أعاد المهرجان الثقافي للمسرح النسوي في طبعته الثالثة، نجلة الفنانة ياسمينة إلى الواجهة الإعلامية، بعد أن عاشت هذه الأخيرة بعيدا عن الأضواء ومجريات الأحداث، تماما كما أبعدت والدتها في ركن بعيد عن الذاكرة الجماعية للفن الجزائري. في لقاء جمعنا بها بمدينة عنابة، روت نعمية بعض ذكرياتها منذ تلقيها نبأ وفاة أمها، وصفت لنا حرقة الفقدان وهي ما تزال شابة في ربيعها ال 17، وكيف عاشت وحيدة لولا حنان الجدة، الذي عوض كل الوعود الفاترة التي أغدق بها أهل الفن والسياسة أثناء الجنازة المهيبة التي سار فيها الشعب العاشق لياسمينة. نعيمة باي، التي تحمل من ملامح والدتها الكثير، تؤكد ل«الجزائر نيوز"، أن الديوان الوطني لحقوق المؤلف لم يف بواجبه حيال البنت الوحيدة للفنانة الراحلة، وإلى اليوم لا تعرف نعيمة إن كان يمكن استرجاع هذا الحق، كما اعترفت أن مئات الصور لياسمينة تبعثر بين أيدي الأهل والاصدقاء الذين استنزفوا رصيد الفتاة الحزينة يومها، فلم يعد لها شيئا بعدها، والقليل الذي بحوزتها الآن جاء بفضل الراحل محمد بن قطاف، الذي ساعدها في العثور على بعض الصور كانت بحوزة المسرح الوطني الجزائري. هذه ثاني مرة تحظى فيها والدتك الفنانة ياسمينة بالتفاتة اعتراف وتقدير، تكريم لا يحجب سنوات النسيان التي طالت ذاكرة الفنانة؟ صحيح هي ثاني مرة.. (تتنهد).. يا حسراه، كم مر وقت طويل لم يسأل عنها أحد ولم يتذكر عطائها الفني، ولم يسأل عن الإبنة الوحيدة التي خلفتها ياسمينة في هذه الدنيا، بصراحة أكاد لا أصدق أني هنا اليوم بعنابة في مهرجان مخصص للمسرح النسوي، بعد أن بقيت أعوام طويلة طي النسيانو من شدة ذلك بت أقول لنفسي إن ياسمينة لم تكن موجودة، مع أنها وجه فني كبير أعطى الكثير للخشبة والشاشة الجزائرية. بمجرد رحيلها، نسي المقربون أن ياسمينة تركت طفلة وحيدة، جميعهم قطع عنا الزيارة مباشرة بعد جنازتها في جوان 1977.. رغم أنهم كلهم وعدوني أن يبقوا عونا في كتفي... كنت في السابعة عشر من عمري (17 عاما)، كنت أخرج توا من مرحلة المراهقة، وكان وعيي بالحياة يتشكل وفق معطيات المحيط، كنت أعي معنى الفقدان وألم فراق أعز الناس إليك، أتذكر الهاتف لما رن في البيت، وصوت شقيق الفنانة عويشات رحمها الله، يطلب مني أن لا أجزع، وأن أتمالك أعصابي ولا أنهار، فهمت سريعا أن الأمر يتعلق بوالدتي، ورحت أستعجل ما في جعبته من أخبار مؤلمة، رغم أنه لم ينطق بكلمة الموت وأخبرني فقط بحدوث حادث السير، إلا أن قلبي أحس بالفاجعة سريعا.. لم تكفني الدموع ساعتها لأغسل قلبي الحزين.. تحملت جدتي يتمي المفاجئ، وأنا التي لم أعرف والدي لحد الآن، بعدما طلق أمي ورحل عنا، فقد كبرت في جلباب والدتي، التي كافحت من أجل تربيتي، ولتلبية حاجاتي اشتغلت في مجال الفن الذي أحبته لدرجة ملفتة للإنتباه، أصلا لم أشبع من أمي لكثرة تنقلاتها وأعمالها بين المسرح والتلفزيون. أعتقد أن إسمي دليل على حبها للفن والفنانين، إذ أحمل إسم الفنانة نعيمة عاكف