لا يتحدث أي مصري معك سواء من طبقة المثقفين أو العامة إلا يذكرك بأن مصر تحمل على أكتافها حضارة ستة آلاف سنة ولم يسبقها أي حضارة في المشرق متجاهلين على سبيل المثال حضارات اليمن وبلاد الرافدين فالأولى أبدعت في المدرجات الزراعية وإقامة السدود وطرائق الري التي لا سابق لها وناطحات السحاب ، والثانية بلاد الرافدين وضعت ،إلى جانب أمور أخرى، قواعد القانون الإنساني ، ووضعت قوانين الحرب والسلام بما يعرف بقوانين حمو رابي وأول من علم الإنسان الكتابة ، وبكل أسف لا نعرف عن حضارة مصر العظيمة سوى قبور الفراعنة وتحنيط الموتى ،ونحت أجسام الحيوان على الصخور . الحضارة عندي في ابسط معانيها ودون الغوص في نظرياتها وقواعد علمها وتشعب تعريفاتها، هي الأخلاق والقيم والسلوك الإنساني. مما دفعني لهذه المقدمة، هو السلوك السياسي والشعبي الذي حدث في مصر وخارجها قبل وأثناء وبعد انتهاء مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر للتأهيل للمشاركة في مسابقات كأس العالم لكرة القدم المقرر إجراؤها في جنوب أفريقيا . ( 2 ) اعترف بأنني شاهدت المباراة التي جرت في الدوحة بين الفريق البرازيلي والفريق الإنجليزي وكان أداء متميزا ، كانت المباراة آنفة الذكر مقطوعة سيمفونية موسيقية كان يعزف على أوتارها بأقدام لا عبي الفريقين . كنت وغيري من المشاهدين نتمنى أن يطول زمن المباراة كي نستمتع بذلك الأداء الحضاري الرياضي. بعدها عدت إلى مباراة مصر الجزائر وشاهدتها وكلي ألم وحزن عميق لما رأيت عبر شاشة التلفاز في الملعب سواء من اللاعبين أو من الجمهور في المدرجات والشوارع ليس في القاهرة وحدها ولكن في لندن وباريس والدوحة . لقد قام الإعلام الرسمي المصري بتعبئة شاملة لا نظير لها في تاريخ مصر إلا في حالات الحروب، أناشيد وطنية " تافهة " لا تليق بمصر وشعبها العظيم خلال أسبوع قبل بدء المباراة.رئيس الجمهورية وبنيه جمال ومبارك يحضر الأول ، الأداء التدريبي ويتحدث إلى اللاعبين محرضا ومربتا على أكتافهم وطالبهم بتحقيق النصر على الجزائر ويلحق به الأنجال في زيارات واتصالات بالفريق المصري ، الصحافة المصرية الرسمية والدونكيشوتية ساهمت وبلا حدود في التعبئة الشعبية الأمر الذي لم يكن أمام اللاعبين إلا تحقيق الفوز ولو أدى ذلك إلى إدخال جميع لا عبي الفريق الجزائري إلى غرف الإنعاش في مستشفيات مصر. (3 ) لقد واجه الفريق الجزائري أجواء مشحونة بالكراهية منذ اللحظة التي حطت بهم الطائرة في مطار القاهرة ، ضرب موكبهم بالحجارة وشجت رؤوس بعض اللاعبين وسالت دماهم ، ورافقتهم هتافات التحقير والإهانة حتى مقر إقامتهم وفي الملعب هتافات الجماهير " الغوغاء " تعالت بكلمات وشعارات ضد الفريق الضيف لا تليق بشعب مصر أبدا . أمم كثيرة حدثت بينهم حروب طويلة مثل بريطانيا وألمانيا ، أو ألمانيا وفرنسا ، أو روسياوألمانيا ، وتلتقي فرقهم الرياضية في مباريات كأس العالم ويقدمون أروع العروض الكروية رغم مرارة التاريخ ويحضر رؤساء تلك الدول ويهنئ بعضهم بعضا بالنتائج أيا كانت ، لا تحريض ولا حروب نفسية ضد أي من الفرق المتنافسة . (4 ) عرضت علينا وسائل الإعلام العربية والمصرية بعد انتهاء المباراة مظاهرات حاشدة تجوب شوارع المدن الكبرى في مصر و حتى لندن وباريس وبعض العواصم العربية لم نشهدها في الحرب على لبنان 2006 ولم نشهدها في الحرب على غزة 2008 / 2009 ، ولم نشهدها احتجاجا على حصار غزة ، أو احتلال بغداد 2003 ، كلها مظاهرات دون ترخيص من الأجهزة الأمنية ولم يتصدى لها رجال الأمن في مصر أو أي مكان آخر . والسؤال لماذا تمنع المظاهرات من أجل شأن وطني للتعبير عن الاحتجاج والغضب ضد الأعداء كما أشرت أعلاه ويسمح بها دون ترخيص للتعبير بالفرحة لتسجيل هدف هنا أو هدف هناك ؟! سألني أحد الإخوة المصريين المقيم في الدوحة لماذا رئيس الجمهورية يزور الفريق الكروي ولم يقم بزيارة أسر ضحايا العبارة التي غرقت في البحر الأحمر ، أو وأسر الضحايا الذين قضوا في حوادث مرورية للسكك الحديدية ، ولماذا لم يقم بزيارة اسر الجنود الذين تقتلهم إسرائيل من وقت إلى آخر على الحدود ؟ ولماذا لا يقوم الزعيم الكبير بزيارة معابر رفح ليرى معاناة الشعب الفلسطيني عبر الحدود جراء الحصار الذي تفرضه الجمهورية الرابعة على قطاع غزة ؟! قلت له : لست أدري اسألوه يوم الانتخابات القادمة . أخر القول : هل هذه المرة الأولى التي يهزم فيها فريق مصر الكروي؟ وماذا لو انهزم الفريق في الدورة الأولى من مباريات كاس العالم من فريق غير عربي ؟ هل ستقطع مصر علاقاتها الدبلوماسية مع دولة الفريق الكروي الذي هزمها في جنوب إفريقيا وأخرجها من المسابقة ؟ !!