عند انتهائي من محاضرة كنت ألقيها، ويعود تاريخها إلى نحو سنة تقريبا، أحد الحاضرين قام بمغادرة مكانه بالقاعة متجها نحو المنصة أين كنت متواجدا لغرض إرباكي، لعله لم يكن موافقا على موقفي من الحضارة الإسلامية، ربما لحكمه المسبق على ما تفضلت بتفسيره، ليعرب لي من دون أي لباقة عن أسفه أنه على الأقل الظروف القائمة حاليا هي بعيدة كل البعد عن ذلك الزمن الذي كنت بصدد الكلام عنه. ألم يكن الإسلام آنذاك، بصفته مهدا لشعاع تلك الثقافة المنيرة والرائعة، المتشبعة بفضائل التسامح والحب للعلم والمعرفة، عرضة لتلك السخرية المضحكة، لو لم تفاجئنا تلك الأحداث الأليمة التي تبناها بكل قوة؟ وهل كان ممكننا لهذا الإسلام المسيء لمجمل الحريات أن يصبح بذلك المرفأ القيم للحضارة، وأن يصبح خلفاءه وأمراءه بأولئك المحافظين على الفنون والآداب، على غرار مثقفيه الذين تعلقوا كثيرا بالفلسفة، اليونان والفرس والهنود؟ غير إن ذلك المشكل الذي طرحه ذلك الشخص، من دون أن يشعر ربما بمدى أهميته وخطورته، هو في واقع الأمر أكثر تعقيدا مما يعتقد، على اعتبار إذا ما افترضنا أن هذا الإسلام بالذات هو الذي كان قائما آنذاك، فكيف إذاً لنا أن نفسر ذلك السقوط غير المحتمل في حضيض تلك البربريات السافلة؟. إن تلك الأسئلة التي أثارها هذا الرجل إاستوقفتني وترددت كثيرا في ذهني، ليس فقط أنني كنت لا أشك، ولو لحظة واحدة، في أن حضارة من هذا الطراز الرفيع كانت بالفعل موجودة على أرض الواقع كحقيقة ملموسة، وإنما على أساس أن بداخل تساؤلاته كانت توجد مشاكل مخيفة ومرعبة، وإن كان آنذاك يحتمل وجود أي عدو لدود بالنسبة للغرب، حتى قبل ظهور السوفياتيين وما كانوا يقومون بمهام وأعمال لهم في هذا المجال، فهو من دون أدنى شك الإسلام، ولكن لما غادر هذا الإسلام عالم المعرفة وحظيرة العلماء لغرض انتشاره عبر العالم، عن طريق الدعاة والمبشرين، بمفهومه بكل أقاليم المعمورة، حصل أن فُهم خطأ من هذه الدعوى، على أنه كان يحوي في طياته معاني تلك الأيدولوجية الداعية إلى الذعر والهلع، وكذلك إلى الإقصاء الديني كمنطق لانتشار وبسط مذهبه. وكل تلك الضبابية التي أقحمها هذا المشارك في صلب الموضوع المعالج من طرفي، والتي كانت تلف بجناحها الغموض في زرع الشكوك في ذهن الحضور، ها هي تتبدد وتتشتت تماما بمجرد أنني أتصفح ورقات كتبها إبن سينا، وهو أحد الفلاسفة البارزين الذين لم تنشر أعمالهم بالمشرق، حيث حصل لي أن وجدت في نفس هذا الكتاب والنصوص التي يحتويها كل الأجوبة المناسبة لتلك الأسئلة التي طرحت علي في ذلك المقام والمكان. وإن كان الإسلام مثالا لتلك الحقبة الزمنية الزاخرة، حيث كان بوسع الذكاء الإنساني إمكانية التمتع بحرية المسار، بصفتها فسحت المجال لترجمة ذلك الإرث الثقافي اليوناني والبيزنطي والفارسي والهندي حتى يؤخذ به على أساس مادة دسمة مدعمة للفكر المكتشف والمخترع، في مهام توسيع وتعميق الإكتشافات، فإن ذلك يرجع لا محالة لرجال من أمثال إبن سينا، وهو أحد أعمدة الفلسفة الإسلامية، حسب ذلك الوصف الذي حضي به من طرف أحد المختصين الكبار في هذا الموضوع. لكن أليس جل لب الموضوع يكمن في شخص إبن سينا نفسه، الذي لم يعد في الظرف الحالي سوى إسما على ورق؟ ذلك الإسم الشهير الذي هو من الصعب جدا الوصول إليه، بحيث إن صيته الغريب جدا يخفي تحت عناوين هالة المجد لأعمال ذلك العبقري الذي استطاع أن يشق طريقه بسماء المشرق الفكري مثل الشهاب. وإذ هو يتحدث بلغة عربية، لا يحسن استعمالها سوى العدد القليل جدا من العارفين بأسرارها وجمالها لما لها من صعوبة في نسق أسلوبها وتعقيديها، فإنه يقترح حوصلة أصيلة لفلسفات أرسطو وبلوتان، بما أنه كان وراء بلورة أفكار شخصية كان لها الشرف أن اعترف بها مفكرو العصور الوسطى، حيث أنه استطاع كذلك أن يصل بطريقة أخرى إلى صياغة كيفية طرح الإشكالية. فلا واحدة من هاته القضايا الفلسفية جد الهامة أفلتت لحدة بصيرته، سواء تعلق الأمر بمسألة المرء، أو تلك الخاصة بالإختراع، والمثقف، والصوفية والنبوة، فنجم عن كل هذا المخاض منطق فلسفي استطاع أن يفرض نفسه، حتى وإن كان يؤدي إلى حد الوقوع في الخطأ في المجال الديني والفلسفي الذي يثبت وجود الله تعالى والكون، وهو الموضوع نفسه الذي يثير الجدل إذا ما تعلق الأمر بإبن سينا. ولكن، فربما أن سلالة إبن سينا ثأرت لنفسها ضد إبن سينا من ذلك المجد الذي أوزعته إياه، لما اكتشف لاتينيو العصور الوسطى منذ نهاية القرن السابع ميلادي وفجر العصر الثامن، رسائله وأبحاثه الهامة عندما قام الفرنسي ريموند دو سوفتاة، وهو رئيس أساقفة توليد بإعطاء إشارة هزة ترجمة الأعمال الفلسفية العربية، ومن بينها تلك الخاصة بإبن سينا. نجاحه فيما يخص الفيلسوف الحمداني عند المسيحيين كان "فوري"، حسب ما كتبه جيلسون، إلى درجة أن إسم إبن سينا أصبح بعد ذلك مباشرة ‘'مأنوسا عند كل فلاسفة المسيح''، ويعود جيلسون ليقول إن سلكة إبن سينا في ظرف زمني سريع جدا ‘'جد هامة خلال القرن الثامن الميلادي''، غير أن تلك الفترات الزمنية التي مرت بها العصور الوسطى أخلطت كثيرا خيوط البنوة الفلسفية. إن إبن سينا، على غرار باقي أمثاله الكثيرين، وصل إلى أوروبا المسيحية من خلال أعماله المترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية التي لم تكن في معظمها في مستوى الحداثة للمهنة النبيلة، فبفضل نصوص إبن سينا، إن الإرث ‘'البلوتيني'' أصبح يرمز إلى الغرب المسيحي بعد أن كان قد غزى في زمن مضى القطب الجغرافي للمسيح. إبن سينا، كان، أبى أم كره، بمثابة نوع خاص من ممرري الهرطقة، أي البدعة في الدين، على اعتبار ذلك البروز السريع والمفاجئ للتناقضات القائمة ما بين تلك الأطروحات ‘'الأقسيين'' المحضة ورسالة التعليم المسيحي. إن قوة السلطة الموجودة في عمق الديانة المسيحية وكذا تبجيل العقيدة أظهرا نوعاً من عدم التلاحم والملاءمة مع فلسفة أرسطو المندمجة في النظرية الأفلاطونية لدى إبن سينا، ولكن ذلك الفيلسوف الفارسي أصبحت نظرته تستقطب الكثير من الأنصار، هذا وإن كانت حتى نظرية سانت وغستان نفسها لا تخلو من تأثيرها من ذلك الهجوم ‘'الآفيسياني'' لتثمر مثلما ذهب إلى وصفه جيلسون ب''الأوغستيني المؤفيسين''. إن ذلك التفوق التقدمي لإبن سينا، لم يدم سوى لفترة وجيزة من الزمن، حيث إن الظهور البارز لفيلسوف عربي آخر، وهو إبن الرشد القائم