استقبلت سلسلة "بوكانس" أي كتب، وهي من أشهر المؤسسات الأدبية المخصصة للغة الفرنسية، على غير ما اعتادت عليه، في سابق الزمن، لأديب لا يزال على قيد الحياة وهو حي يرزق، الكاتب والشاعر اللبناني صالح ستيتيي، حيث يوجد لدى هذا الأديب مجموعة إنطولوجية مكونة من دواوين شعر، وكذلك دراسات، وكراريس الأفكار المختزلة، ومواضيع علمية، ودفتر سفرية، وأيضا رواية خيالية واحدة ووحيدة، إلى جانب الكثير من الكتابات التي تنشر للمرة الأولى، كل هذه النصوص المعنونة تحت تسمية ‘'في مكان الحرقة''. يتقدم هذا، مقدمة وتصدير من بيار برونالحول أعمال الكاتب، وكذلك لمحة خاطفة من هذا المؤلف نفسه، فيما تعلق بمسيرته المزدوجة كشاعر وسفير أيضا لبلده، مثلما سبق وكان عليه كل من بول كلودال، سانت جون بيرس، بابلو نروده وإكتافيو باز. يشير ضمن صفحة الغلاف الخلفية للكتاب، ستيفان بارزاك، وهو القائم على أعمال نشر هذا العمل الأدبي، إلى أن "هذا الإبداع الأدبي المتكون من أعمال أصبحت اليوم جد مفقودة، وكذلك نصوص تعتبر من الكلاسيكية، إلى جانب أيضا كثير من الكتابات القيمة التي تنشر لأول مرة، بحيث يحتوي هذا العمل على قصائد شعرية، ونصوص نثرية قوية، ودراسات نقدية لرجل استطاع أن يلقي بنظرته على إرادة التمعن والكشف عن خبايا العلم عبر كل ظواهره، بقلم يجيد فنون كتابة اللغة الفرنسية، وهو الشيء الذي جعل من صالح ستيتيي أن يصبح مثل كل من بيكيت، لونيسكو، جابس وسيوران، أي أحد أعمدة اللغة الفرنسية، وهو من ساهم في إيقاظها بكل حب وإخلاص، لما تحتويه من "روائع''. أبي كان ينتمي إلى فئة البرجوازية المتوسطة ببيروت، وهو من مواليد آواخر القرن التاسع عشر، تحت حكم الإمبراطورية العثمانية، وبما أنه كان يرغب في أن يكون له مسار مهني بالوسط الإداري التابع للدولة العثمانية بلبنان، كان عليه أن يتعلم اللغة التركية ومزاولة دراساته العليا في مجال القانون والإدارة العمومية بالجامعات التركية، وهو الأمر نفسه الذي دفع به إلى أن يتوجه إلى مدينة إسطنبول، أين تخرج من جامعتها في سنة 1919، ثم عاد مباشرة بعد ذلك التاريخ إلى لبنان لجني ما يجب أن يحصده من ثمار مدة دراساته الطولية المدى، غير أن الإمبراطورية العثمانية التي كانت حليفة ألمانيا، قد انهارت خلال فترة زمنية قصيرة، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى (1914 1918)، حينئذ أصبح أبي يوجد ببيروت وهو حائز على شهادات جامعية لا فائدة منها ولا معنى لها، بغض النظر عن تمكنه الكبير من لغة وثقافة لن يستفيد منهما مطلقا. وهو متواجد من بين حشود جماهير غفيرة من الناس، كان يترقب وصول أول باخرة فرنسية إلى ميناء بيروت، وهي تقل على متنها جنرالا تمت ترقيته حديثا، جاء لغرض إمتلاك لبنان وسوريا بإسم شركة الأمم، كون الأخيرة منحت لفرنسا رخصة الإستيلاء على هذين الإقليمين التابعين للإمبراطورية القديمة. فكان آنذاك لهذا الجنرال أن نطق بكلمة تاريخية، مع العلم أن جل العسكريين يحبون الكلمات التاريخية، حيث قال بالحرف الواحد: "نحن هنا لغاية ألف سنة''. وقتها تكلم أبي مع نفسه ليقول بصوت منخفض: إن الفرنسيين جادون في أقوالهم وأعمالهم، وإذا كان هذا الجنرال صاحب التاج الكبير والرمز السحري والشأن الوفير يعتقد أنهم سيمكثون هنا طيلة كل هذه الفترة الزمنية الطويلة، لا شك أنهم سوف لن يذهبوا قبل انقضاءها، وعليه، فإن رزقت بولد، سأعمل كل ما في وسعي من أن يتعلم اللغة الفرنسية بأحسن المؤسسات التعليمية التي تقوم بتدريسيها بلبنان، حيث كانت هي الأخرى موجودة بالأراضي اللبنانية منذ قرن من الزمن أو اكثر، كون البلد بصفته معقلا لشريحة كبيرة من المسيحيين، نقطة استقطاب وتمركز إهتمامات فرنسا بداية من عهد فرانسوا الأول وتلك الإتفاقيات المسماة باتفاقيات ‘'الإستسلام'' والتي وقعت بين هذا الأخير وسليمان العظيم (البديع). أنا أذكر هنا كذلك، أن بعد تلك الفترة، قام لويس الرابع عشر بتنصيبه لقنصل فرنسي بالإقليم اللبناني، على أساس تعيين ممثلية دبلوماسية ستكون قائمة بالبلد لما لا يقل عن قرابة ثلاثة قرون كاملة، وعند