على أرض الصحراء في مصر كان ليل 23 - 24 أكتوبر 1942 موعدا لاندلاع معركة العلمين الثانية، المواجهة التي غيّرت بشهادة المؤرخين مسار الحرب العالمية الثانية وشكلت كما قال ونستون تشرشل "بداية النهاية" في تلك الحرب لصالح الحلفاء ضد قوى المحور. لقد جسدت تلك المعركة الشهيرة مواجهة تاريخية بين اثنين من أشهر القادة العسكريين على مر العصور، المارشال برنارد مونتغومري (1884- 1976) الملقب ب "مونتي" وغريمه المارشال إروين رومل (1891 - 1944) المعروف ب "ثعلب الصحراء" والذي لم يشفع له ذكاؤه أو خبرته لتفادي الهزيمة النكراء على يد الحلفاء علما أنه كان لحظة انطلاق معركة العلمين في ألمانيا يتلقى العلاج من الحمى واستدعي من هناك على عجل. حتى تاريخ نشوب معركة العلمين كان شمال إفريقيا يشهد حالة من المد والجزر بين المعسكرين اللذين كان كل منهما يسعى الى السيطرة على قناة السويس كنقطة هامة واستراتيجية للمواصلات في الحرب الكونية. وبعد سلسلة من الضربات الموجعة التي وجهها رومل إلى الحلفاء شعر الانجليز بالحاجة الماسة إلى حسم الأوضاع في تلك المنطقة فعملوا على حشد القوة والعتاد بكثافة لإنهاء الأمور لصالحهم. حدائق الشيطان كان رومل يعي جيدا الاختلال بميزان القوى عدة وعتادا مع الحلفاء ولذلك عرف منذ البداية أن المواجهة الوضعية ليست في صالحه فلجأ إلى أسلوب المناورة والضربات الفجائية من خلال التحرك السريع للمدرعات ووضع تكتيكات مازالت حتى اليوم تدرس في الكليات العسكرية وتصلح لاعتمادها في الحروب والمواجهات التقليدية وخاصة في المناطق الصحراوية. ولحماية جيشه عمد رومل إلى تعزيز مراكزه الدفاعية بزرع أكثر من نصف مليون لغم في شريط أمني فاصل أسماه "حدائق الشيطان" بطول 60 كلم وعرض 6 كلم. وكان منذ منتصف عام 1942 ينتظر الدعم الجوي والبري وتوفير الوقود بكميات كافية كما وعده هتلر للقيام باندفاع مفاجئ وسريع يوفر له ضرب الإنجليز الذين كانوا قد تراجعوا تحت وطأة الضربات المتلاحقة من ليبيا إلى الصحراء المصرية.. لكن الدعم لم يأت، بل فضل هتلر تعزيز جبهات قواته في أوروبا وضد روسيا. بالمقابل كانت الأمور تسير على ما يرام في معسكر الحلفاء، فقد عُيّن مونتغومري قائدا للجيش الثامن خلفا ل "اوكلينك" ومنذ تسلمه منصبه سعى "مونتي" إلى رفع الروح المعنوية للجيش البريطاني الثامن. ومن ضمن ما قام به في هذا الإطار نقل مقر قيادته إلى الخطوط الأمامية وإعلانه من البداية أن هدفه "سحق الالمان" وأنه "لا مجال للانسحاب أو التراجع مهما كان الثمن". وظل الجدل دائرا حول قدرات مونتي الفعلية حتى جاءت معركة "العلمين" ففي هذه المعركة فاجأ قادته بداية بلجوئه إلى تعديل لخطته الهجومية، فبدلا من أن يبدأ بعد فتح ثغرات في حقول الألغام بتدمير مدرعات رومل ثم الانقضاض على عناصره غير المدرعة قرر أن يقوم باحتواء سلاح العدو المدرع وتدمير فرق المشاة بمساندة سلاح الجو، وشرح لضباطه من رتبة عقيد فما فوق أهمية قطع الإمدادات عن رومل، ويُنقل أنه توقع أن تستمر المعركة 10 أيام وأن يتكبد خلالها الحلفاء ما لا يقل عن 10 