بإقليم إسبانيا، تمكن من القضاء على شهرته بسرعة، كون ذلك الإشهار للتيار الأفريستي هو بمعنى آخر أسهل في تناوله وشرحه بكثير من نظرية إبن سينا، التي تعرضت لنقد مدمر، وعلى وجه الخصوص ذلك الذي أتى على يد وبقلم توماس داكين ضد ‘'الآفيروييسم'' . على اعتبار أنه كان مدفونا تحت الرماد المكثف لقرون خلت، بإقليم الغرب وحتى بالمشرق، وهو محل مطاردة وهجومات من طرف دكاترة القانون، للأبد وفي أي مكان، بذلك التوافق الجيد ومن طرف الجميع، إن النظام الآفيسيني قد اختار أن يدافع عن نفسه، وهو يشق طريقه متجها نحو عالم الديانات المنفرج، بواسطة منطق مبني على عقلنة وشدة كبيرتين لا تحتملان أي هفوة، كي تتمكنان من الإنفصال النهائي عن تلك الأزمات السياسية الحادة، وكذا عن تشتت الإمبراطورية الإسلامية، بصفة جد دراماتيكية بالنظر إلى أن الثورة المضادة المنتمية إلى الحنبلية كانت قد عرفت منحنى الإنحطاط والتلاشي بالتحاقه بذلك الحضيض الذي كان يقبع فيه العالم الإسلامي. ولكن، أي عمل فكري مطعم بالمضاربة الميتافيزيقية، وحتى التيوزوفيق، مثل ذلك الخاص بإبن سينا، بما يحمله من تجربة سياسية وحتى في جانب الحياة الخاصة مثل حياة هؤلاء، المبنية أساسا على المغامرة واحتمال وجود الخطر، هي في الواقع موجودة كي نتعلم منها عن طريق الإستنتاج أو الإستنباط القيم والرائع على حساب تلك الدروس المستخلصة من تجارب العالم. وبما أنه ملم في اختزاله لفقدان الوعي السريع والكامل، ذو القطع الناقص بسبب التكثيف، فإن خطاب ابن سينا تلفه بطبيعة الحال بعض قطع الحسيرة المثيرة للغموض، والتي من شأنها أن تطفي عليه ذلك التفشي المبالغ فيه للمنطق الفلسفي الفاقد للوضوح عن طريق تلك البحوث الخالية من الدلالات المحصل عليها في المدرسة، فإن لم يكن بإمكان أي عمل من أعمالنا أن يفلت من سهولة تفسير ما قام به إبن سينا من مؤلفات، يبقى وإن لا شيء أو لا أحد ما يذرع أكثر ضد الإفراط في تقدير الأشياء على ما هي ليست بالفعل حالتها عليها. يعد إقتراح تناول موضوع حياة إبن سينا، عن طريق إعادة ذكر أو استنساخ مساره الرائع والفريد من نوعه على كل الأصعدة، هي بمثابة مبادرة في فهم الفلسفة الإسلامية، لما تحتويه من طاقات الإختراع والإبداع، وإذا ما ارتأينا أن نرمم ونصلح عملا نسيناه لإعادته لسابق عهده، وكذا الآفيسيين معه إلى عهدهما المنسي، فلا شك في أن هاته المبادرة ستعد من بين المهام الأكثر مثيرة للحماس بالنسبة للفكر الإنساني. إن وضع أقدامنا في مكان أقدام إبن سيبا (على اعتقاد أن ممارسة الفلسفة ما هي إلا الخوض في مسلك طريقا ما)، يعني ذلك بالضرورة التوجه نحو المشرق المضيء والمنير، إنطلاقا من بلد هذا الخرصان (أي بلد شروق الشمس)، وهو منبع الحكم العتيقة مثل تلك السلالة الإيرانية لإبن سينا، وأنا أقصد من خلال ذلك أن صهر وردي الشيخ المقتول سيتذكر ذلك جيدا. لم يحدث مطلقا عبر الزمن أن حصل لأي مفكر أن يستطيع أن يبين في المشرق عن مثل هاته القدرة، على أن يوصف بصاحب كل هاته المراجع الفلسفية، ليجعل منها مادة دسمة لخلق نظام بكون فيه الإرث الأرسطوليسيني بذلك الشيء الذي يذوب بداخل أرشيتوكتونية النيبلاطوتيسية. صحيح