ولادتي في عام 1929، عمل والدي عند بلوغي سن التمدرس على أن يقوم بتسجيلي بإحدى المؤسسات التعليمية الشهيرة للغة الفرنسية الموجودة بلبنان، وهكذا أصبحت بعد مر الأيام بذلك الكاتب الذي يكتب باللغة الفرنسية، لأمحو من ذاكرة والدي إثر أسف حلمه الذي لم يتحقق في هذا المجال، وذلك لا يعني أنني سوف أصبح في يوم ما كاتبا من دون أن تكون لدي جذور متجذرة وجد عميقة في تعاطينا مع لغة معينة، وأما فيما يتعلق باللغة الفرنسية، كلغة مختارة للكتابة بها، فالمسألة تكمن أساسا في حبي الكبير لهذه اللغة التي ولّعت بها منذ نعومة أظافري. هناك آخرون من بين من زاولوا تجربتهم في تلقيهم لدراساتهم بهذه اللغة مثلي أنا، لكن الحظ لم يسعفهم في أن يصبحوا كتابا في يوم ما، حيث يحوزون على شهادات دراسات عليا في الطب والهندسة والقانون وغيرها من الإختصاصات في شتى الميادين، والسبب الوحيد في ذلك هو أنهم لم يبادروا في الكتابة بهذه اللغة أو بغيرها. ولكي تتسنى لشخص ما تلك المبادرة في خوض مغامرة فن الكتابة والإبداع، علي أن أعيد وأكرر إن العملية هي بحق مغامرة، يشترط على من يريد القيام بها أن يكون يحب تلك اللغة إلى حد النخاع، مثلما ذهب إلى ذلك رولاند بارتاس عندما كتب وهو محق في أقواله - فيما يخص موضوع خفض مستوى الفن المبدع والخلاّق للغة الفرنسية في مجال جمال النص وروائعه، لما يكشف عن ذلك بصفة عامة عندما يدلي بقوله: ‘'لا وجود لأي أزمة لغوية، وإنما هناك أزمة حب للغة''. أنا دائما متمسك بهويتي، لأنها كانت في زمن ما محاربة، مناضلة ومعذبة، أما الشيء المهم الذي يقربنا كثيرا من هويتنا فهو إنتماؤنا إليها في حالة الشدائد، وهي من تجعلنا نتمسك بها، حتى وإن كانت أحيانا عرضة للسب والشتم والإهانة، وأخرى للتهديد المرير، وذلك هو حالي، لطالما أني كنت دائما أطالب بالعروبة كهوية، في زمن كان ولايزال قائما، أصبح فيه العالم العربي أسيرا مزدوج العقوبة، أولها على أنني كنت أسير نفسي في البداية، على اعتبار أننا كلنا نعلم جيدا كيف كان هذا العلم، وذلك منذ تحرر الدول المستعمرة قديما، التي كانت آنذاك عرضة لسوء تسيير وفساد حكامها، وبعد ذلك كنت أسيرا كذلك لعدة أسباب أخرى ومنها الأوضاع الدولية، حيث إن كثيرا من الدول والبلدان كانت دائما من مصلحتها أن تغرق العالم العربي في بؤر الظلام والأمور المعقدة والشائكة وكذا الفقر والتخلف المترتبان عن تلك المشاكل والخلافات الداخلية والخارجية. وبتناولي لهذا الموضوع، أنا أريد الإشارة هنا إلى المشكل الفلسطيني الفظيع الذي بقي عالقا ينتظر حل القدر أو إرادة البشر، وكذلك إلى القضية اللبنانية والتي يكمن حلها في المجال الإقليمي الجهوي، إلى جانب كل تلك المشاكل الأخرى الكثيرة والمتعددة التي استطاعت أن تجند كل أو بعض من دول العالم العربي والقوات العظمى لأمم العالم ككل، مثل مشكل تحرر واستقلال الجزائر، والنهوض القوي للقومية الناصرية، وتلك الحروب التي خاضها العراق، والوضعية الحالية للسودان ودار فور، وكذلك العنف الديني المعتوه إلخ... أنا أُدين بشدة كل التجاوزات، غير أنني مقتنع بأن العالم العربي سينقذ نفسه بنفسه، من شياطينه وإفراطه، على أن نعيد له بادئا ببدء ميزة الإحتكام إلى فضيلة العدل والمساواة، كلما وجب علينا اللجوء إلى تلك الأمور التي تنتظر مثل هذه الإلتفاتة منذ زمن بعيد، كالمآساة الفلسطينية التي يبقى حلها مرتبطا برجوع العالم العربي إلى نوع من الهدوء فهي في حاجة ماسة إليه، بما أنه سيعود عليها حتما بنتائج جد إيجابية في علاقاتها مع باقي دول العالم، والتي لطالما بقيت متوترة مع هذا البلد أو ذاك، أو تجاه هذه المجموعة أو تلك التابعة للعالم العربي أو للعالم ككل. كما يجب علينا كذلك ألا ننسى، إن العالم العربي من حقه ألا يقع رهينة ضغط العنف بواسطة اللجوء إلى الرياء والنفاق، بصفته حامل لذلك الإرث التاريخي الكبير وما تخلله من قيم ثقافية وشهامة عظمة القوم، ذلك ما ساعدني كثيرا في صقل تلك الأخلاق التي بنيت عليها شخصيتي وكوّنت أهم جوانب حياتي كسفير وممثل لبلد صغير مثل لبنان، ذلك ما أثر إيجابيا