من المعلوم أن هذا المخلوق الذي يُدعى إبليس، قد جاء ذكره في القرآن الكريم في العديد من المرات من خلال الآيات والسوَر، وأغلبها كانت في شكل حوار مع الله عز وجل منذ بداية الخلق، حيث رفض وعصى الله أن يسجد للبشر لأن هذا الأخير خلقه الله من طين، بينما خُلق إبليس من نار. وللتفاصيل يمكن لأي مهتم أن يرجع إلى كتاب الله ، ليكتشف أن صفة المحاور هي من صفة الله، وأن الله قادر على أن يُخرج إبليس من الكون، وأن يفنيه في هنيهة، ولكن أراد عز و جل أن يعطي عبرة للبشر بضرورة الحوار، وإعطاء فرصة لكل من نتحاور معه للولوج إلى أرضية تفاهم. وهو عكس ما نعيشه اليوم من طرف الذين يعارضون الحوار في كل المستويات، أو الذين لا يؤمنون بالحوار، ويتجاهلون أن خالق البرية هو أحسن مثالا، وهو من سطَر لنا منهج الحياة الراقية، لتعيش الشعوب في سلام وآمان . قد يستغرب الكثير من القراء عنوان هذا الموضوع، من باب القول أن كاتب المقال يبالغ فيما يكتب، أو من باب أن هذا الحالة بعيدة كل البعد عن إبليس الذي كان ومازال وسيظل يُدوَخ العالم البشري إلى يوم الدين. بيد أن الأمر يتعلق بحقيقة نعيشها يوميا نحن معشر البشر، الذين أصبحت حياتهم اليومية جُلَها تصرفات تُبقي إبليسا حائرا، وتخلط له أوراقه، حتى لا يعرف كيف يتصرف مع هذا النوع من البشر، الذي لا يحمل من صفة البشرية إلا الاسم. فما نعيشه يوميا، من خيانة وكذب ونفاق وحقد وبغض وضغينة وتفريط في الأمانة وشراء للذمم وصراعات طائفية وعرقية لا تنتهي، ومن مؤامرات و حروب وفساد في الأرض، لم يسلم منه حتى الآثار والصخور، وغيرها من الأمور والتصرفات المنافية للدين وللأعراف وللأخلاق، هي أمور يندى لها الجبين، ويستحي منها كل الأبالسة، وعلى رأسهم إبليس الأكبر الذي ذكرته في العنوان. أما عن قصة بكاء إبليس الأكبر، فهي رؤيا صالحة، رواها إنسان زاهد وعابد من أهل الله، حيث كان معكتفا في قمة جبل، بعيدا عن أمور وفتن الدنيا، حتى زاره ذات يوم أحد العلماء، وقال له الزاهد لقد رأيت رؤية في المنام من ثلاثة أجزاء، وهي أنه كان ماشيا في البادية، وإذا به يصادف رجلا جميلا، جمال سيدنا يوسف، ورآه يبكي ويتضرع إلى الله بصوت عال، ويقول : اللَهم ارفع شأني فإن عبادك قد أهانوني. فقال الزاهد: من أنت يا هذا؟ فرد عليه وأجابه : أنا القمح، لقد كان لي شأنا، والآن ها قد أهانني البشر، وأصبحت علفا للحيوانات.. ثم واصل الزاهد طريقه، حيث وجد امرأة في غاية الجمال، لا يظهر منها إلا الجزء العلوي من جسدها، والجزء الآخر مدفون في الأرض، وسمعها تناشد الله، وتقول : أُلطف بي يا الله، فإن عبادك قد استأصلوا أمعائي. فقال لها من أنت أيتها المرأة؟ فقالت له أنا الأرض، وأنا أتضرع إلى الله عز وجل، أن يلطف بي ويكف عني هذا التنقيب.. وفي الجزء الأخير من الرؤيا، وجد الزاهد شيخا هرما، جالسا تحت شجرة كبيرة، وهو في حالة بكاء ونواح، فاقترب منه وقال له: من أنت يا أيها الشيخ، ولماذا كل هذا البكاء يا هذا ؟ فرفع رأسه وقال له : أنا إبليس الأكبر... فتعجب الزاهد وقال متعجبا: ماذا ؟ إبليس الأكبر يبكي ؟ قال له : نعم يا سيدي، إنني أبكي من شدة الخوف على أبنائي .. وواصل حديثه، في زمن سابق كنت مع أبنائي لا نترك فرصة إلا أغويناكم، و نحن نجري مجرى الدم في عروقكم، ولكن جاء هذا الزمن بصنف من البشر تجاوزنا بشكل كبير، وأصبح يفعل أشياء لا نفكر حتى في فعلها، ولذلك أصبحنا نحس بالخطر، وخائف عليهم منكم، يا معشر البشر، وأنا الآن أبكي على مستقبل ذريتي .. فتعجب الزاهد وواصل الطريق حتى استفاق من منامه . هذه رؤيا صالحة، فيها أكثر من عبرة، ومعلوم أن الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له، كما جاء في الحديث الشريف، وفي حديث آخر (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ). يُذكر أن هذه الرؤيا كانت في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، والمتابع لما يجري اليوم من أعمال يستحي منها إبليس، كما قال الأستاذ "محمد الهادي الحسني" مؤخرا في إحدى مقالاته، حيث وصلت إلى أن الإنسان أصبح سلعة رخيصة، ويستطيع الكثير من أصحاب المال الحرام، أن يشتروا ذممه بكل سهولة وبدون عناء. دون أن ننسى ما يجري من أعمال شنيعة في حق الأطفال والبراءة، وفي ظاهرة الفساد بصفة عامة، حيث أصبحت الرشوة المعاملة اليومية الحلال، ومُنحت لها صفات تخفف من حدتها، وتدخلها في صفات الحلال. أما عن النفاق مهما كان نوعه وعلى رأسه النفاق السياسي، فإبليس وأحفاده سيظلون في حيرة وحياء على مدى الدهر. حقيقة، لقد أردت أن أشير إلى كل الأمور، التي جعلت إبليس الأكبر خائفا إلى حد البكاء، ولكن لم أستطع أن أحصيها ، لأنني إن ذكرتها بالتفصيل، فإنه سيتوجب عليَ أن أسردها في صفحات، وسأصبح محل اتهام بأنني أبالغ في الأمر، وأننا نعيش في كنف الإسلام الحنيف، وأننا مثال للأمم في كل ما هو جميل، فاللهم أبعد عنَا خوف وبكاء إبليس، لأنه سوف لن يكتف بالجريان في العروق، والسكن في العقول، بل سينتقم لذريته من البشرية جمعاء.