سي الشريف بلحرش صلوات الله و سلامه على نبينا محمد، الذي نورنا بتعاليمه و أرشدنا إلى طريق الحق، هذه القلعة التي تبدو منيعة للضالين ولكن هي في متناول المؤمن البسيط. صلوات الله و سلامه على سيدنا محمد و على آله و صحبه. خلال مناقشة في موضوع مقاومة الشعب الجزائري و كتابة تاريخه، بدا لي من الهفوات و التناسي الخطير جدا، لبعض الأحداث الحقيقية و البالغة الأهمية و كأنها مخبأة و مجهولة. و أن هناك قوى خفية توجهنا نحو أهداف و غايات زائفة، و يبدو أيضا أن السياسة المتبعة عندنا تجرنا إلى دراسات تاريخية مشوّهة، دراسات تاريخية لإرضاء فئة معينة، و أن هناك حقائق تزعج و أخرى حديثة تجرح. على أن الوقائع التي فعلا حدثت، كتبت بطريقة تحزن و تثير الشفقة لكي لا تزعج المدرسة التي تخفي الحقيقة، و هذا لكي لا تُغضب هذا النوع من الوجود ال"نيوكولونيالي" الذي يصرّ على نكران إنتمائه، و المتسبب في معاناة و أضرار هذا الوطن. وقد كان من الواجب منذ البداية أن يُبتر هذا الورم الذي يعتبره البعض كغنيمة حرب، ف"لكل داء دواء"، حيث كان من الواجب أن تتم المعالجة بالكي للحصول على نتيجة مرضية. ومادام لم تعالج هذه الوضعية المثيرة للسخرية التي قزمتنا و جعلتنا مضحكة أمام الأمم، سنبقى على ما نحن عليه. و أعلموا أن الفرنكوفيلية في هذا البلد تساوي أعر الشماتات و الإهانات. و أعلموا أيضا أن اللغة الفرنسية في الجزائر هي بمثابة حصان طروادة. و الأمر ليس بفترة قصيرة من التاريخ، إنها ظاهرة محو الذات و تزييف التاريخ بطريقة جذرية و ممنهجة. كل ما هو أصيل و حقيقي في هذه البلاد فهو مطموس، و مكذوب و مشكوك فيه، حتى الحضور الفينيقي لآلاف السنين تعمدوا نسيانه و تجاهله. أنظارنا متجهة لاشعوريا نحو أوهام و إنشغالات زائفة و مشاكل وهمية و مخاوف وفزّاعات ترعبنا. يحدثوننا عن مشاكل الهوية، عن اللغة، عن الانتماء لخدمة فرنسا وتمديد حضورها الإجرامي. و ما لا يقولونه لنا هو انتمائنا إلى حضارة تمتد جذورها العربية إلى أعماق تاريخ الإنسانية، و ما لا يقولونه لنا هم العشرات من المفكرين و الفلاسفة و العباقرة القدماء الذين تركوا لنا آثار بادعة ب"البونيقية"، الذين أرادوا أن يجعلونهم لاتينيين كمثال "أرنوب " و " لكتونس" و القديس "أوغستين"، و معظم كتبهم الأصلية موجودة في الارشيف السري للفاتيكان. و ما لا يقولونه لنا عن خمسة آلاف سنة من الحضور الفينيقي البونيقي الذي شكل البيئة الإجتماعية. و ما لا يقولونه لنا هو أنه خلال خمسة أو ستة قرون من الحضور الروماني لم يستطيعوا فرض لغتهم في شمال إفريقيا. و ما يريدون أن نصدقه هو أن عبور جيش من الفاتحين استطاع أن يُعرّب كل شمال إفريقيا و هذا في أقل من قرن. لقد نشأت هذه الفكرة و شاعت عندنا كأنها حقيقة عليها إجماع. و لكن عند العاقل الذي يعلم (و الذين يعلمون ليسوا كالجهلة)، فالفرق أكبر من مقارنة الأعمى بالبصير، و الله عزّ و جلّ بحكمته البالغة أراد أن يكون هذا البلد عربيا و الإرادة الربانية التي كرمّت هذا البلد بالعروبة لا تسمح بالعبث به، مهما كانت المكائد و الاحتلال الذي سمح به ضعفنا و قلة حيلتنا. فاليوم نحن واعون و ندرك هذا الوضع، و نحن أيضا واعون بلغتنا التي نمارسها