سأعترف أنه ليس من السهل التحدث عن كاتب واحد عندما نريد التحدث عن كتابنا المفضلين، ولكن بالتأكيد هناك كاتب واحد لعب ذلك الدور المحفز والخطير الذي ينقلك من حال لحال، ومن صورة لصورة أخرى، كاتب واحد استثنائي استطاع على غرار غيره أن يكون أكثر من كاتب في لحظة من حياة مشروع الكاتب الذي يقرأه بالخصوص ولهذا عندما طرحت هذا السؤال على مجموعة من الكتاب الجزائريين كنت أشعر بأنهم سيحرجون نوعا ما في التحدث عن ذلك الكاتب بعينه، وقد يجدون صعوبة في تحديده، بل سيكون من المجازفة القول أن هذا الكاتب كان الأكثر تأثيرا من غيره· عندما فكرت بدوري بهذا السؤال لا أخفي بان أول رواية قرأتها من دون حب ولا شغف هي /السراب/ لنجيب محفوظ، ربما لأنها فرضت عليّ فرضا، أو كعقوبة من طرف أحد أقاربي، ولم أكن أعرف بعدها أن تلك العقوبة ستفتح عينيّ على هذا النوع الروائي الشيق، المعقد، الغريب والساحر، وليتحول نجيب محفوظ لاحقا إلى كاتبي المفضل في تلك الحقبة الجنينية لتشكل ميولاتي الفنية، وطموحاتي الأدبية· أستعيد لحظة الانفتاح على المتن المحفوظي بسعادة لا مثيل لها الآن، كما لو أنها حب قديم عشته بكل ضراوة وسعادة وجنون، أخذ مني العقل والوقت والجهد وأشياء كثيرة، غير أنني وأنا استعيد علاقتي بكل ذلك المتن الروائي الجليل، وما تساوق معه من نصوص مصرية بالخصوص في حقبة التكوين الأولى تلك لا استطيع أن أقول أنها كانت بالنسبة لي هي المنعطف الحقيقي للرغبة في الكتابة، وحب الأدب بالشكل الذي صرت عليه لاحقاً·· أقصد أنها على أهميتها وقيمتها بالتأكيد لم تجرني لشيء سيبقى فيّ لهذا الوقت، وأظن أن الكاتب الذي سيصنع هذه العلاقة المعقدة والساحرة بالكتابة هو الكاتب الأمريكي /هنري ميللر/ الذي أنصح كل الكتاب الشباب المبتدئين بقراءته في البداية بخاصة لأنه سيكون أكثر من مؤثر ومحفز للذهاب في هذا المجال إلى ابعد مدى ممكن· لقد قرأت روايته /مدار الجدي/ أول الأمر بصعوبة، وفجأة أحسست بالفرق الشاسع بين ما يكتبه الكتاب العرب على أهميته وقيمته في تلك الفترة من الزمن وبين ما كتبه هنري ميللر من أشياء مختلفة ومتوهجة في زمن سابق لهم، ربما للسياقات الحضارية دور، ولكن ما يعكسه ميللر، أو ما عكسه بالنسبة لي كقارئ هو جرأته في الكتابة وتحدثه عن تجربته في الحياة من دون حذر أو خوف، وشيطنته الخبيثة في قول المحرمات دون ليّ أذرع اللغة، أو تمطيطها أو تقديم استعارات لإخفاء ما هو غريزي وإنساني في الإنسان، والأهم حينما قرأته كان تحدثه عن رغبته في الكتابة وطموحه للوصول للأدب الحقيقي·أو ما كان يراه كذلك·· قرأت ميللر بشغف العشاق وحلاوة الاستماع لأغاني بوب ديلان، أو بوب مارلي في مرحلة المراهقة، وبشكل جنيني أحببت لحن الكتابة الذي يوقع به روايته المعزوفة بقلم فنان ماهر وحيوان لغوي متمرد على الأصول والقواعد والخطابات الفجة·· هنري كان فيلسوفا في الرواية وروائيا في الفلسفة كان يجمع بين الفن والفكر والجسد غير مكثرت بالحواجز التي تغطي على حقيقة الإنسان· رفض النفاق والتواطؤ واللعب مع الصدق· وقدم لنا رؤيته للحياة كما هي على حقيقتها، أي الفن العاري الجميل الذي يصل حد الوقاحة التي تغضب فقط النفوس المنافقة والتي تقوم على ثنائية الظاهر شيء والباطن شيء آخر· لم أعد لقراءة ميللر منذ فترة طويلة مع أن كتبه لا تزال تزين مكتبتي الخاصة، مع أنني كما أتذكر فترة الانفتاح عليه كيف أنني لم أتركه للحظة واحدة، وكنت أبشر بعبقريته في كل مكان أذهب إليه، ابحث عنه في المكتبات، وكل ما أجده عنه اقتنيه، حتى مقدمات لكتب أخرى كنت اشتريها فكان يكفي اسم ميللر لأدرك أنني أمام كاتب جيد·· ميللر صديقي العزيز أشكرك الآن من القلب على ما منحتني إياه: تقديس الحرية من دون حد·