في الوقت الذي كان العالم يتفرج على الصين وهي تحارب فيروس كورونا 19 لوحدها كثرت التعليقات والتأويلات التي بلغ بعضها إلى حد التشفي في الجنس الأصفر بأكمله، واعتبر بعضهم بأن ما يحدث للصين أمر مستحق بل وعادل في حق أكلة الخفافيش والديدان. وكل هذه الأحكام مصدرها الصور والفيديوهات التي عجت بها صفحات الويب ومنصات التواصل الاجتماعي، لتفرز كما هائلا من التهكم التي كان لنا نحن في البلاد العربية حصة الأسد فيها. وفي هذه الحالة من الذهول غاب عن الجميع عربا وغربا بأننا في عصر أصبح فيه العالم قرية صغيرة، وبأن الجنس الأصفر لم يبق في قارة آسيا بين جدران السور العظيم ولكنه خرج كالمارد من قمقمه ليغزوا العالم بمنتوجاته الأصلية والمقلدة من إبر الخياطة إلى رقاقات الحواسيب والهواتف مرورا بكل ما يخطر ببال مجتمعاتنا الاستهلاكية، التي أصبحت لا تميز بين الطبيعي والبلاستيكي من مأكولات وملبوسات كتب عليها (صنع في الصين). وهذا يدل بأن الوباء لن يموت في (ووهان) لأن الصين أصبحت في كل مكان من المعمورة، والتي لم تتأخر كثيرا عن إعلان عواصمها الكبرى والصغرى بأن الكوفيد 19 قد حط الرحال فيها. ولعل هذا ما دفع أمريكا إلى اتهام الصين التي تنتج كل ما هو مفيد بأنها كذلك وراء (إنتاج) الكوفيد، ونفس التهمة ارتدت على وجه ترامب مفادها أن المخابر الأمريكية التي كانت وراء انفلونزا الخنازير والسارس والإيبولا وغيرها من الفيروسات هي التي تقف وراء الطبعة الجديدة والمنقحة لهذا الفيروس التاجي (المستجد) وذلك خدمة للمؤسسات الصيدلانية التي تستعد كالعادة لجني الملايير تجسيدا لسياسة تصنيع الدواء قبل نشر الوباء. وبهذا الشكل يعاد طرح السؤال حول العلاقة المشبوهة بين العلم والسياسة التي عرفت أخطر مراحلها في التفجيرات النووية بمباركة علماء على رأسهم (أينشتاين وأوبنهايمر وإنريكو فيرمي) وما حادثة هيروشيما ونكازاكي ببعيد. ويبدو أن هذا الدرس الأليم لم يكف لتتعلم البشرية أبجديات الإنسانية فها هي المساعي الحثيثة لتطوير لقاح فعال لا يستهدف أصحابه إنقاذ الأرواح ولكن المساومة عليها لمن يدفع ويتنازل أكثر. وفي المقابل تُشن هجمة مسعورة على الطبيب الفرنسي (ديدييه راوولت) الذي طور علاجا قديما كان متداولا وهو (الكلوروكين) المعدل ونصح دون مساومة أو ابتزاز باستعماله فورا باتخاذ احتياطات تتعلق بالمسنين والمصابين بأمراض مزمنة. وصدرت هذه التهم من زملائه الأطباء المدفوعين في أغلبهم بشركات صيدلانية احتكارية ترى في الكورونا منجما للذهب وفرصة للثراء على حساب المرضى، والملفت للانتباه أن الرئيس الفرنسي بعد تردد اضطر إلى التنقل لمرسيليا لمساندة هذا الطبيب بهدف تلميع صورته سياسيا بعد الانتقادات التي تعرض إليها خاصة بعد نجاح العلاج في الجزائر والمغرب. وحتى لا نبرئ (راوولت) من احتمال تسويق دوائه لأغراض نفعية وتلميع صورته بشكل انتهازي، يجب التأكيد على خطورة الزواج غير الشرعي بين العلم والسياسة خاصة في هذه الظروف الاستثنائية التي لم تعرف لها البشرية مثيلا في اتساع رقعتها وخطورتها. إن المراهنة على العلم الذي تجرد من القيم الإنسانية للخروج من هذه الأزمة كالمراهنة على سلامة القطيع في رعاية الذئاب، طالما أن بعض العلماء اتخذوا من المخابر أوكارا للعبث بجينات الفيروسات وتطوير (خلطات سحرية) تذكرنا بمخابر القرون الوسطى التي كانت تُجرب على المجانين والمساجين أبشع المستحضرات الكيمياوية. ولكي يسترجع العلم روحه وضميره يحتاج إلى الحفاظ على (مسافة أمان) بينه وبين السياسة وهي في قبضة مرتزقة الأحزاب، التي تتقن التلاعب بالديمقراطية ومؤسساتها لتحوّلها إلى دكاكين للمؤامرات. ويكفي الرجوع إلى الحالة الإيطالية التي تثبت وثائقها وتسجيلاتها أن رؤساء الأحزاب تعاملوا مع الكورونا في بدايتها بكم هائل من الأنانية الضيقة والحزبية الماكرة، معتبرين المطالبة بالحجر الصحي واتخاذ التدابير اللازمة مراوغة من طرف حزب السلطة الحاكمة فكان ما كان. كما يسجل التاريخ أنه في الوقت الذي كانت ألمانيا تستعد للمعركة الوبائية كانت الحكومة الفرنسية تشرف على انتخابات محلية ضاربة عرض الحائط بتحذيرات العقلاء. في حين حاول ترامب رفع الحجر الصحي لحماية اقتصاد أمريكا الراعي الرسمي لمصالح الشركات الاحتكارية ولوبيات البنوك وأباطرة بورصة (وول ستريت) من صهاينة الماسونية المتوحشين، ولم يتراجع رئيس أمريكا عن هذه المحاولة المتهورة لولا تدخل العقلاء من الأطباء والعلماء. أما حكومتنا فلم تتمكن من استباق ذهنية اللامبالاة عند المواطن فعرفت قراراتها تذبذبا خطيرا تبرزه الأرقام. لقد نجحت الكورونا في تقديم درس بالغ الأهمية مفاده أنها ليست هي الخطر الدائم على البشرية، وأنها مجرد نذير عابر جاء ليحرك ما تبقى من ضمير الإنسانية التعيسة التي استسلمت لأفكار العولمة وهي تخطط لنظام عالمي جديد يسعى لبسط نفوذ أقلية ماسونية تنويرية تحضر لنزول مسيحها الدجال بإراقة وديان من الدماء وسيول من الكوارث الطبيعية والأمراض، وتنتهي من ضبط القوائم النهائية للبشر الذين يستحقون البقاء و ما (دون البشر) الذين يستحقون الفناء. فهل ستستوعب مجتمعات ما بعد الكورونا الدرس جيدا فتعمد إلى تصحيح مسارها نحو أفاق جديدة، وتصنع مستقبلا يحترم فيه الإنسان أخيه الإنسان، ويتجاوز القوالب الفكرية الجاهزة التي رسمتها لها قوى الطغيان والاستبداد؟ أم أنها ستستمر في سياسة التكتلات المصلحية وفلسفات الهيمنة التي جعلت من العالم رقعة شطرنج يموت عليها البيادق حفاظا على حياة الملوك والأميرات؟