يوميا و التي نسميها ''الدارجة'' في شمال افريقيا و عمرها أكثر من خمسة آلاف سنة، و هي أقدم من العربية الكلاسيكية الحديثة، وتحمل في أحشائها كلمات أصيلة اندثرت من اللغة الحديثة أو قليلة الإستعمال. من الضروري ذكر أصل أو تقارب مختلف اللهجات المحلية التي نسميها مازيغية إلى العربية. ولا يمكن لأحد أن ينكر هذا التقارب، و حتى أننا نعتقد أن الاختلاف الوحيد بين العربية و المازيغية هو اختلاف في النطق، وهو ما لا يعجب البعض. ألا ينبغي ذكر أحداث أخرى و وقائع أخرى، تجرنا لذكر ظواهر أخرى انصهرت في تاريخنا كمرور عشرات الآلاف من الوندال طيلة ما يقارب قرن في بلادنا. المرور الذي بلا شك ترك بصمات عميقة من جيناتهم "الحضارية". علاوة على ذلك أنهم لم يغادروا كلهم، بل احتموا في المرتفعات المنحصرة المحصنة. هذه رؤية شاملة و جد سطحية للوضعية. و سنعود بدون شك لمعالجة هذا الجانب، حيث من الضروري ألا تكون هناك طابوهات، فالحقيقة هنا والمخاطر معروفة. فإذا أردنا الحقيقة و لا غيرها يجب أن نسمي الأشياء بمسمياتها. نكررها دائما، بأنه ليست لدينا مشكلة هوية، الهوية الجماعية موجودة هنا لدعم ما نقدمه، حيث أننا نعرف بعضنا البعض بما فيه الكفاية و الجميع ينظر إلينا بطريقة خاصة يعرفنا بها. تتوافق هويتنا الإجتماعية تماما مع السّمات التي نتشاركها: نتشارك القيم، التشريع، و النظام الذي يميزنا، وهو ما ليس عند غيرنا في أماكن أخرى. لدينا مهارات في الطبخ منذ أكثر من ألف سنة. غذائنا من القمح لأننا كنا من الأوائل الذين عرفوه، بآلاف السنين قبل الأوربيين. ولن أذكر الكسكس، وهو الأكلة المخترعة من طرف "أليسا ديدو" في وقت أزمة، أين حضّرت الكسكس بلحم الثور و استعملت جلده لشراء قطعة أرض لتأسس المدينة الجديدة "قرطاج"، ألف سنة قبل الميلاد. من جانبه، يعرفنا إبن خلدون بخصائص نتقاسمها: نلبس البرنوس، نأكل الكسكس، نحلق الرؤوس، و نتعارف في ما بيننا بأننا مجتمع إنساني موحد في قيمه الإجتماعية، والدينية، والوطنية. عاداتنا و لغتنا و تعاملاتنا و تفكيرنا في التعايش بيننا و تاريخنا يشهد على ذلك. ولهذا نرى أن كل التاريخ مغلوط و أسباب ذلك معروفة. و نحن نحاول أن نتسلل بين تعرجاته المتحركة كالرمال، لإظهار من تحت التراب بعض الأحداث التاريخية و توضيحها. لا يزال الإحتلال الفرنسي يواصل التلاعب عندنا، ويواصل الجهلة و أنصاف المثقفين باقي العمل لخلق الخلافات و تحريض بعضنا على البعض. لقد قلنا أن الحكمة الإلهية عرّبت هذا الوطن و نكرر قول ذلك، حيث سمح هذا الحضور بأسلمة هاته الأقطار للأبد، للأبد. و هنا بيت القصيد. أعداؤنا يعرفون ذاك، و الإسلام ما هو إلى غصة في أحلاقهم. تجسد الإسلام في بيت الرسول عليه الصلاة و السلام. ولهذا يريدون استئصال أحفاد الرسول عليه الصلاة و السلام من هذا الوطن. في إحتفالية تخرج دفعة من الضّباط في مدرسة عسكرية عليا بفرنسا، خلال سنة 1840، طلب مرشد الكنيسة في خطابه بالمناسبة من الضباط بقتل أحفاد الرسول عند أولاد سيدي نايل - كلام منقول عن الجنرال "ماري مونج"- لأن الجيوش الفرنسية لقيت في ربوع أولاد سيدي نائل مقاومة شرسة و شهامة لم تعرفها من قبل. فإذا كانت فرنسا قد تمكنت من