في علاقاته مع باقي الدول بفضل صيته على الصعيد الدولي وسمعته العالية قبل أن يتم جره إلى عمق تلك الحرب الأهلية التي لا يزال يتخبط فيها، وهي المهام نفسها التي قمت بها في أكبر المحافل الدولية، سواء تعلق الأمر باليونيسكو أو بهيئة الأممالمتحدة، وأنا أستعمل للغرض نفسه تارة كتاباتي وتارة أخرى تلك الشهادات المتعلقة بكل الميادين، أين كان صوتي مسموعا وأين كان يبدو لي أن الهوية اللبنانية والعربية ككل أصبحت مهددة في وحدتها وكيانها. في أحد عناوين مؤلفاته، يكتب هنري ميشو عن "المعرفة بواسطة الهوة"، مما يجعلني أعتقد أن هاته الهوة السياسية والثقافية هي من غذت في تفسير هويتي، بما أنها كانت دائما سببا في اتساع رقعتها بحفرها المستمر لتلك التربة التي كانت تقف عليها رجلاي. أما الآن، وأنا أعتقد أنني قد قمت بما كان من الواجب أن أقوم به من أجل حفظ أو إنقاذ تلك الهوية المدمرة التي ذكرتها أعلاه، لا أخفي عنكم أنني أحس في الوقت الراهن ببعض من البعد تجاه مشاكل الهوية، على الأقل مثلما هي مطروحة على الساحة. يبدو لي كذلك أن الرؤية الوحيدة التي يجب أن نعتمدها في الوقت الراهن، هي أننا من مصلحتنا أن نتجاوز مستقبلا مشكلة الهوية الضيقة، بمعنى أن الكرة الأرضية أصبحت اليوم بذلك الشيء القليل جدا الذي يمكننا أن نحمله في راحة اليد، وعليه من المفروض علينا، بما أعتقد، أن نقوم نحن المثقفون والشعراء ورجال السياسة، باستعمال كل قوانا في مسألة تجاوز مشكل الهوية المتقادم من أجل الذهاب نحو نظام عالمي يندمج مع طبيعة الأشياء. وقبل أن نهتم بالهويات الجزئية والمتجزئة، علينا أن نهتم أكثر فأكثر ببقاء هذه الفئات البشرية التي هي على قيد الحياة وفوق هذه الأرض التي حذرنا كثيرا العلماء من تعرضها الخطير والمفرط لكل أنواع الكوارث الطبيعية البشعة. لقد سبق للكاتب الإسباني "فالاتي" أن عبر بكل روعة عما تكلمت عليه، حيث قال: "إن الشيء العام أو الشامل هو المحلي من دون الجدران التي تحيط به". ومن ثمة، يجب أن تكون لدينا تلك الشجاعة الكافية في أن نسقط أو نزيل هاته الجدران. وبما أننا اليوم نحتفل بحلول العشرية الثالثة لسقوط جدار برلين الشهير، علينا بإزالة جدران أخرى لاتزال واقفة وصامدة أمام الإرادة الإنسانية إلى غاية تحطيمها النهائي، ولكن يجب كذلك أن ننجح في رفع قيود الحدود حتى نقضي على الحواجز والإنفصالات، بتمركزنا الدائم بالوكر بصفته المنشأ والمنبع الأصلي لنا، ذلك المكان الذي يحمل في طياته تلك الروائح العطرة المستنشقة من باطن أرضه وعمق جوفه، مثله في ذلك مثل تلك الشجرة التي تغوص جذورها في باطن الأرض العميق لتبتعد كثيرا عن مساحة سطحها، والتي من واجبنا ألا ننسى كذلك عملية تقليم أغصانها وصيانتها كي تنمو أوراقها بفضل امتصاص نسيم الفضاء الذي يأتيها من رئتي هواء الكون وهواء الأرض لمساعدتها على الحياة المتوازنة، مما يجعلنا نعتقد أنها ‘'فعلا بمثابة كوكب'' و في آن واحد بذلك، الموطن الشاسع والسحري غير قابل للتجزئة. بودلار... أعتقد ان رينبو قال ذلك مرة واحدة وكفى، إنه بمثابة " إله حقيقي''، حيث كان له الفضل في اختراع الشعر الفرنسي والأوروبي الحديث وكذلك على اعتبار أن تأثيره الأوروبي الإيجابي وشعاعه الثقافي الرائع - المنكب لصالح المستعمر وعلى مسافة معتبرة كذلك من هذا التقدير- إستطاع كذلك أن ينقله إلى جميع أقاليم العالم الثالث. إن بودلار هو من قام بتلك الثورة العميقة والحقيقية للشعر بمفهومه العالمي، والذي بعد ذهابه لم يصبح شعرا مقنعا بجمال وصفه لينتهي به المطاف إلى مثلما يوصف حسب ما جاء في كلمات فييون بشعر يمثل الضمير في علاقته بالعالم. وعليه، علينا أن نفهم جميعا أن الشعر لم يصبح بعد بذلك الشيء الخارجي عن نفسيتنا وعلى مقدرة من إلهام ذلك الفنان الذي بيده كمنجة وهو يعزف على أوتارها ويغني جمال غروب الشمس أو ذلك السحر الخاص بالطبيعة أو بتلك المرأة الفتانة، كونه سيشكل في يومنا كل هذا قطعة أساسية في العمق المنظر الداخلي، حيث بعد بودلار شاهدنا تلك المغامرة الرائعة لفترة رينبو، وبمعنى آخر إنتقلنا بعدها