ان الفكرة كانت تحوم في السماء، حيث إن إبن سينا الذي كان لا يزال شابا، قد اكتسبها بعد وجودها عند الفارابي، غير أن إبن سينا نفسه هو من نظم لها منهجيتها وكذا زخرفة شكلها العضوي لغرض تقديمها على أساس نظام يعتمد على الحكمة ككلمة أخيرة، في الوقت نفسه الذي يزخر فيه بحقوق فلسفة مشرقية التي ستربك أصحاب خطابها الديني، فبفضل ذلك التنظيم المحكم لفكره وكذلك ذلك الفضول العام، آفيسان أخد الكثير من منهج ليبنيز وهيقل، كل من هؤلاء الفلاسفة الثلاثة، أي أفلاطون، أرسطو وبلوتان جسدوا الحقيقة، بما أن كل فلسفة كانت لها تعبيرا حول الحكمة، قد تختلف في الشكل ولكنها لا تختلف في المضمون. لكن يبقى وإن لا أحد من هؤلاء أو غيرهم استطاع أن يدافع عن مسألة الفلسفة بالمشرق بكل تلك القناعة مثلما فعل ذلك إبن سينا، حتى إن لا أحد كذلك تمكن من الوضع في خدمتها لكل تلك الإجراءات الفكرية وكذلك فن الإقناع عن طريق الخطاب بكل تلك الصرامة، ولكن الحكمة ليست هي بطبيعة الحال سوى بتلك المسألة الكبرى منذ عهد سقراط، أي مند ظهور أولئك الرجال الذين يتفلسفون من أجل إيجاد الحلول لمشاكلهم وتساؤلاتهم، حتى وإن حدث ذلك في شكل أسئلة مقلقة. أما ما هو بالحق يطرب عند إبن سينا، فهو ذلك الجهد الذي بذله بمناسبة ترجمته للنصوص الفلسفية اليونانية، والتي كانت تهدف إلى زرع منطق الفلسفة بأرض الإسلام، فهذه الفلسفة، أي هذا العلم الحديث، الذي نشأ باليونان ثم انتقل إلى المشرق عن طريق الترجمة هي على العموم مقبولة، بخوضها لمسلك شائك وملتوي، شديد الإنحدار في رحلته هذه التي لم تكن مضمونة منذ أن طرد الإمبراطور جوستينينيان الفلاسفة الأفلاطونيون الجدد من أثينه سنة 529. فكان هذا المجهود، قد كلل بالفعل بنجاح كبير، عكس ما يعتقد رينون، وبالرغم من تلك المعارضة الشديدة للعلماء ورجال الدين الذين كثفوا من عنفهم وشدة رفضهم لمنطق الفلسفة، ذلك العلم الذي كان يعتقد على أنه ‘'وثني وآثم''. إن إبن سينا هو من أوجد تلك الصيغ والعبر والمصطلحات التي تمكنت من أن تقطع تاريخ المشرق، على اعتبار أنها لاتزال إلى يومنا هذا تأثر فينا بشكل مميز في هذا الشأن. فعندما تسمح لي المناسبة بتناول بعض النصوص الفلسفية لأصحابها من المفكرين للمشرق أو المغرب العربي، مثل المعتزلة، الفارابي، آفيسيان، آفيرويس من إسبانيا، بعد مرور كل هذه القرون الطويلة من الزمن، يتبادر لذهني أن تلك الحياة المسلمة للمشرق هي التي تدق وتتخبط بداخل صفحات تلك الكتب الرائعة كلما شرعت في تصفحها كي تستوقف بمعنى أو بآخر العالم من حولها عن أمرها وأحوالها. عندئذ، أتوقف عند تلك الصيغ التي تتجاوب وتتناغم مع بعضها البعض، الكلمة بالكلمة والصوت بالصوت، في حركتها لاستقطاب الفكرة من عمق ذلك الصمت الذي يلف من حول بحياتنا اليومية، وحتى وإن كنا بالفعل غرباء عن محيطه، فإننا كنا دائما من بين ركاب هذه السفرية الأبدية، إذا ما سلمنا بأن قوة الجاذبية التي بقيت جد فعالة هي التي تحيرنا اليوم بعد مرور كل هذه القرون من الزمن. في الواقع، آفيسان كان هو نفسه وريثا، أي ذلك الوريث الأصلي الذي عرف على أنه صاحب تلك السعادة التأملية الموجودة في