في أول اجتماع للحكومة البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية اكتفى ونستون تشرشل رئيس الوزراء بطرح سؤال واحد وكان موجها لوزير التربية من بين كل الوزراء، وقال له (هل يذهب ابناؤنا إلى المدارس؟) فكان جواب الوزير (نعم سيدي) فقام تشرشل برفع الجلسة بعد اطمئنانه على حال التعليم في بريطانيا التي كانت وقتئذ لا تزال تحت الأنقاض جراء غارات الطيران الألماني. لأن بناء الإنسان أهم من بناء الجدران، هذا البناء الذي يتم وفق معايير الوطنية التامة والتي تُستمد من هوية المجتمع الثقافية بكل مكوناتها الدينية واللغوية والتاريخية وغيرها عربية كانت أو أمازيغية. والإشارة لهذه الواقعة التاريخية يبرره الظرف الزمني الذي اختاره هذا القائد لكي يلفت انتباه جميع أفراد الطاقم الحكومي بأنه لا داعي للقلق على مستقبل بريطانيا التي خرجت من مآسي الحرب تلملم جراحها طالما أن أبواب المدارس فتحت من جديد في وجه التلاميذ باللغة الإنجليزية، علما أن الحرب العالمية الثانية لم تدم سوى ست سنوات 1939-1945، وهي لا تمثل في تاريخنا سوى مدة أقل من الحرب التحريرية والتي كانت الفصل الأخير في ثورة متواصلة منذ أن وطأت أقدام الهمجية الاستعمارية الفرنسية أرض الجزائر. إن هذا القلق والحرص على فتح أبواب المدارس لا يقتصر على ضمان توفير مصادر العلم والمعرفة للناشئة، ولكن يعكس حرصا أعمق وهو ضمان توفير الأدوات المنهجية للحفاظ على الهوية والشخصية الوطنية التي تمثل المدرسة مجالا من مجالاتها، يتحرك ضمن مشروع اجتماعي متكامل لا يتعارض مع بقية المؤسسات الأخرى كالمسجد والجامعة والثكنة العسكرية ومركز التكوين والمرافق الثقافية والفنية والرياضية والترفيهية، كالمخيمات الصيفية وغيرها، ومن ضمنها حتى مراكز إعادة التربية. فالتربية تقتضي نسبة عالية من التناغم والانسجام والتفاهم والتعاون بين كل هذه المؤسسات طالما أنه يستهدف بناء إنسان جزائري موحّد معتز بانتمائه محب لمكوناته غيور على عروبته وأمازيغيته الباديسية. ومع ذلك يمكن القول بأن المدرسة تعتبر الحاملة لراية هذا التلاحم المنشود متصدرة كل المؤسسات التي يزخر بها المجتمع، ومن هنا تكمن خطورة ما يتهددها حاليا من محاولات مشبوهة منذ وصول السيدة "نورية بن غبريط رعمون" على رأس وزارتها، فبعد الصعوبة الكبيرة التي واجهت المواطن الجزائري في "بلع" وهضم اسم هذه الوزيرة مما اضطر العديد من الجهات للدفاع عن أصولها الأندلسية، حتى يتم إبعاد النسب اليهودي عنها - وإن كان هذا التبرير لا يرفع اللبس تماما عن هذه التساؤلات - تم تجاوز هذه المرحلة واجتهد الجميع في التأقلم مع الإسم الجديد لوزيرتنا الجديدة بفضل التكرار المتواصل له عبر وسائل الإعلام حتى ألفته الآذان ثم الأفواه، ولكن هذه الوسائل الإعلامية نفسها فتحت الباب لتساؤلات أخرى حول مدى قدرة هذه السيدة العاجزة عن التلفظ بعبارات عربية سليمة وتكوين جمل مفيدة في الإشراف على تسيير هذا القطاع الحساس، وذلك أمام الذهول وعلى المباشر لبعض الإعلاميين الذي وجدوا صعوبة كبيرة في تصويب خطابها "الوزاري" أو حتى فهمه، لولا تدخل "الفغنسية" بشكل اضطراري بل وحتى إسعافي، لرفع ما تركته العبارات الوزارية على وجوه جميع المشاهدين والمشاهدات من علامات الدهشة الممزوجة بالضحك المشُوب بالحرج على النطاق الفضائي الذي تبث على مداه كل القنوات. ولم تتأخر نفس الجهات للتقليل من هذه المسألة التي لا تتجاوز في رأيهم المستوى اللغوي الذي يرونه هينا ونراه خطيرا، معتبرين أن الأهم هو الأفكار والحلول العملية التي