أنا من القائلين دائما بأن فعل القراءة في حياة كل إنسان هو أمر حيوي، فما بالك إذا كان مشتغلا بالفكر والأدب منتجا للأفكار والإبداع، هنا يكون أكثر من ضروري، لأن الكاتب في هذه الحالة يصبح ملزما بالإطلاع والتماس مع تجارب الكتّاب الآخرين، لكي يستطيع اختبار أدواته وتوجيهها في الاتجاه الصحيح .. لا يستطيع أحد أن ينكر بأن الكتابة هي تأسيس جديد لتناص ما، ولقاء ما مع نصوص من هنا وهناك، تنتمي إلى مشارب وآفاق واسعة، حتى يمكن تصديق المقولة الشهيرة "بأن من لا يتأثر فهو لقيط". كما لا يستطيع أحد أن ينكر أن التجربة الأولى وبواكير الكتابة عادة ما تكون كتابات تعبر عن تجربة قرائية، تتمثل بشكل ما ما قرأه الكاتب، كما تعبر عن ميوله وإعجابه بهذا الكاتب أو ذاك. وقلّما ينجو كاتب مبتدئ من هذه التجربة..التي سرعان ما يتم تجاوزها بالوعي والتفرد وصفاء الصوت.. وكلنا يعرف تلك الأمثولة العربية المشهورة في تراثنا، التي تؤكد أهمية فعل القراءة، حين نصح أحدهم من أراد أن يكون شاعرا بأن يحفظ كذا ألف بيت، ثم سرعان ما أمره بنسيانها حين قام بذلك، وهي شرط أساسي لقرض الشعر، وهي تؤكد أن الصنعة تقتضي الإلمام بمنجزات المشتغلين فيها قبل تعاطيها. ومن ثمّة، فإن فعل القراءة أمر تتأسّس عليه تجربة كل كاتب، وبدونه لا يمكن أن يستقيم الأمر أو يفضي إلى نهايته الصحيحة، وهي التي يمنح الكاتب عمقه والوعي اللازم لهذه الممارسة، ولا يمكن تصورها بعيدا عن هذا الفعل، لا سيما فيما يكون على صلة قريبة أو قريبة بحقل الاشتغال.. أورد هذه المقدمة عن أهمية فعل القراءة لكي أنتقل إلى القول بأن هذا الفعل يكاد يكون غائبا عند جل كتابنا، وهو إحدى الآفات التي تنخر مشهدنا الثقافي وتؤثر عليه سلبا، مما يعود على نوعية النصوص والعطاء الذي يفرزه كل كاتب.. ويقول الواقع بأن قلة قليلة هي التي تتعاطى مع الكتابة تعاطيا حقيقيا، وتمارسها بالشكل الاحترافي اللائق، والذي يقتضي ممارسة الكتابة بشكل يومي بالموازاة مع فعل التأمل والتثقيف المستمر، وهي مقتضيات لا بد منها للكاتب الحقيقي، أما البقية الباقية فلا تمثل القراءة كفعل لازم للكاتب إلا الجزء اليسير من اهتماماتهم ومن وقتهم، والكثير منهم يقاربون فعل القراءة كهواية ثانوية يحكمها المزاج والظروف.. التي عادة ما تكون طاغية وضاغطة، لا سيما لدى قطاع كبير من الكتّاب الموظفين وغير المتفرغين والمشتغلين في حقول بعيدة عن مدار اهتمامهم، لذلك تبقى عطلة الصيف الفرصة الوحيدة للإطلاع على كتب ظلت في الرّف منذ شرائها من معرض الكتاب الدولي.. وهي إحدى مظاهر الغبن المشرق في رماد حياتنا الموسومة بالموسمية.. أحمد عبدالكريم