رحمها الله، ياسمينة كانت عصامية فنيا، لم تدخل مدارس ولا معاهد، إلا أن موهبة راقية جعلتها تتقدم في مجالها. لم يكن سهلا أن تفرض نفسها بين الأهل، لم تتقبل الأسرة أن تتخلى الوالدة عن عملها القار كمساعدة طبية في قسم الأطفال بمستشفى بني مسوس، مع أني لا أذكر خطواتها الأولى في مجال الفن، ولا الأشخاص الذين ساعدوها في ذلك، إلا أني أتذكر يوم كنت أرافقها إلى المسرح، كانت تحرص على أن أجلس في الكواليس، أنظر إلى شغلها وتحركاتها على الخشبة، وهي فرصة تعرفت فيها على فنانين كبار.. شاهدت من الكواليس أدوارها في "العاقرة" و«إيفان إيفانوفيتش". صورتها في غرفة التبديل ما تزال عالقة في ذهني، كنت أدخل عليها فأجدها منهمكة في مراجعة أدوارها، تسجل قراءاتها في مسجل أو تحفظ نصوص من كراريس وأوراق. لم تكن تبالي بالأضواء التي بدأت تسلط عليها، كانت ترى أنها إنسانة بسيطة، لا تختلف عن باقي الناس، أعتقد أن والدتي كانت متواضعة لدرجة عميقة، النجاح لم يغرها، وكانت دائما تتذكر أنها إمرأة جزائرية تنتمي إلى هذا المجتمع، وما بلغته ساعتها كان بعد معاناة طويلة وجهد.. هذه البساطة هي التي تركت الناس يحبونها إلى اليوم وحزنوا على فقدانها أكثر من عائلتها ربما. كان يومها، المعزين بأعداد كبيرة للغاية، الكل حضر لتوديع الفنانين الأربع الذين فقدتهم الجزائر جراء حادث مرور بمنطقة أرزيو، كانت جنازة مهيبة، موكب حزين تأثر له العام والخاص، يومها طلبت أن يفتحوا لي الصندوق لأراها للمرة الأخيرة ورفضوا ذلك.. لم يكن ذلك ممكنا، لم أرث ربما الموهبة التي دفعت بأمي إلى الإبداع.. كانت ياسمينة ممثلة صادقة وحقيقية. في بعض المرات، يستوقفني بعض المارة و يشبوهني إلى أمي دون أن يدروا أني فعلا ابنتها... نعم كانت جد سعيدة مرتاحة وراضية، لكنها لم تكن كذلك في حياتها الزوجية، فقد عانت الأمرين مع والدي، الذي تركني صغيرة ولم أتعرف عليه، حتى عندما تزوجت مرة ثانية لم يترك لها الموت فرصة حياة زوجية هنيئة إلا ستة أشهر فقط. أبدا، لم أتلق يوما أي نوع من الحقوق الخاصة بوالدتي الفنانة، لا المادية ولا المعنوية، ولم يتصل بي يوما الديوان الوطني لحقوق المؤلف، لأعرف ما لي وما علي.. كما أن المحيط الفني أصابني بالإحباط كلما رددوا أمامي مسألة غياب قانون الفنان الجزائري. كانت تكن احتراما وإعجابا بفنانات جزائريات، على رأسهم المرحومة كلثوم والمخضرمة نورية وفتيحة بربار، ناهيك عن سلوى ونادية وقروابي... نعم كانت أغنية رائعة وما تزال... كان صوت أمي صادح في أرجاء البيت، تغني وهي تقوم بأشغال البيت تنظف أو تطبخ، كان صوتها الجميل عندما ينطلق دليل على مرحها وإقبالها على الحياة. لم يعد بحوزتي شيئا اليوم، بعدها تبعثرت صورها بين أفراد العائلة والأصدقاء مباشرة بعد وفاتها، إذ راح كل واحد يطلب جزء كذكرى منها، ومؤخرا قبل وفاة أمحمد بن قطاف، زرته في مكتبه يوما، وطلبت منه بعضا من صور أمي وقد ساعدني في الظفر بعدد لا بأس به بفضل تدخله شخصيا.