إلى ذلك العهد الأقل شأنا منها والخاص بمالارمي، وكذلك صعود صيت الشعر الألماني لستيفن غورق وريلكي. يوجد هناك أمثلة كثيرة يمكن أن نعبر بها، عن التأثير الشعري لبودلار على اللغة الشعرية التي باتت في الظرف الحالي أكثر تركيزا على توضيح وتفسير المناهج المقامة على أساس الشفافية بداخل عمق الإنسان ومجال لا شعوره وعدم وعيه. هي تلك الشعلة الداخلية للشاعر، من دون أدنى شك، لأن كلاهما يصطاد في عالم الكون المطلق، على أنه حامل لمعانيه وفوائده، حيث إن حلاج كان صوفيا وأصبح شاعرا، لأنه في غالب الأحيان ما تدفع اللغة الصوفية بصاحبها إلى كتابة الشعر، وهي الوحيدة من شأنها أن تعبر عن الحالات القصوى للضمير البشري، حتى أنها تستطيع تحيينا وإعادة إحياء بعض الهاويات المتعلقة بالا شعور، بما أن كثيرا من الكتب المقدسة، وعلى وجه الخصوص تلك النصوص الصوفية، هي أصلا مجموعة بيوت شعرية قبل أن تنزل من السماء حاملة للكلام الإلهي المقدس، سواء تعلق الأمر بالإنجيل ومدائحه، أو الترنيمة الدينية وترتيلها، أو كتاب أيوب، أو بالإنجيل ومثلته وكلام السيد المسيح، التي هي الأخرى تعتبر من الشعر الذي يغذي الروح، أو كذلك القرآن الذي يحوي تلك الآيات الأولى ذلت الطابع الكارثي والتي هي بمثابة لهاب هاشمة وقاتلة، مثلما يقول النص حرفيا، أي "الصاعقة التي تسحق العيون"، أو تعلق الأمر بالهندوس، ‘'الديكت دو بالما''، أو ‘'البوبول فوه'' وهي كلها كتب تزعم أنها تحجز لهم مفتاح الولوج إلى كل الأشياء، المبهمة منها أو تلك الخاصة بالعقائد المدرسة، بما أنها ترسخ في نفوسنا، حتى وإن كنا لا نبالي بها، ذلك الإرتباط بكل ما هو مقدس ويعم مفاصل أجسادنا بواسطة جمال اللغة وما تحمله من عبر فتانة ومليئة بالكلام الغنائي الممتع والجذاب. وأما رينبو، فكان هو ككل، من جهته شاعرا ذو شعلة براقة ومشرقة، حتى كانت مغامرته تشبه كثيرا في بعض الأحيان ما قام به حلاج فيما كان يجتهد في أداء شعره إلى غاية أن شكل به لهيبا جسديا مغازلا لكل من تناوله، بالنظر إلى كلماته المقولبة، الصلبة، وهي عبارة عن مزلوق بالنفط (البترول)، وفي الأخير، يحرق ويرمى رماده في عمق مياه نهر الدجلة. أما نيران حريق رينبو، فهي موجودة باليمن وبأريتيريا أين تم قص جناحيه، إنه الملك الموجود في حرقة الغربة مثلما وصفه كلودال حين يذكر بدايته الفنية والشعرية والذي ختمها بملك في ثوب الشيطان، ذلك ‘'الزوج الجهنمي''، إن كان من حقنا أن نحكم عليه كذلك، حيث لم يكن على علم إنها حقيقة بملك. في الوقت نفسه الذي أصبح فيه كثير من الصوفيين يقولون شعرا، ها هو رينبو يصول ويجول على ضفتي نهر الصمت. بين آثر رينبو ومنصور حلاج يوجد مثلما اشرت له سابقا، وصفة تبادل شعلة شعرية، إلى جانب لقاء مرعب عند نقطة التقاطع بينهما. هذه الصيغة في حد ذاتها جد جميلة، لذا، فإن شخصية رينبو جد معقدة لدرجة إن هاته الصيغة لا تغطي سوى جانبا من جوانب عبقرياته ومهاراته، حتى إن جاك ريفيلرذهب إلى أبعد مما وصل إليه كلودال، عندما وصف رينبو بأنه لم يرتكب طيلة حياته أي مكروه، خطيئة أو أي نوع آخر من المحرمات. فيما يخصني، أنا مهتم كثيرا ببودلار، ورينبو، ومالارمي، وكالودال وغيرهم، إلى جانب كل شعراء الحداثة الغربية؛ لقد تشرفت بقراءة مؤلفاتهم بكل حماسة، حيث شكل مضمونها بالنسبة لي العديد من التساؤلات في بعض الأحيان، بينما كنت أتقاسم مطلق أفكارهم وتصوراتهم في أحيان أخرى، وبنوع من التوافق والتواطؤ في بلورتها. نعم، أنا أهتم أيضا كثيرا بأعمالهم على اعتبار أنني قارئ عربي ولبناني الأصل على أحسن تعبير، ميال بشكل ملفت للانتباه إلى عنصر الحداثة، التي أود أن أنير فضاءها ببعض من مؤلفاتي الخاصة التي هي متمركزة في حدود إقليم هذين المجالين ألا وهما؛ العربي والغربي. لقد سبق لأدونيس أن كتب فيما يخصني بنوع من المرونة، حيث قال؛ "ستيتيي شاعر عربي يكتب بالفرنسية''، بمعنى أنه حتى لو كانت لغة كتاباتي هي اللغة الفرنسية، غير أن ‘'صوري العميقة'' بالرجوع إلى مصطلح بودلار، تنبع من عمق أصولي، وبما أنني شاعر تغوص جذوره الضاربة في أعماق