جاءت بها السيدة الوزيرة. وتم تجاوز هذه القضية والجميع متشوقون للعبقرية الوزارية التي تمخضت فولدت "قرصا مضغوطا" اعتبرته حلا بديلا لمشكلتين جوهريتين، وهما التأخر في المسار الدراسي نتيجة الإضرابات المتتالية داخل القطاع، وتوفير "المعلم المجاني البديل" الذي لا يفكر في الإضرابات نهائيا، وإذ بنا أمام عبقرية مزدوجة تضرب عصفورين بحجر معيارها أن التكنولوجيا قادرة على تعويض الإنسان، وهو لعمري تفكير ينسجم بشكل تام مع تكوين الوزيرة التي تخبرنا عنها مراجع "الويكيبيديا" بأنها خريجة الجامعات الأوروبية والفرنسية على وجه الخصوص، والتي لا تؤمن سوى بالمحسوس العلمي التجريبي والذي لا مكان فيه للمعايير الإنسانية والمفاهيم القيمية والتراثية التي لم يتسن لها أن تتعرف عليها في مسارها الجامعي عند دراستها لعلم الاجتماع في جامعة (ديكارت – باريس5)، ثم إشرافها على العديد من المهام التغريبية الأخرى عندما انتسبت لمؤسسات اليونسكو وترأسها الغريب للجنة اليونسكو "العربية" للتعليم العالي، وهي التي لم تفكر في تعلم النطق بالعربية الفصحى إلا اضطرارا وذلك بعد استلامها للمهمة الوزارية، فحققت تحسنا ملحوظا في الآونة الأخيرة. ولكنها مع ذلك في حاجة إلى جهد إضافي لتقترب من فصاحة "علي بن محمد" الوزير الذي ذهب ضحية مشروع تقديم الإنجليزية على "السيدة" الفرنسية. وبعد الجدل الذي رافق (الأستاذ القرص المضغوط) لمسنا استعدادا كبيرا لدى الوزيرة في تقبل النقد واكتساب مهارة التسيير والوزاري، ففضلت في مشروعها الجديد الاختفاء وراء اللجان ليتحدثوا باسمها، فخرج علينا عباقرة وزارة التعليم بنظرية "غبريطية" جديدة فحواها الرفع من شأن اللغة العامية بل واعتبارها "اللغة الأم"، واقتراح تعليمها في مستهل المسار الدراسي، والتبرير هذه المرة كان "عاطفيا" يعكس النفسية الأنثوية للوزيرة، وهي الحرص على عدم "صدم" التلاميذ الجدد الوافدين على المدرسة والتفكير على عدم "خلعهم" باستعمال الكلمات العربية الفصيحة (الفضيعة)، والحفاظ على مشاعرهم لأن تقديم تعليم الفرنسية للسنوات الأولى في المقابل لا يشكل أي خطر أو "دانجي danger" طالما أن المصطلحات الفرنسية متداولة في العاميات الجزائرية بشكل كبير والفضل يعود ل(فغانسا) الاستعمارية (كثر خيرها). وكالعادة تم سحب هذا المشروع الذي صاحبته موجة من التهكم والنكت والضحك، تشعر من خلاله بأن وزيرة التربية تصلح بحسب مواهبها وليس تكوينها العلمي لتسيير وزارة جديدة يجب التفكير فيها سريعا لامتصاص الضغط الاجتماعي بعد (ميزانية 2016) هي (وزارة الترفيه والسعادة)، خاصة وهي التي ساهمت كثيرا في مؤسسات دولية تهتم بالتنمية والتعليم والشباب والمرأة والأسرة علها تبعث في هذه القطاعات بعض نسمات التفاؤل والارتياح. ولكن مع الأسف تعود وزيرتنا إلى عادتها القديمة وتعلن بكل شراسة ووعيد بأن وزارتها تفرض على المترشحين لمسابقة توظيف الأساتذة 2016 في الأطوار الدراسية الثلاثة "ابتدائي، ومتوسط وثانوي"، (إتقان) اللغة الفرنسية والتحكم في أشكال النصوص وتقنيات التعبير بها، وهو مطلب يعكس مدى جهل الوزيرة بالواقع الكارثي للفرنسية وحتى العربية في المدرسة الجزائرية، هذه الفرنسية التي تستميت في الدفاع عنها، وهو مطلب شبه مستحيل نظرا لمستوى الفرنسية المتدهور حتى في فرنسا نفسها حيث تتعالى الأصوات لإنقاذ مدرسة "جول فيري" من الموت، بالهروب إلى الإنجليزية التي فرضت نفسها بالعلم والإنترنت والتكنولوجيا، وليس باللجوء إلى طائرات الرافال و الميراج. وإلى اللقاء مع عبقريات غبريطية جديدة.