احتلال معظم الشمال تقريبا بدون عراقيل، فقد تكسّرت أسنانها أمام بسالة الفرسان الذين أخّروا بعشرين عاما آلة الحرب الإستدمارية للوصول إلى الصحراء. بالفعل آلة حرب، جيوش نابليون التي تملك خبرة الجبهة الروسية و بريزينة و ترفلقار و جبهات أخرى، هذا الجيش المجهز بأحدث الوسائل و خيرة الضباط المتخرّجين من المدارس الكبرى للحرب، و الذي يمتلك البنادق المتنوعة وغيرها من الأسلحة المتطورة، قلنا تكسرت أسنانها أمام الشهامة و حب الشهادة، حيث كان سلاح فرسان أولاد سيدي نائل الإيمان و بنادق الفتلة الرديئة و سيوف الفليسة... و سنحاول أن نذكر الإثنى عشر (12) شخصية التي تقود مقاومة الكونفدرالية الكبرى لأولاد سيدي نائل. قادة حرب شباب ينحدرون من بيوت كبيرة و أغلبهم متعلم خريجي الزوايا و شخصيات مهمة في قبائلهم. أفضل شباب أولاد سيدي نائل سيجسدون أسطورة المجد التي حاول العدو التعتيم عليها بتحريض التقلبات المتعاقبة التي فرضت على هذه القبيلة. حول سي الشريف بن لحرش و بفضله تكونت نواة الضباط الذين سجلوا التاريخ و صنعوا مجد هذه الأمة. كانت هذه النّواة بمثابة هيئة الأركان لأولاد سيدي نائل في خدمة الأمير عبد القادر الذي كان يؤسس الدولة الجزائرية الحديثة. و ما أجمل المصير المتماثل بين سي الشريف بن لحرش و الأمير عبد القادر. ليس فقط وجه التشابه بينهم في الذات بل حتى العمر و المسار التربوي و الدراسي. و بالفعل بعد أن درس سي الشريف في الزاوية المختارية مع سي عبد الرحمان النعاس و سي محمد بن بلقاسم و سي الشريف بن لخبيزي و غيرهم، بغرض التدريس و فتح زوايا عند أهلهم، إذ بالإحتلال غيّر المعطيات. و كان أولاد سيدي نائل في أوج توسعهم و قوتهم و كانوا أغنياء. وكانوا عند حملاتهم ذهابا و إيابا محملين بغنائم كبيرة. وما هجومهم على قلعة الأتراك في المسيلة إلا دلالة على جرأتهم. و في هذه الفترة كان الأمير عبد القادر ينظم في هيئات دولته، فانظم أولاد سيدي نائل تحت قيادته، ليعيّن الأمير على رأسهم سي عبد السلام بن القندوز، شيخا جليلا ذو صيت كبير، من أولاد الاغويني. و لتنظيم الجيش من الفرسان و المشاة، كان سي عبد السلام كبير في السن لا يستطيع الحرب، فقد عين، كما فعل سي محي الدين، إبن أخيه سي الشريف لقيادة القوم. و تبين بعد ذلك أنه كان اختيارا صائبا لأنه فرض نفسه بخشوعه و شجاعته وذكائه و تربيته القرآنية. نظم سي الشريف قيادة الأركان باستدعائه لكل قبائل الكونفدرالية. حيث أن العبازيز كانوا دائما حاضرين. و من قادته طاهر بن نمير رجل سيف و قايد قوم لتلي بلكحل لتطهير زاقز و محمد بن عبد السلام من أولاد القويني، سي بلعياش من أولاد عيسى، و الشيخ البوهالي لأولاد سعد بن سالم و كذا محاد بن فضيل من اولاد سي أحمد و محمد بن عطيه من أولاد ضياء (أولاد عبد القادر أولاد بوعبدالله)، و حران من أولاد أم هاني و التلي بن لكحل من أولاد سي أحمد الذي بطولته و شجاعته فاقت بكثير من كتب عنه، و أعتبر كأكبر مقاوم في ملحمة الأغواط، لكن مع الأسف لا يوجد له مكان في مربع المجاهدين. سي الزبده و العامري سي بولرباح لأولاد سعد بن سالم، حمرورش لأولاد يحيى بن سالم سي بلعياشي لأولاد عيسى و الشيخ البوهالي و محاد بن