نظرية أسياد عالم الفلسفة الذين تأثر كثيرا بمنطقهم، مثل أفلاطون، بطبيعة الحال، ولكن أيضا أرسطو وبلوتين. حقيقة، حصل له في أن استخدم لصالحه البعض من المواضيع المعروفة لدى أسلافه الذين هو معجب بأعمالهم، غير أنه كان قد تمكن من أن يبعث إلى أبعد حد ممكن بمعنى وحدة التنظيم المعمول بها، وإن كانت الحكمة إحداهما، وإن كان قانون الكون هو الوحدة، أي ذلك المبدأ الذي يأتيه من مبدأ شدة الديانة الوحدة، وهي الإسلام بالطبع، فإن قانون الفلسفة يعمل بمفهوم المصالحة مع الذات والكون والآخر، وكذلك مع هوية هؤلاء المفكرين الذين سقطوا في متاهات الأطروحات المتضادة والمتناقضة، غير أنه يبقى من غير المستحيل إمكانية التقاءهم لغرض تفسيرهم. نحن نعلم جيدا أنه من غير الممكن أو المعقول دعم فكرة أن أرسطو وأفلاطون هما غير متناغمان في منطقهما الفلسفي، ولكن من هو ذلك الذي يستطيع أن يكتم أو يجحد بأن أرسطو لم يكن له أن استعمل لصالح أعماله ما أتى به أفلاطون من منطق للفلسفة؟ ألم يقم في يوم ما باستعماله لمصطلح ‘'نحن الأفلاطونيون''، وهي العبارة نفسها التي تكشف عن كل شيء في هذا المجال، ولما يشرع هذا الأخير في محاولته الصعبة للبحث عن أصول المادة، فإن أرسطو لم يخفي عائق تصرفه وتفكيره حول هذا الموضوع، حتى وإن كان نقده لأفلاطون يظهر على شكل ذلك المعنى الذي يتم تبريره على أنه بالفعل مبالغة في مجال الأفلاطونية. ولكن تلك الكيفية التي كان يستعملها أرسطو كي يطرح بمنطقها تلك المشاكل التي هو بصدد الإجابة عنها، تعتمد أساسا على ذلك الإلهام الذي اكتسبه من الفكر الأفلاطوني البحت. ولكن هل في ذلك شيئا فعلا محيرا؟ ألم يكن بذلك الوريث الذي يعتبر شيئا ما بالمتمرد، ولكنه كان بالفعل وريثا حقيقيا للأفلاطونية؟ وهل بدى آنذاك أنه من غير المجدي الذهاب إلى مقاربة لاستخلاص ما هو يجمع ما بين وجهات النظر الأفلاطونية والأطروحات الأسرطوية، حتى وإن كان في الظرف الحالي أشهر وأعرق المختصين في علم الفكر القديم يؤكدون لنا أن المنطق الفلسفي لأرسطو هو نابع من سلاح المفهوم الفلسفي الأفلاطوني. وعلى أي حالة، هل يوجد في فكر أرسطو أكثر من ذلك النقد ذات الصلة القيمة للموضوع مما ذهب إليه أفلاطون في كتابته ل''بارمينيد''، فيما يتعلق بفكره الشخصي؟ لم يلبث العالم الغربي، في أن تساءل حول موضوع أولئك المفكرين التابعين لإقليم المشرق في موضوع كيفية استقبالهم على أساس أنهم فلاسفة بأتم المعنى والصفة، بسبب إن البحث عن الحقيقة لا يحمل في حقيقة الأمر مفهوم ذلك الإستقصاء الذي غالبا ما يتكرر لغرض الكشف عن طرح مسألة مشكلة المرء (الإنسان). ثانيا، لقد عللنا كثيرا أن الإرث الفكري المشرقي كان يزخر بمظهر الخلاصة، والتعقيب، والقصيدة الشعرية، التي ما كان يغلب عليها طابع التكرار، في شكل أن كل الأفكار المتناقضة تجتمع في وعاء النص وتتعايش بدون ما تندثر أو تتبدد وتحطم بعضها البعض، وفي هذا الصدد، فإن تلك القصيدة الشعرية لبارمينيد والأقوال المثيرة لحكمة هرقل قد تبدوا لنا أنها بعيدة كل البعد عن الفلسفة وجمالها، حيث إنه، وبكل شدة وقساوة، تصبح تلك الخرافات الأفلاطونية موجودة بالصف الأول الذي هو