عاش جمهور المسرح الجلفاوي اليوم الأحد على هواجس التمرد على الدكتاتورية وفراغ السلطة والصراعات المترتبة عن ذلك من خلال العرض الشرفي الأول لمسرحية "الراوي في الحكاية" للمخرج نفطي سالم والكاتب "اسماعيل يبرير" الذي تُوّج نصّه بجائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2012. "أصوغ الحكاية ولا أومن بها" ... "أنا السلطة المطلقة" ... "يموتون بأمري" ... كانت هذه الجمل التي يتلوها الراوي على مسامع الجمهور هي العتبة التي تبدأ بها مسرحية "الراوي في الحكاية" لتعطي فكرة واضحة عن طبيعة الحبكة التي بنى عليها "يبرير" نصه المسرحي وفي ذات الوقت التوجيه الذي اختاره "نفطي" للإخراج المسرحي للنص. وقد اختار "نفطي" لسينوغرافية المسرحية كرسي حكم ساقط على الأرض كعتبة مرئية تعكس حالة الصراع والتيه بعد اسقاط نظام كان يجسده ذلك الكرسي. وهكذا تبدأ أحداث المسرحية من خلال قرار التمرد الجماعي لشخصيات الحكاية على الراوي. ولكن سرعان ما يقع المتمردون في ورطة الصراع بسبب الفراغ وفي ذات الوقت نجد شيئا من دكتاتورية الراوي قد تسرّب الى المتمردين عليه عكستها شخصية القاتل الذي أدى دوره ببراعة الممثل "عمر عمارة". هذا الأخير جسّد حتمية أزلية وهي حلول دكتاتورية مكان دكتاتورية سبقتها وفي ذات الوقت حالة الفوضى والتيه والتنكيل التي تتأتّى من اهمال صناعة النخب التي تتولى زمام الأمور في حال الأزمات. المخرج "نفطي سالم" استطاع أن يستكنه نصّا صعبا لأديب وشاعر مقتدر بكل ما حمله من تركيز في جرعة الرمزية. حيث لجأ الى ادماج خلفيات نصية أو سينمائية على فترات مقتضبة من عمر المسرحية دون أن يقع في فخ "الإبهار بالأسلوب" أو "هيمنة العرض السينمائي" كما سمّاه الباحث في "تقنيات تلقي فنون العرض" بجامعة مستغانم في مقال مسرحي نقدي منشور ب "الجلفة إنفو". وهذه الحالة تعكس الثقة التي كانت بين "نفطي" والممثلين واعتماده على أدائهم في مثل هذه العروض التي تحتاج الى جرعة ايمانية ووعي برمزية النص في مستوياته المختلفة ... خصوصا اذا كان المعني بالصراع الذي يحكيه النص هو الجمهور الذي تقف أمامه. يجدر بالذكر أن المسرحية تم انتاجها من طرف التعاونية الثقافية سرور للإنتاج الفني والتوزيع المسرحي بالجلفة وبالتعاون مع دار الثقافة "ابن رشد" بالجلفة وبدعم من صندوق الإبداع والفنون بوزارة الثقافة. وهي مبرمجة للعرض خلال شهر رمضان المعظم ضمن برنامج المسرح الجهوي بالجلفة يوم الاثنين 20 جوان 2016. انطباعات عن "الراوي في الحكاية": الممثل "عمر عمارة"، دور "السيف الحديدي" أنت اليوم دكتاتوري وفي نفس الوقت واقع تحت دكتاتورية الراوي ... "السيف الحديدي" شخصية خلقها الراوي لكي يؤدب بها الشخصيات التي تمردت عليه. ولكن هذه الشخصية تمرّدت على الراوي في حد ذاته ليجد نفسه مرغما على قيادة السفينة ووسط منافسة. وفي النهاية يجد "السيف الحديدي" نفسه وحيدا رغم أنه قد اشترك مع الآخرين في التمرد على سلطة الراوي. ونذكر هنا أن الراوي قد أعطى دكتاتورية لكل الشخوص كالقاتل والمقتول. وهذا العمل الذي كتبه الأستاذ اسماعيل يبرير قد جاء سنة 2011 في فترة ما يسمى ب "الربيع العربي" التي صاحبتها أصوات التحرر والتمرد. وهكذا تجد الشخصيات نفسها -بما فيها المقتول-تقود السفينة فيما يشبه تشييعا جنائزيا عسكريا يذهب بهم الى