فضيل لأولاد سي أحمد، إلتحقوا بقيادة الأركان. تكوّن هذا "القوم" وتعزز ب 1600 فارس و أتجه إلى جبل قورو في مرتفعات عمور للقاء الأمير و الإمتثال لأوامره. و من هنا رافقوه في دورة نحو الحاجب، لملاقاة الشيخ المبروك مقدم التيجانية ثم إلى جبل الميلق للقاء الأرباع حيث أنهم لم يحضروا اللقاء، و بعدها مروا ب"دحوان" و "ختاله" للقاء المقدم سي محمد الزبده لأولاد أم الإخوة، معروف بهمته وعلمه و شجاعته، حيث أنه درس بنفس القسم عند الشيخ المختار. ثم ذهبوا إلى كاف الطيور و التقوا بالعامري لأولاد عامر بن سالم، شخصية هامة و بطل كبير. و هنا حطوا رحالهم لإستقبال كل شيوخ زوايا: اولاد جلال و طولقه و الهامل. و تعرف هذه الدورة بدورة بوسعادة للأميرعبد القادر. كان سي الشريف بحق قائدا للرجال، و استطاع بجدارة خوض المقاومة لأكثر من عشرين عاما منها إثنى عشر عاما معارك ضارية، دون كلل أو ملل وفي عوز تام أمام آلة حرب الغزاة. فاستحقوا ثناء عساكر أعدائهم. مقتدين بسلطانهم الأمير عبد القادر الذي بحنكته و شجاعته واصل المعركة الخاسرة عكس الباي الذي انهزم عند سقوط المدينة في أكتوبر 1837. لقد خرج رجال استثنائيون من الصفوف، لكتابة صفحات مجيدة. حيث أهانوا أكبر جيش للغزاة الذي كان يتكون من قوة استطلاع تقدر ب100 ألف رجل و مئات الجنرلات، و كانت لهم حرية التحرك غير آبهين بالخسائر. و كذالك معاقبة بعض القبائل المحيطة التي أبى إلا أن يؤدبها الأمير لخيانتها. علاوة على ذلك أكثر من نصف المعارك كانت موجهة ضد خيانة بعض القبائل. خلال عشرين عاما، قياد أولاد سيدي نائل ذو المشاعر العالية، دافعوا و منعوا الدخول لبلادهم بطريقة ساطعة، هذا البر الذي كان يسمى "بلد الخوف و البارود". و برهنوا أن درجة التنظيم و الانتظام التي كانت إستثنائية أعطت صفحة جميلة للجزائر و لأهلهم. معارك مجيدة و شريفة بقيت في السجلات، كحملات بلاد القبائل و معركة يسر. و المعارك و المقاومات ضد "النحس" الجنرال يوسف و أساليبه المذمومة و الدّنيئة و ضد جنرالات فرنسية أخرى مدججة بأسلحة ضدنا. حقيقة لقد دفعنا الثمن غاليا، لقد انتقم منا المستدمر لغسل العار الذي لحق به. لقد ألحقنا إلى درجة الفقر المدقع و الجهل الدامس. قتلونا و رمونا بالخزي. و اتهمونا بكل الشنائع، نحن أبناء الرسول عليه الصلاة والسلام. و لإبادتنا حرّض علينا المحتل القبائل الأخرى في سياسة "فرّق تسد". و تحملنا ذلك لأنهم أضعفونا و أفقرونا كباقي الجزائريين. لكن ما يحز في أنفسنا هو أن أولادنا يجهلون تماما أمجاد الماضي. لا كتابة أو ذكرى أو ذكر هذه الأمجاد في الكتب المدرسية رغم أنها حقيقة لا تندثر أبدا. و اليوم نحن حائرين أمام هذا الغموض! سيكون من العدل والإنصاف حقا شكر هؤلاء عمالقة المقاومة. حبذا لو جعلنا لهم جدارية كبيرة تذكرنا بالتضحيات الجسام. و من يبدو مهتم بتنظيم المؤتمرات، فليتجرأ بشجاعة ليقول ذلك. و بما أن هناك تقريبا صحوة عامة، فعلى المجلس الشعبي الولائي بعد تنبيهه أن يجسد لنا هذه الجدارية التذكارية، فهذا أقل ما يمكنه فعله... (*) عن مؤسسة سيدي نايل/ الأستاذ: عبد الرحمن شويحة ملاحظة: المقال ترجمة للموضوع الأصلي باللغة الفرنسية (الرابط من هنا)