اللغة الفرنسية وكذلك في باطن المخيل العربي، ذلك من دون أن ننسى أن من هذا الشاعر إلى ذلك توجد عدد من تلك ‘'الينابيع الباطنية لجوف الأرض'' الخاصة بطبيعة اللاشعور كامتداد لينبوعي الشخصي، وهو الحال نفسه لوضعيتي الموصوفة بالمنفردة، كونها لا تختلف في شيء عن كل هذا. أنا اقول؛ ‘'ينبوع باطني''. غالبا ما كان شعراء على خلاف انتمائهم إلى حضارات مختلفة وكذلك لغات ومراحل زمنية مختلفة، غير أنهم كانوا يحملون في عمق شخصياتهم حاسيه الحدس المشتركة التي تؤسس للفن بنفس تلك الحركات المعروفة لدى ضربات البرق المتسارعة والقوية جدا، لأن في آخر المطاف، وحسب متطلبات الحكمة والأخلاق العامة، يعتبر الشعر تلك المادة أكثر تقاسما عبر العالم، لما له من جمال ومعان مشتركة في حياة المجتمعات والأشخاص، جماعات وفرادى، لكن، وللأسف الشديد، هذه المتعة هي غير معروفة ومشتركة بالنسبة لجميع سكان العالم، على الأقل في مجال صيغتها الأدبية الأصلية والأصيلة، ويبقى أنني جد متيقن ومتأكد تماما مما يقوله بودلار في هذا المجال حينما يزعم أن ‘'الإنسان في حاجة أكثر للشعر مما هو بحاجه إلى الخبز''. بطبيعة الحال، إن الإنسان في حاجة ماسة إلى مادة الخبز، ولكنه هو كذلك يرغب في حلم تحصيله وكيفية تمكينه من تحقيق كل ذلك، أي بمعنى آخر أن لكل واحد منا رغيف خبزه الخاص به، حيث يجده هذا في الغناء وأولئك في شدة الحب، بينما يراه آخرون في مجالات السفر والمتعة والنزهة وغير ذلك، وهكذا. فكل واحد من هؤلاء يجد شعره المفضل أمام عتبة باب منزله الشخصي، على اعتبار أنه ليس بنفس الشعر بالنسبة لهذا الباب وذاك، أو من هذا الرجل وتلك المرأة نحو شخص آخر، ولكن جميعنا في الوقت المناسب نطرق نفس الباب، ذلك المكان الشخصي المعروف بباب سجننا الحميم والمنفرد. مثلما صرحت بذلك في بداية حوارنا، أنا كنت أسعى ولا أزال دائما كذلك، يشكل هذا الأمر أحد مواضيع أبحاثي الثقافية، حتى أكاد اسميها ب ‘'المادة التي تحترق كوقود لسلطتي الروحية'' في إنعاش وإحياء بداخل نفسي ومن حولي ل''النقاش ثقافي." السبب في ذلك يعود من دون أدنى شك إلى أصولي اللبنانية، على اعتبار أن هذا البلد الذي يحوي ما لا يقل عن تسعة عشر جماعة أو طائفة ثقافية إلى جانب ثلاث أو أربع لغات، هو بمكانة ذلك البلد الذي يزرع في نفوس مواطنيه رغبة البحث عن بعضهم البعض وصيغ التقارب من الآخر، وإلا ستزول كل سبل المعيشة المشتركة فيما بينهم. كان لي دائما اهتمام بمسألة الديانة والعقيدة، وفيما يخص هذه الظاهرة بالذات، بحثت وقرأت بعمق في الدين الإسلامي عن مؤشرات الحضارة الإنسانية، وهي تلك الحضارة الأكثر إنسانية من الحضارة اليونانية، وأكثر من هذا، من إنسانية التقرب من المولى تعالى مما هو الحال عليه بالنسبة للمسيحية واليهودية والبوذية. لكن كل هؤلاء الإنسانيين هم من أهلنا، لأن كل واحد منهم يساهم في توسيع المجال المكمل للرقعة العامة للقاعدة المشتركة، حيث يوجد كذلك في الدين الإسلامي، لما نبذل المجهودات الكافية لقراءة فكره وروحه، مثلما أحاول القيام بذلك من جهتي بواسطة تقربي المستمر من معرفتي لجذوره الثقافية وغير الثقافية، العدد الكبير من إمكانات التحاور مع الأفكار الحية الأخرى، الحية كذلك برموزها وبتصوريتها وخططها التفكيرية. يبدو لي أن إحدى هذه المشاريع الثقافية الأكثر حماسا في تحقيقها، كون آثارها تعود بالغنى الفكري والعقائدي على البشرية، تكمن في إحداث مجال الحوار الفكري البناء لصقل تلك القواعد الخاصة بمختلف الثقافات في نفوسنا، ومن هذا المنظور بالذات، ارتأيت أن أهتم بموضوع رموز الراح، والذي هو في أغلبية المعتقدات البشرية يوجد مصحوبا بمعامل روحي وسري، حتى بداخل الإسلام الذي يمنع تناول الكحول كمشروبات طبيعية، والذي بالمقابل يجعل منها أحد الرموز للعناوين الصوفية، بما أن الراح يصبح شاهدا على نشوة المولى عز وجل؛ حيث سبق لي وأن ترجمت وحللت ذلك الموضوع المتعلق بالخمرية (الموجود كذلك بكتابي في مكان الحرقة)، أي بمعنى آخر ‘'كلمة مديح للراح'' لعمر بن الفريض، وهو شاعر القرن الثامن ميلادي، الذي كان