من واجبنا ان نوظف لصالحه تلك الحكاية الرمزية الشهيرة للمغارة، كي لا يصبحا ذوي قيمة كبيرة، على اعتبار أنهما لن يعدوا أن يكونا فقط مثل تلك الحكايات التي نكشف عن حقائق اللغة التقنية للفلسفة لغرض دفعها للإباحة بأن كل تلك الثقافات الخاصة بالمشرق هي كذلك تزخر باحتوائها لمثل هذه القصص الرائعة. وعليه، فإن الأفلاطونية هي نفسها لا يجب أن نضعها في مقام الميتافزيقية، وبالأخص لما نأخذ بهذه الصفة بذاته، لذا علينا أن نقوم بسحب الكثير من هذه النصوص المستوعبة على أساس أنها فلسفية. وهل إن ‘'أفكار'' باسكال وكذلك ‘'تحاليل مبادئ روني ديكارت''، التي كتبها إسبين وزا، والتي ماهي سوى تعليقا حول فلسفة ديكارت الموجهة كمنهج للطالب، هي حقا تعتبر فلسفيا بالمعنى التقني للكلمة أو المصطلح؟ نستخلص من ذلك أن منظومة آفيسان هي بمثابة ذلك المثال المضاد الأحسن ككل. إن نسقه الفلسفي، صاحب الجمال العابس والنظام المميز، جعله يهيمن على الفكر الإسلامي برمته، وبما أن العصور الوسطى ظلت لفترة طويلة من الزمن بصدد مناقشة نصوص آفيسيان، فإن معاهداته أصبحت محل دراسة، ولفترة ما من الوقت، من طرف أصحاب العلم الواسع والفلاسفة، بالنظر إلى أننا تمكنا من التعرف على أرسطو بالغرب بواسطة إبن سينا. أما بخصوص إبن سينا، يجب علينا أن نذكر أننا أمام نمط فلسفي استطاع أن يعبر عن قوته الفكرية على كل الأصعدة وفي كل الميادين المعروفة لدى الجميع، حيث يتعلق الأمر بفلسفة تحليلية فيما يخص ‘'الشيفة''، وكذلك السيكولوجية الفلسفية إذا ما نظرنا إلى شكل القصيدة الشعرية، مثلما يظهر ذلك جليا في ‘'قصيدة الروح''، بينما يمكن الإستماع إلى صوته، في مخال الأسطورية والرمز، في حكايات العصفور، ولحيي إبن اليقضم، وسلمان وابصال. عموما، لا يمكننا أبدا أن نشكك في أن إبن سينا وأمثاله من الفلاسفة كانوا من بيت كبار المفكرين وحتى فلاسفة حقيقيين بأتم ما تحمله الكلمة من حكمة ومعنى، حيث إنه لما نتحول إلى ذكر وجه ما كوجه إبن سينا في الفهرس، حينها يصعب علينا كثيرا أن نعتبره مفكرا آخرا غير ذلك الذي ينتمي إلى مصاف أولئك كبار الأذهان الكبار الذين لم يحصل لنا وان عرفنا أمثالهم في مجال بعد النظر وكذلك قدرته الفائقة على التفكير المنطقي، بالعودة إلى تلك الموسوعة الفضولية التي أبان عليها، بالرغم من قصر فترة حياته. لكنه لا يمكننا أن نتجاهل الأمر إلى حد أننا لم نتعرف على إبن سينا سوى بواسطة ما يسمع وما يقال، حيث سبق لنا وأن قمنا بدفن هذا الإسم الجميل تحت بلاط الموتى، وهو السبب الوحيد الذي جعل أعماله لا تعرفها إلا القلة القليلة من رحال المعرفة والعلم الدهاة، وهو الأمر نفسه الذي يفسر صعوبة سطع نجمه بكل سهولة وإعادة إحياء إسمه. منذ فترة زمنية تعتبر بالطويلة نوعا ما، لم تجد منشورات آفيسان أي زبون ممن يريدون اقتناء هذه الأعمال، حيث إنه ولا نص واحد من هذه النصوص الهامة جدا، نشر باللغة الفرنسية، عدى تلك الزعمال الخاصة بالمصري ج. س. آناواتي. الفضل في ذلك يرجع إلى أحد الجامعيين الأمريكيين في نشر وترجمة ميتافيزيقية الشفة (الشفاء)، على اعتبار أن هناك جانب في أعمال آفيسان لا يقبل بالفيلسوف المهني