آلاف قتيل، كما حرص "مونتي" على أن يضع القادة في أجواء التفوق العددي على خصومهم بنسبة 2 إلى 1 حيث كان جيش الحلفاء يضم 230 ألف مقاتل مقابل نحو 110 آلاف في جيش رومل إضافة إلى التفوق عليه بالعتاد بنفس النسبة تقريبا حيث كان الحلفاء يملكون 1500 دبابة ونحو 900 طائرة وآلاف المدافع وأغلب آلياتهم وأسلحتهم أميركية الصنع وحديثة وكانت أسلحة جيش المحور أقل فعالية وتطورا. إيمانا منه بأهمية المبادرة إلى ضرب قوات المحور قبل وصول الامدادات، حدد مونتغومري الساعة 12.05 من ليل 23 - 24 أكتوبر موعدا لإطلاق الحملة. وبالفعل انطلقت الحملة من الشمال والجنوب وسبقها تمويه عبر وضع أشكال دبابات ومدافع وخزانات نفط في قطاع لم يستخدم للهجوم. استطاع الفيلقان 13 و30 تحقيق التقدم وفتح ثغر في أحزمة الألغام وواجها المقاومة الصلبة من الألمان بقيادة الجنرال شتوم الذي حل محل رومل الموجود في ألمانيا للعلاج. لم يتوقع الألمان الهجوم وأكبر دليل على ذلك أن الجنرال شتوم خرج بدون حراسة لاستطلاع ما يجري فأصيبت سيارته وهرب سائقه وعثر الانجليز على جثته ميتا بسكتة قلبية، وتسلم قيادة الألمان ڤون توم حتى وصل رومل ليل 25 - 26 أكتوبر، وكان الحلفاء قد حققوا اجتياحات وتقدمات كبيرة وكبدوا الألمان خسائر ضخمة زادت من سوء أوضاعهم السيئة أصلا في ظل افتقارهم للامدادات والوقود وتفوق سلاح الجو المعادي عليهم. خسر جيش المحور التلال والنقاط الاستراتيجية في العلمين ومحيطها الواحدة تلو الأخرى، وفي 3 أكتوبر وصلت أوامر هتلر إلى رومل: "إياكم والانسحاب، فإما النصر أو الموت وقاتلوا حتى آخر رجل". فرد رومل: "إن ما نحتاج إليه هو الطائرات والمدافع والوقود وليس الأوامر التي تطلب منا الصمود". رسالة رومل وصلت فتراجع هتلر وغير أوامره وبدأ انسحاب رجال رومل إلى ليبيا ثم إلى تونس حيث خاض معركة "الميدنين" وخسرها بعدما فقد أغلب دباباته ونضبت مخزونات جيشه بغياب الإمدادات، فاستدعي إلى ألمانيا وتسلم مكانه الجنرال ڤون ارنيم الذي اضطر هو و90 ألفا من مقاتليه أن يسلموا أنفسهم للحلفاء مع ما تبقى لديهم من أسلحة في واحدة من أكبر عمليات الاستسلام في التاريخ في منتصف ماي 1943. نهاية رومل كان رومل قائدا لامعا شارك في اجتياح فرنسا 1940 واحتلالها وقاد الفرقة المدرعة السابقة "البانرز" التي لقبت بالشبح بفعالية كبيرة. بعد أن عاد إلى ألمانيا اتهم بخيانة هتلر ومحاولة الانقلاب عليه، وخُيّر بين الانتحار أو المحاكمة فاختار الخيار الأول وانتحر في 14 أكتوبر 1944. مونتي أما مونتغومري فعاش أمجاد انتصاره حتى توفى عام 1976 وأصبح بعدها يعرف ب "مارشال مونتغومري اوف علمين" وفي عام 1967 وفي الذكرى ال 25 لمعركة العلمين وجه رسالة إلى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر طالبا منه أن يقوم مع مجموعة من الضباط بزيارة موقعة المعركة لأخذ صور تذكارية، وأنه يتمنى من الرئيس المصري أن يوافق على ذلك رغم القطيعة بين بريطانيا ومصر منذ العدوان الثلاثي، فرد عبد الناصر على مونتغومري بالترحاب واستقبله خلال الزيارة بحفاوة.