يرى من خلال مؤلفه الرائع من كل الجوانب، أن ثمة في الخمر مبدأ الاتحاد مع الإلهية، حيث أن مثل هذا الحدس موجود في تجاوز الحد عند اليونان، وبطبيعة الحال، في تلك الإشارة الخاصة بالاتحاد في الإيمان إلى عملية تناول الخبز والكحول المكرسة عقائديا. وهناك مثال آخر يتعلق بالسحب، بصفتي مهتم بتلك المادة المكونة لثقافة روح السحب، حسب ما هو ممكن استخلاصه من كتاب القرآن أو من الإنجيل أو بصفة عامة من الممارسة الصوفية والشعرية؛ بحيث أن جوف، وهو شاعر فرنسي كبير وشهير، يعتقد أن السحب هي تشكل مركز احتباس، متقاسما في هذا نفس وجهة نظر المستشرق لويس ماسي نيون. وأما بودلار، ذلك الشاعر الفرنسي الكبير والشهير أيضا، فهو يعتقد أن السحب هي بمثابة أماكن ذلك البر الآخر بامتياز، حسب ما يقول في نفس هذا الموضوع و''السحب، تلك السحب الرائعة''. أنا إفكر إذن جيدا في هاتين التجربتين المتضادتين والمتناقضتين في محاولة مني أن أضمهما لبعضهما البعض في مجال نظرتي الخاصة للسحب، وفقط إلى عملية ممارسة الحدس فيما يخص تلك المادة الغنية بالرموز. بطبيعة الحال، حينما أنطلق في غالب الأحيان من الشعر، أقوم بتشكيل معجم مرجعيتي العميقة، قصد بلوغ ذلك التفسير الشخصي الذي أبحث عنه، وأنا معتقد أنني تأثرت بما فيه الكفاية من كل تلك المحطات التي مررت بها. في الحقيقة، يوجد شيء من المنطق الفاليري في هذا النوع من المنهجية، كما أعتقد أن اكتسابي لهذه القناعة يرجع بالأساس إلى تكويني الديبلوماسي الذي مكنني من اكتساب ثقافة التفاوض حول وزن ومفهوم ما هو خفي أو باطني عند الإنسان ومؤثر في صنع الفكر لغرض القيام بهذه المهام نفسها. إن إبداعي الشعري الذي هو في أصله مبني على الجانب العاطفي والحنان والتلقائية في تشكيل قالبه ونمطه، يتغذى بالضرورة من تلك المادة التي تخرج من تلك الابرازات المفرزة الناتجة عن انكماش السر للضمير الإنساني، هذا السر نفسه الذي يحوي على العبارة والكلمة المكثف بتلك الصور الشخصية لغرض تشكيل لحمة وحدة موحدة تنبعث منها موسيقى التعبير عن الشيء أو رغبة ما. أنا أكون مطمئنا على نفسي ما لم تكن كل هذه العملية قد حصلت فعلا من تلقاء نفسها وبنفسها في عمق كل تلك الأشياء المعيشة، حينئذ فقط أستطيع أن أرسل للعالم بكل تلك السهولة في سيولة أداءها، حتى وإن تعلق الأمر بذلك العالم المخرب والمدمر، وهذا هو فعلا ما أسميه بالموسيقى. كان لغبريال بنور دور عظيم في حياتي الخاصة وكذلك بالنسبة لعدد من الشعراء المعاصرين، فكان بذلك الصديق وفي غالب الأحيان بالمكتشف الحقيقي لموهبة كبار شعرائنا الحاليين، فعلى سبيل المثال؛ في عام 1942، قام اندري جيد بإلقاء محاضرة تحت عنوان ‘'لنكتشف معا هنري ميشو'' والتي نشرت بعد ذلك بمجلة ‘'المجلة الفرنسية الجديدة''، غير أنه في سنة 1930، كان قد سبق لغابريال بونور أن كتب ونشر في هذه المجلة نفسها نصا رائعا جدا في مجال الحدس لهذا الكاتب نفسه، أي هنري ميشو، حيث اقترنت هاته الحادثة بصدور كتاب لهذا المؤلف تحت عنوان ‘'من كنت أنا''. أياما بعد ذلك، كاتبني هتري ميشو، وهو يعرب لي عن ذهوله ودهشته من مؤلفات بونور. وأما ماكس جوب، روني شار، آندري بروتون، سان-جون بيرس، بول كلودال، آندري سوارس وكذلك جوف، فكل هؤلاء كان لهم تقدير كبير لحد الورع الحقيقي تجاه ذلك الناقد الأدبي المتمثل في شخص غابريال بونور؛ أما فيما يخص المعني بالأمر، فكان من جانبه يشعر ببعض من التأثير الساحر تجاه العالم العربي الذي عاش فوق أراضي إقليمه وبين أحضان أمته ما لا يقل عن أربعين عاما كاملا؛ خمسة وعشرون منها في لبنان والبقية بالقاهرة وبالرباط. هذا الرجل الذي ازداد بعام 1885 هو متحصل على أعلى الشهادات الدراسية في مجال الآداب بعد ما كان خريج المدرسة العليا للمعلمين، حيث التحق منذ بلوغه سن الثانية والعشرون بمحرري المجلة الفرنسية الجديدة، والتي بقي بها من بين أحسن متذوقي فن الشعر بها على الإطلاق، حيث كان حقا بمثابة ذلك القناص الذي يعرف كيف يصطاد من دون أن يرتكب أي خطأ في كشفه عن منابع تلك ‘'الروائح الجميلة والعطرة