الحقيقي أو القارئ الذي هو من ذوي الررادة القوية، والدليل على ذلك هو أنه يجب علينا أن نستوعب تلك المعاني الواسعة لموسوعة الشفة والتي يضم لها مبحث النجاة (كتاب النجاة) الذي هو يعتبر ملخصا لكل العلوم، وكذلك رسالة الروح (كتاب الأنفاس)، وكتاب التوجيهات والملاحظات (الإشارات والتنبيهات)، وبطبيعة الحال، مدفع الطب الشهير (القانون في الطب) حتى نسترجع يقظتنا. إن الأسلوب اللغوي الصارم والعابس، سيبقي على مصدر نخاع تلك الرسائل بداخل قلعة ذات الحصن المنيع التي كنا دائما نعمل على أن لا نسمح للمؤهلين بدخولها، إن طابع فلسفي غير عادي كهذا بالإضافة إلى مواظبة محتملة لكل طارئ يبقى محتوم عليها أن تسلك مثل هذا المنهج لكي تقتحم مثل هذه المتيهة النصية المشؤومة بالملاحظات، والنقد، والشرح للعبارات، والتعاليق، التي هي فوق كل هذا متشبعة بدم وافر يجوب خلاياها الصوفية المؤكدة. وعليه، فلما نغوص في عمق محتوى هذه النصوص حتى نتمكن من نرتفع إلى مستوى فهم الخطاب الآفيسياني، نستحسن جمال تلك الأعمال التي قام بها هذا الحكيم الفذ الذي استطاع أن يبني إحدى المنشآت الميتافيزيقية الشهيرة في العالم، ونعتقد أننا نستمع في كل أمسية إلى صوت إبن سينا وهو يتكلم إلى تلميذ الجوزجاني لكي يملي عليه محتوى رسالاته، حيث نكتشفه في ذلك النظام نفسه لرسالاته، فيما يخص تنظيم آليات وأدوات مذهب الفكر الصالح والدقيق والجريء وحتى الهدام، أي بمعنى ألوهية الطبيعة، حيث يمكننا أن نتابع رواية نظام اقتلع من طابع حياة مهولة ومتذبذبة بشق الأنفس لإبعادها عن إثر ذلك التناحر والتقاتل الحاصل ما بين فقدان الحظوة والشرف. وهنا بإمكاننا أن نتحصل على الكثير من الدروس في مجال كيفية قراءة كتابا مع العهد القديم جدا مثل أفلاطون، وأرسطو، وبلوتين، حيث إن مناهج اقتراب هذه الدراسات تسهم في توسيع مجال اكتساب تلك المعلومات الضيقة للفلسفة والعالم، لأن في آخر المطاف، الفلسفة ما هي سوى قراءة مكتوبة للعالم، وبخصوص هذه الدروس بالذات، التي هي أصلا موجهة إلينا، بما أنها من واقع زمننا، فيما هو دائم، عليها أن نتكلم عبر تلك المادة المندسة من تحت الحوادث لتظهر بعد إلى الوجود، كون المقاومة من أجل الصواب، ومن أجل حرية الفكر، ومن أجل إستقلالية الموضوع تعتبر في حقيقة الأمر من لب موضوع العيش، وكذلك من واجب تذكية العالم، وتلكم هي محركات الفكر والحياة عند إبن سينا. يعتبر إبن سينا أحد مفكرينا الجديرين بالفضولية والإهتمام، ولكن أيوجد شيء آخر أكثر ثمالة من حياة مجازفة لفيلسوف، عرف وهو لا يزال شابا كيف يواجه قدرا محفوفا بالمصاعب؟ وإن حصل له أن بدأ حياته بعدم اكتراثه من أوضاعه، فإنه بالمقابل كان جد محبوب ويستقبل بكل شرف واعتزاز من مضيفيه، غير أنه عرف بشكل مفاجئ وسريع جدا صدمة فقدان الحظوة والسقوط الحر من أعالي هرم الشهرة، إذ أن ذلك العراك من أجل الدائم الذي قام به ضد السخافة والحماقة والرأي أو الحكم السابق وتلك الإعتقادات الخاصة بالشيء الفظ جعلته يتألم كثيرا من أثر المطاردة على نفسيته. ومثل جل القدامى، تعامل إبن سينا مع نمط كان فيه التفكير النقدي مهددا في كيانه، ألم يكن سقراط قبله محل مطاردة ومتابعة قضائية من طرف مواطنه ليحكم عليه بالإعدام؟ ذلك ما يعني أن حرية التعاطي مع علم الفلسفة ببلد اليونان لم يكن مكسبا محققا لا رجعة فيه، لأن ستة وسبعين سنة بعد موت سقراط، وجب على أرسطو الفرار بجلدته نفسه من آثينة لغرض تفادي عدم تعرضه لنفس الإدانة، ولكن ما الذي يجب علينا أن نقوله فيما يخص بروتاغوراس؟ إن مسألة عدم التسامح وكذلك المطاردة، كانتا دائما من نصيب المفكرين المتمردين الذين كانوا بالفعل لا يبالون بأحكام الوضع القائم، إن مدينة مثل آثينة التي كتبت بها أجمل صفحات الفلسفة هي من قامت بمطاردة أكبر فلاسفتها، وهل لم ندّعي بعد كل ذلك أن ذلك التطور الكبير للأفلاطونية لم يكن ليحصل لو لم تكن موجودة تلك المحاكمة الجائرة التي صدرت في حق سقراط؟ حتى وإن كنا لا نرجع ظهور وتطور الأفلاطونية لمجرد ردة فعل أفلاطون لمحاكمة ووفاة سيده، فلا يقل صحة في أن هذا السبب يكون قد لعب دورا لا يستهان به في نفس هذا المجال. اذا لم يبقى علينا سوى أن نقول إن الشيء الملفت للإنتباه، هو أن ظهور الفكر الإسلامي جاء بداعي تلك التقديرات الناتجة عن الوساطة القائمة حول إحداث سياسية، حيث أن مواضيع الجيل الأول لأكبر المفكرين الإسلاميين، أي جبل المعتزلة، كان يقوم أساسا على تلك الخلافات والنزاعات التي فرقت المسلمين إلى معسكرين اثنين، أي اتباع شرعية السيد علي رضي الله عنه والآخرين. ومن هنا، ظهرت للوجود تلك الإشكالية المؤلمة حول الشرعية لصالح إمام القوم أو الأمة المسلمة وفيروس الشيعية الذي قسمها إلى سنيين وشيعيين، غير إن إبن سينا كان قد عاش مطولا في وسط البيئة الشيعية، وستكون لنا الفرصة سانحة مستقبلا في أن نسلط كل الأضواء على هذا الولاء أو الإنتماء المفترض لصالح الشيعة، والذي هو نفسه يبدو أنه لم يكن يوليه أي اهتمام. إلى جانب كل هذا، لم يكن إبن سينا بذلك الفيلسوف المنغلق على نفسه، أو حتى بالعالم لصالح زمرة معينة، مثلما قام بذلك إبن الرشد الذي كان يهتم كثيرا بالوضع التعليمي الفلسفي، على اعتبار أنه كان مهتما ومنشغلا بالقضايا السياسية ولا يكتفي فقط بالإستثمار في مخزون تلك التعاليق اليونانية، بإثرائه القيم بواسطة ملاحظاته للنصوص اليونانية التي وصلنه. وحتى إن كان قد فشل في وضع أو إنشاء جمهورية إفتراضية، فإن ذلك ليس بالجديد في عالم الفلسفة لأن لا أهمية له بالنسبة لذوي لعلم الواسع، ولكن بما أنه استنكر وابتعد كثيرا عن التعصب الكبير والتحمس الكثير، وكذلك الظلم والطغيان والإرهاب، حتى إنه رفض مساعدة الطغاة، فإن ذلك مهم كثيرا بالنسبة لكل العالم. إن ذلك التلفظ القائم بين ما هو في الأساس سياسي وما هو بطبعه فلسفي، بالنظر إلى صعوبة المهمة، يكتسي أهمية قصوى وأهمية كبرى من خلال المسار الوجداني لإبن سينا. ذلك ما رفع مستواه لأن يكون مجدا للفلسفة الإسلامية، بحيث إنه، قبل المبادرة من أي مفكر آخر، كان له الشرف في أن يعبر عن كل عبقرية المشرق المسلم، أي كل تلك الثقافة المختلطة التي تحتوي على ذلك المزيج غير المتساوي بين كل تلك الفئات العرقية والجنسية التي يضمها المشرق العربي المسلم. بقلم: عمر مرزوق * مختص في فلسفة القرون الوسطى