وما الذي تقترحه لأن لا يبقى اللاعب الوحيد في الميدان"؟! فرد الجنرال العربي بلخير، لكن ليس بهدوئه المعهود الذي عرف به، بل بسرعة مفاجئة" أن نحرّك الآلة، أن نحاصره من كل الجهات، أن نوظف رجالنا، وكل الجهاز لإحداث الإرباك عند هذا الرجل الذي قرر أن لا يتوقف عند حد"... نظر إليه الشاذلي بوجه صارم، لكنه شبه غاضب وكأنه يقول له: "وماذا تنتظر، أيها الرجل.. تحرّك.. إن الفتيان الذين هم حولي، قد باشروا العمل".. وبالفعل كان مولود حمروش الطموح، الملتهب حماسة، قد اهتدى إلى شن حملة نفسية، شرسة، مرعبة عن طريق المقربين من الإعلاميين على رأس المؤسسات الإعلامية والذين أصبحوا يتباهون على أساس أنهم من رجاله وأتباعه، وأطلق أحدهم على هؤلاء الإعلاميين المقربين من حمروش ومعاونيه بالإعلاميين الإصلاحويين، ووصفهم البعض الآخر بالحمروشيين.. فلقد سعى حمروش إلى دفع دم جديد في وسائل إعلامية تابعة للدولة مثل أسبوعية "الجزائر الأحداث"، التي كان على رأسها الداعية اللبيرالية للإصلاحات كمال بلقاسم، وهو أصيل مدينة البليدة، ورئيس تحرير سابق بجريدة المجاهد وصاحب المقال الشهير المعادي لأحداث الربيع البربري لعام 1980 والكاتب الروائي مولود معمري أحد ملهمي شباب ربيع 20 أفريل.. وكذلك جريدة المسار الحكومية التي كان على رأسها شاب صاحب ميولات إصلاحية وأفكار ثاقبة من حيث التأقلم مع الفصل الجديد من الحياة السياسية الجزائرية لم يكن من عالم الصحافة لكن كان يتميز بموهبة في تحويل الجريدة إلى قناة معبرة عن الزمرة الإصلاحية وطموحاتها، ويسمى عيسى مالكي، وبالإضافة إلى الجرائد العمومية أجهزة الإعلام الثقيلة التي تحولت وسائل للضغط على حكومة مرباح، ولقد وجد هذا الأخير نفسه محاصرا بهذه الآلة الإعلامية الجهنمية التي لم يضعها في الحسبان.. كانت التوجيهات تنزل رأسا من مكتب رأس الحربة للزمرة الإصلاحية لمسؤولي وسائل الإعلام ورؤساء التحرير لتسميم حياة حكومة مرباح، التي كانت في بداية طريقها الذي كان مفخخا، ومما زاد الطين بلة أن صدور المرسوم المنظم لصلاحيات رئيس الحكومة جاء مكبلا لتحركات الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات ومتناقضا مع روح القسم الأول للإصلاحات السياسية قبل حصول الشاذلي بن جديد على عهدة ثالثة.. .. يتبع