النموذجية'' الموجودة بالقصائد الشعرية للمواهب الصاعدة والواعدة عند فئة الشباب. فإلى جانب مساهمته بمجموعة أخبار ووقائع نشرت بالمجلة الفرنسية الجديدة وكذلك بمجلات أخرى جد راقية مثل مجلتي بيفور وتجارة، لم يقم طيلة حياته الأدبية الحافلة بالإنجازات النقدية سوى بمؤلف واحد ويتيم صدر في سنة 1957، بعد إلحاح كبير من سيوران ومي شخصيا، أنا العبد الضعيف، حيث حمل هذا المؤلف الجميل جدا عنوان ‘'لعبة المارال قرب عتبة الباب''، وهو الكتاب الذي أصبح اليوم محل بحث واهتمام الكثير من العارفين بقيمته الأدبية، بعد أن كانت كل نسخه قد أتلفت بدعوى نقص قرائه، وذلك ثلاث سنوات فقط بعد صدوره، بالرغم مما كان قد حصل عليه من صدى إيجابي وتوقعات كبيرة بنجاحه من قبل المختصين في هذا المجال. هذا الكتاب كان قد استهوى النقاد مباشرة بعد صدوره عندما خصص له موريس نادو مقالا صحفيا متحمسا، متبوعا مباشرة بآخر لغايطن بيكون، ثما ثالثا ممضيا من طرف شاب غير معروف يدعى فيليب جاكوطيت. أحيطكم علما أن بونور هو من قام باكتشاف، على غرار أقلام آخرين، كلا من ماكس جاكوب، جورج شيحادي، ايدموندجابس، فيما يمكنني أن أكون فخورا بكوني كنت طالبا بالمدرسة العليا للآداب ببيروت تحت رعايته، حيث حظيت بمحبته وتشجيعه لي في أعماله في الأيام الأولى لمشواري الأدبي. وبونور هو الذي قام بتقديمي بباريس إلى صديقيه لويس ماسينيون، ذلك الأستاذ الذي كان يشتغل بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا (الفرقة الخامسة) وكذلك بالتكميلية الفرنسية. كنا آنذاك في سنة 1950، حيث حثني بكل إلحاح على متابعتي للدروس العظيمة لذلك المستشرق الكبير، على غرار ما يقوم به في مجالات عدة ومتنوعة. الموضوع الذي كان يقوم بتدريسه بونور كان يتعلق ب ‘'تلاميذ سايس''، أما دروس ماسينون فكانت بالنسبة لي كمدخل للصوفية، وبالأخص إلى تلك الصوفية الخاصة بالوصية للحلاج، ذلك المتصوف وشهيد الإسلام للقرن العاشر الميلادي. هذان الرجلان هما من زرعا في نفسيتي بذور التكوين الشعري والفكري، كما أني مدين تجاه ماسينيون بفكرة رجوعي للكتابة باللغة العربية، على اعتبار أنني تماديت كثيرا في نسيان مقاسمتي ومشاركتي لهذا الرجل لاندفاعه وإيمانه القوي والشديد، ذلك الملقب ببلاز باسكال للعصور الحديثة، ذلك الفارس الشهير للكوارث العميقة، والذي كان مثل صديقه غاندي يرغب في أن يأتيه الموت بصفة مفاجئة وجد عنيفة من موقعه أنه سيموت في سبيل خدمة تلك القضايا الكبرى التي لطالما ضل يدفع من أجلها مثل استقلال الجزائر واسترجاع محمد الخامس، الملك السابق للمغرب، لتاجه الذي انتزع منه من طرف فرنسا، إلى جانب تلك البداية الدموية للمشكل الفلسطيني المفجع. كل القضايا الكبرى التي كانت آنذاك مطروحة على الساحة السياسية شدت انتباه واهتمام هذين الشاهدين على صدق وشرف الوجود الشعري والفكري للإنسانية؛ كما أنني حولت من جهتي أن أبقى دائما وفيا لذاكرتهما، لأكون حسب إمكاناتي مستقبلا من أمثالهما. ما هوالمعنى الذي يجب علينا أن نستخلصه من كتابة أي كتاب ما؟ هناك أشكال متعددة ومتنوعة لتأليف الكتب، وذلك ما يعني عادة -وهو عمل على قدر عظمة كبيرة من الخوض فيه- أننا بصدد الإعداد ‘'لهندسة وصناعة'' هذا الكتاب. نحن ننتج كتابا مثلما ننتج طاولة أو نصنع خزانة لكي تصبح في الأخير صالحة لاستعمال ما، أو حتى تستغل لهدف ما، وفي غالب الأحيان هي موجهة إلى مستهلكين معينين يعبرون عن قبولهم لمهمتها بشكل صريح ويرغبون في اقتنائها مقابل مبلغ مالي ذي قيمة معينة ومعدودة. ثم إن هناك كيفية أخرى لكتابة الكتب والمؤلفات، كونها تكمن في المبادرة لمحاولة إيجاد الحلول لآلاف المعادلات الخارجية كي نتمكن بواسطة الكتابة من المرور عبر خطة محكمة لخرق ما هو غير شفاف إلى عمق المسائل الغامضة والمظلمة. فبالنسبة لي، الكتابة هي كل هذا؛ أي المحاولة في البحث عن المعنى المفقود أو ذلك الذي هو مخفى تحت آلاف حوادث الحياة وتلك الروح الباحثة عن تنكرها لها أو إهدارها التام لهذه الفرصة الكبيرة لتشريح الموضوع المعالج. بمعنى آخر، تأليف كتاب ما