حكاية أخرى وراو آخر يتلاعب بهم ... الممثل روان صالح، دور "الراوي" اليوم كنتَ راويا دكتاتوريا ... دكتاتورية الراوي وتمرد الشخصيات ضده رسالة يفهمها الجمهور وقد يُقصَد به الحكم في العالم العربي رغم أن المسرحية لم تذكر أي مكان أو دولة ولا ننسى أن تتويج هذا النص بالشارقة قد تزامن مع الربيع العربي. وبالنسبة للراوي فهو يرى في نفسه سلطان الحكاية وأنه على حق وسيبقى كذلك رغم حالة التمرد ضده وضد ممارساته. اسماعيل يبرير، كاتب النص أربع سنوات بعد التتويج ... نرى "الراوي في الحكاية" على الركح أعتقد ان في الجزائر هناك مشكل مزيف وهو "غياب النص المسرحي" وهو ما روج له دخلاء أو متسلقون على الفعل المسرحي. ويمكنني هنا أن أدلل على عشرين نصا مسرحيا لعدة كتاب ولكن لم يتم تجسيدها. وبالنسبة ل "الراوي في الحكاية" فهو نص متوج عربيا قبل سنوات وقد نال حقّه من التعاطي الإعلامي رغم أن الناس كلها تعرف النص ولا تعلم بمحتواه. وبالنسبة لرؤية النص بعد 04 سنوات نجد أنها هي نفسها فالعالم العربي في مقاربته للسلطة ومفهومه للعنف ما يزال ذا مقاربات تقليدية. وقد يتحدث البعض عن تغيرات جديدة في الأنظمة العربية وظهور نماذج جديدة ولكنني أعتقد أنها ليست سوى تكرارا لسيناريوهات معتادة في العالم العربي وأن مواطنيه يتخبطون في أردأ مما كانوا فيه. باستثناء الجارة تونس التي تكون قد حققت قليلا من الطفرة. ولهذا فإنني أعتقد أن المسرحية قائمة وستظل قائمة الى أن يتغير الوضع ومقارباته للسلطة السياسية في العالم العربي. لاحظنا انتقال دكتاتورية الراوي الى شخوص حكايته ... بالفعل ... وكأن كل من يملك سلطة لا يستطيع أن يكون الا دكتاتورا أي يحمي سلطته لا رعيّته. يعني هذا المتمرد هو أيضا مشروع لدكتاتور آخر؟ أكيد ... فالذي نشأ على الضغط لا أعتقد أنه بالضرورة سيجد فرصا للحرية لأنه لم يعرف الحرية ولم يرضعها. ولهذا فإنه يجدر التفريق بين فكرتين: أن تكون "باحثا عن السلطة" وأن تكون "مالكا للسلطة" ... فأن تكون مالكا للسلطة وتحاول انقاذ سلطتك بكل الطرق والسبل، بما في ذلك التضحية برعيتك، فهذه فكرة أخرى تماما. وفي تصوري المتواضع، أعتقد أن فكرة السياسة هي فكرة البحث عن السلطة والا فما دواعي ممارسة السياسة اذا لم نكن نسعى الى السلطة؟ وهل نمارس السياسة من أجل التغيير فقط؟ فالسياسة ليست فكرة اجتماعية بل هي سلطوية في رأيي. ولهذا حاولت أن أقول عدة أشياء عبر هذا النص الذي صار تحت سلطة المخرج صاحب الرؤية الإخراجية للجمهور. وقد أسعدني كثيرا أن قدّم بإمكانيات جلفاوية ومحلية مع ملاحظة أن العمل بالجلفة صعب بالنظر الى المحيط الثقافي والفعل الثقافي الذي يبقى قاصرا ويحتاج الى حالة من التدريب والاستمرارية لكي نعرف فعلا ماهو الفعل الثقافي. هناك هاجس "الورطة" الذي طغى على الراوي ومن تمرد عليه في المسرحية ... الورطة تتأتى من فراغ السلطة ومن الاعتقاد السائد بأن ازاحة سلطة ما كفيل بتوليد سلطة بديلة. وهنا نقول بأن آلية السلطة لا تحدث بين ليلة ونهار بل هي نتيجة تراكمات. فإزاحة حاكم من مكانه لا ينشأ عنه سوى الفوضى ما لم نوجد فاعلين ومتمرسين على الإيفاء بمتطلبات الحكم. يعني المسرحية تطرح اشكالية فعل إزاحة السلطة الحالية ثم السؤال عمّن يحكم؟ الفكرة الباطنة لمسرحية "الراوي في الحكاية" هي أنه علينا أن نفكر في صناعة ممارسين للسياسة قبل التفكير في تغيير السلطة. فكيف نفكر في ذلك ونحن لا نتعاطى السياسة في الأصل بل نتعاطى الشللية والجهوية ... وازاحة متسلط لا تعني بالضرورة التحرر. فهي قد تكون ورطة أخرى والسقوط في مطب الفراغ الذي عانت منه والى الآن عدة دول مثل اليمن. و"الراوي في الحكاية" كُتبت سنة 2011 عندما كان العالم العربي يغلي ... نفطي سالم، مخرج المسرحية اليوم تحملتَ عبء اخراج نص مسرحي متوج عربيا ويحكي صراع الحكم في العالم العربي ... كيف كان ذلك؟ ربما كنا متأخرين في تناول هذا النص ... وعملُنا اليوم هو سعي لإعادة الاعتبار للنص الجزائري لأنه كان حاضرا لما عانته الشعوب العربية ومواكبا لما كابده الإنسان العربي أمام التسلط والدكتاتورية وطمس هويته وربما أشياء أخرى لم نستطع الوصول اليها في هذه المسرحية. وقد عانينا من ناحية الأمور التقنية عند التحضير للمسرحية اضافة الى أننا منذ شهر جانفي ونحن نبحث عن قاعة لعرض المسرحية فراسلنا البلدية وعدة جهات. كما أننا واجهنا مشكلا مع الممثلين فالعديد منهم انخرطوا معنا في العمل ولكنهم حينما قرأوا النص ووقفوا على صعوبة رمزيته وسيميائيته وجرعته المركزة. واشتغالنا على نص ابن مدينة الجلفة "الأستاذ اسماعيل يبرير" كان بمعيته. وهناك من قال عن النص أنه نثري وهذه رؤية قاصرة جدا تجاه هذا النص المسرحي. وحاولنا معه تغيير بعض الشخصيات واضافة بعض الحوارات وقد كان "اسماعيل" مرنا معنا جدا في تحليل النص واعادة اخراجه على الركح وقد شرفني وأسعدني العمل مع الكاتب. كنتم أمام نص يحكي الدكتاتورية التي صارت ورطة لكل شخوص المسرحية ... كيف استكنهتم ذلك وجسدتموه على الركح؟ هذه هي الحبكة الدرامية التي وفق فيها "اسماعيل" وحاولت أن أنقلها الى الركح من خلال تجسيد الصراع الذي يحتاج الى نفسية عالية من الممثلين الذين يوجد منهم 03 يصعدون لأول مرة على الخشبة ليقابلوا الجمهور. وقد تشجعوا معي ووضعوا أيديهم في يديّ وحاولنا جميعا أن نجسد هذا العمل ونعبّر عن روحه خصوصا وأن الحبكة قوية لانتقال الصراع الى الشخصيات ورمزيته الدموية والتراجيدية. ولكنني أقول أن ما يحدث في حلب وليبيا وسائر العالم العربي قد صار مكشوفا وتفكيك شفرات كل الرموز. جقاطي عيسى، أستاذ في المسرح ومدير المسرح الجهوي بالجلفة كنا أمام نص مسرحي بجرعة مركّزة جدا ... كيف ترون أداء اليوم؟ اليوم كنا أمام نص الأستاذ اسماعيل يبرير "الراوي في الحكاية" الذي ينتمي الى المسرح الرمزي. وقد وُفق الممثلون والمخرج في ايصال ما يجول بخاطر "اسماعيل يبرير". والحمد لله شاهدنا ممثلين في المستوى واستطاعوا أن يؤدوا مسرحا رمزيا في قالب واقعي رغم صعوبة الرمز. فالممثل في هذا النوع من المسارح عادة ما يجد صعوبة في فهم الشخصية فما بالك أن يحوّر أو يدرس أو يمثّل تلك الشخصية على الركح. ورأيي أن التوفيق كان حليف الممثلين والمخرج بنسبة 70%. فباعتبارنا اليوم متفرجين وتقنيين وكأهل للاختصاص استطعنا أن نرى عرضا متكاملا فيه من التشويق ما فيه وفيه من الأفكار ما فيه وفيه من الأداء ما فيه. والحمد لله يوجد ممثلون بالجلفة. ونقول أن المسرح الجهوي بالجلفة مفتوح للجميع وسيكون هناك اختيار للممثلين "كاستينغ" بعد شهر رمضان ان شاء الله كما توجد هناك مجموعة من النصوص سنختار منها نصا سيكون في المستوى ان شاء الله.