يعني كذلك عملية الحصول على غاية الشفافية عبر كل أقطار وأقاليم العالم، حيث ما وجدت. أي حقيقة، نحن نسعى جميعنا في موضوع حياتنا الداخلي مثلما لو تعلق الأمر بتعاطينا لحلم ما، حيث بإمكاننا لغرض الخروج من تلك الوضعية المحرجة لذلك النقاش الداخلي الذي يدور في مخيلنا، في نوع من تلك الحلقة غير المتناهية، في محاولتنا للإعداد لخارطة ما أو لسبب الوقوف على وضعية معينة. ويتعلق الأمر بخارطة الإقليم أو الخارطة الخاصة بالأرض، وبمخطط المسح للأرض، أو كذلك بخارطة السماء بواسطة الكواكب الأولى التي تصنع شكل الواجهة. إن الكاتب أو الشاعر سوف يستغرقان كل زمن حياتهما في محاولتهما لتجاوز المسائل الحدودية الأولى للجغرافيا في رسم معالم فضاء أوسع والذهاب إلى مجال بعيد، من أجل اكتمال المعنى والبحث عن سبل إطغاء الصفاء عليه ومرونته. والعمل هذا نفسه ما سينجز من خلال كتابة هذا الكتاب ثم ذاك، طيلة حياة المؤلف من أجل التغلب على صعوبات الكون المبهمة لغرض السيطرة عليها إن استطاع أن يأخذ من ذلك قسطا حتى ولو كان قليلا من تلك الأشياء التي من غير الممكن إدراكها. عملية تأليف كتاب ما هي كذلك التعود على استعمال والتجاوب مع بعض من الكلمات الخاصة بالمرء، لأننا جميعنا تحضرنا كلمات وتفرض نفسها علينا بقوة وكأنها قد نحتت في حلمنا أو عبر خبراتنا وتجاربنا في حياتنا، على اعتبار أنها ليست ب ‘'تحفة للزنة ملغاة من عالم الافتخار السمعي''، ولكن بالعكس هي حبات من ماء معدني يحيط بجسم صلب، وكذلك جواهر السعي وراء النفس، أو الوردة الحقيقية، أو سحاب حقيقي، أو وجه حقيقي وحقيقة الرمل، إلخ. كل ما هو ذو قيمة كبيرة في هذا العالم هو كذلك سريع الاندثار والتبخر، وعليه فإن الشعر والكلمة الشعرية، مهما كان طابعها، عليهما بالاستغلال السريع لتلك اللحظة المناسبة التي تمثل واجهة الشيء الحي. هذه الكلمات التي أقولها تنطبق على العالم الداخلي والخارجي، بصفتها كلمات ذات الطابع الوجهي المزدوج وكذلك كونها كلمات حدودية. كل واحد منا يحجز لنفسه ضمن ذلك الوعاء الكبير الذي تحتويه اللغة من ثراء كلماتها البعض منها، والتي ستصبح بصفة أو بأخرى في الأخير ملكا شخصيا له من خلال ذلك الاستثمار الذي تمثله بالنسبة له، الاستثمار هو فكري بطبعه، غير أنه كذلك استثمار في الجمال اللغوي. أنا أؤمن كثيرا بهذا الجمال، حيث ب ‘'لمسة واحدة، أستطيع أن أردك تبرق بكل أضوائك''، هذا البيت الشعري الذي وصف به الشاعر بول الوار امرأة كان يعشقها ويحبها كثيرا، أنا أقوله وأردده على نفسي بكل ما تحمله الكلمات التي أعتقد أنها أصبحت لي من معان، آملا في أن لمستي ستنيرني بفضلها. هذه الكلمات هي في بعض الأحيان وعند البعض منا في حاجة إلى رنة غنائية انفرادية عفوية وتلقائية، وذلك ما يحدث ظهور الشعر من قوة الذات، من عمق الشعور والقلب المتألم أو المسرور، مثلما ذهب إلى ذلك آب ولينار على سبيل المثال. وقد يحدث أن يكون الشعر نثرا، بحيث أن جولبان غراك، الذي يعتبر أحد مراجعي، هو أصلا شاعر رائع ولكن أهم مؤلفاته كتبت على شكل النثر. أما أنا، فأعمالي الأدبية ارتبطت أساسا بقصيدة واحدة رافقتني طوال حياتي، حيث تمت بينهما تلك الألفة كلما تطور وأخذ بعضا من الحجم والاهتمام إلى غاية أن أضفت دراساتي بعض الإنارة على محتواه لغرض شرح ما كنت أود الكلام عنه. في آخر مؤلفاتي أي كتاب ‘'في مكان الحرقة''، الذي صدر في تلك السلسلة الرائعة ل ‘'بوكينس''، يوجد الكثير من كتاباتي النثرية التي تهدف سواء إلى منحي مفتاح كلماتي الشعرية الشخصية أو، من خلال بعض الكتاب والشعراء الآخرين، التي ينصب عليها تفكيري، إلى رسم وجهة نظرهم ومكانتهم لغرض فهمها أكثر في إطار العمود اللغوي ونوعية شعرهم، على اعتبار أن الشعر هو الأكثر توجها عموديا من كل باقي الاتجاهات الأخرى. أعيد وأكرر؛ بالنسبة لي، اليوم تجربتي الشعرية عوضت تلك التجربة الأخرى العظمى والتي لطالما كانت تعرف بالتجربة الصوفية. ولو كنت على علاقة جد مقربة من المولى تعالى، لكنت ربما قد لقبت بالقوال. أجرى هدا الحوار عمر مرزوق/ ترجمة سلامنية بن داود